في حضرة موتي
أذكر عندما كنت أحتضر وجوهاً مشوهة تقف قبالتي هنا في باحة الاستراحة، ترقبني بعيون مترددة، تود الاستعاضة عن صمت السنين الماضية، و قول الكثير دفعة واحدة، بيد أنها لا تفصح عن شيء مبين. حاجز سميك يفصل بيننا في جلوسي بمحطة الانتظار الباردة. خدر لعين يصيب حواسي كلها مخلياً لي صوراً ضبابية، و وشوشات بعيدة و رائحة عرق مقرفة.
بين الفينة و الأخرى أرقب السماء التي لا تحمل جديداً. كنت دوماً أربط موتي بالمطر الذي شهد ولادتي حسب أمي. و لست أعترض على شمس خريفية محتشمة. إذاً فقد كان الجو محفزاً على الموت، كما أني كنت في كامل أناقتي.
صمتهم كان رهيباً يذكرني بالموت، و عبوسهم المصطنع أعادني للحياة. في برزخي بينهما تمتطيني الحيرة و تنض عني أردية الاختيار. و الاختيار بينهما كان أمراً شاقاً.
فالموت شيء مغر، لم أجربه من قبل.
و الحياة بدأت تريني فتنتها.
فرحت جداً لما خلصت أنه بإمكاني أن أقرر الآن. لم أفعل ذلك طبعاً يوم مولدي، و لو خيرت آنذاك إذن لفضلت يوماً مثل هذا حيث شمس خريفية محتشمة، و لجئت في كامل أناقتي.
فكرت قليلاً. عندما أموت هل سأصاب بنفس مصاب يوم مولدي، حيث ظللت، كما روت أمي، ممعناً في صمتي، محتجاً أنهم أتوا بي من عالمي الآخر الجميل، هناك حيث لم أقابل شراً و لا حقداً، و لم يصفعني أحد كما فعلت أمي مراراً و أبناؤها دوماً. لكني لا أعتقد أني سأبقى دون كلام. إذا اخترت علي تحمل نتائج اختياراتي كاملة.
أحس أحدهم يقصد النافذة ليغلقها بإحكام و بعصبية واضحة، كأنه يعبر عن استيائه من تأخر موظف الموت. صحيح، لا ذوق له. كيف يتركني هكذا بكامل زينتي أنتظر قدومه بينما يمعن في تأخره.
يساورني شك مخلوط بقلق أهوج من كونه في مهمة خاصة في بلاد بعيدة، و لم يجد وسيلة نقل ملائمة ليصل في موعده المحدد. الفضائيات تتحدث دوماً عن إضراب عمال النقل و ما يثيره ذلك من فوضى في أجندات الناس و مواعيدهم. أتساءل بحنق: ألا يملك معاوناً في مدينة الأحياء الصدئة التي أنتمي إليها
ليقوم بعمله أثناء انشغاله مع زبون آخر، أو في مضاجعة زوجته، أو في إضرابه عن العمل؟
مهما يكن الأمر، فقد أغلق أحدهم النافذة بإحكام و بعصبية، و ما عليه حين حضوره إلا أن يقصد الباب و يقرع جرسه بكل أدب.
سرب من الطيور المهاجرة يشد عنايتي و ناظريّ إلى السماء. تلك الطيور اختارت الرحيل أيضاً. فكرت، لو أننا نملك خيار الرحيل الجماعي مثلها إذن لفقد الموت بهجته و جديته.
أحد المشيعين الغاضبين، و لا أعرف صلتي أو درجة قرابتي به، يعبر هو أيضاً عن رفضه لهذا الصمت. يشير لهم دون أن يقول كلمة بأن يضعوا شريطاً لترانيم مقدسة أو لأي شيء آخر مقدس. قدّر أن موظف الموت تائه في حينا المزدحم، و كأنه بذلك يريد أن يمنحه إشارة تدله على البيت المقصود، عله ـ أو أحد أعوانه العاطلين ـ يأتي على عجل، ليخلص الجميع من هذا الانتظار الذي بدأ يفقد الموت سحره.
يسبني في سره، و تلعنني نظراته لما اكتشف أني لا أملك شرائط مما يريد في خزانتي الصوتية. أخجل فعلاً أن غبياً مثل هذا ـ و لا أعرف صلتي أو درجة قرابتي به ـ أتى ليشيعني، و خجلت أكثر أنه نزع القداسة عن ليليات شوبان، و موت بتروشكا سترافنسكي، و آهات الست، و كل فاطنة بنت الحسين*.
إزميل سؤال رجني و جعلني أشكك في كل شيء: ماذا لو أتى القطار فعلاً و صعدته لأكتشف بعد حين أني على الرحلة الخطأ؟ جمعت حقائب عزمي إن حدث أمر مثل ذلك أن أطالب باستعادة حق التذكرة بعد اعتذار رسمي من المدير شخصياً.
من هنا، أستطيع أن ألمح وجهه، و أخمن أنه الوفي الوحيد الذي يتمنى لي رحلة هانئة ممتعة. أعلم ذلك! و أعلم أنه يملك من الحجج و الوثائق ما يجعله يضغط على ورثتي الأعزاء، ليحصل منهم على ما لم تسعفني الأيام بدفعه له. إرثي ثقيل و وازن. سيقتسمون كل ذلك بالشرع و العرف و القانون، و في الأخير سيكون كل شيء على ما يرام. هو سيتوصل بمستحقاته، و هم لن يخسروا من رواتبهم الهزيلة إلا القليل، بحجم الربع فقط حسب معتوه حديث العهد بالموت، و رياضي سيء مثلي.
عندما كنت صغيراً ضربتني أمي بقسوة حين بلغتها شكوى معلمي، يخبرها بتقاعسي في دروسي. صورتي و أنا أبكي لا تزال عالقة بذاكرتي الشحيحة. تزحف واطئة رائحة بخور قوية. لا شك أن صاحب فكرة إشعال البخور يمقتني. كلهم يعلمون أني لا أطيقها. ربما نسوا الأمر في خضم غضبهم على موظف الموت، أو أنهم يرسلون له دعوة عاجلة أخرى، أو ... أضحك فعلاً. لمَ لا؟ ربما فعلت شيئاً تحتي.
أتساءل خائفاً: هل ستضربني أمي هذه المرة أيضاً؟
لا أشم إلا رائحة البخور المقيتة، ربما فعلها أحدهم و ألقى بكل شيء علي. هكذا هم الأحياء، أنذال ملاعين. لو استطاع أحدهم سماع صوتي الآن لطلبت منه سيجارة. لكني أخشى أن يراني معلمي الجديد. لمن سيشكي سوء سلوكي، لأمي و هي في العالم الآخر أم لمديره الأكبر؟
إذا فعل سأرد له صفعته بأحسن منها. و أشكو تأخره و تماطله، ربما مر إلى إحدى الحانات، أو اغتصب طفلة في قبو مدينة مهجورة.
يصلني عطر زوجتي الرخيص. هي أيضاً هنا. تعطرت كعادتها و أكاد أجزم أن وجهها يرتدي اليوم بهاء الأرامل. لا شك أنها ستكون أرملة جميلة. هي تشبه أمي حد التطابق ـ كانت تضربني أيضاً ـ كانتا صديقتين جداً قبل زواجنا، خشيتا العنوسة فركبتا قطار أول عابريِِِِْن، و أقيما لنا عرس واحد.
تزوجت أمي بأبي، و هي بي، و كانت ليلة.
أكاد أصاب بالغثيان كلما تذكرت تلك الليلة. أفضل ممارسة العادة السرية على جماعها، كما أرى أن رائحة البخور المقرفة أرحم على حواسي المحتضرة من عطرها الرخيص.
أستطيع الآن أن أقدر الفرق بينها و بين ماري. لا فرق بينهما البتة.
ماري قطعة من حلم عشتها و عاشتني، و هذه... آه لو تستطيع أن تبعد قليلاً !
أحببتها صغيراً. كنت أشعرها نسيماً يهدهد قلبي. اختفت ماري فجأة. قالوا أنها ماتت بحادثة. لم يضيفوا تفاصيل أكثر، ربما لصغر سني. كنت راشداً في الحب و قاصراً في أعينهم. لم تنتظر ماري موظف الموت كما أفعل أنا. خمنت طويلاً في الحادثة التي تسببت في موتها. توقعت أن شيئاً ما دهسها، ذُبابة مثلاً.
كوة بعيدة تعفو عن ضوء شارد. طيف يقصدني بخطوات وئيدة. ربما أنا الآن أمام موظف الموت ـ أو أحد أعوانه العاطلين ـ أحبس أنفاسي، و أستعد. أحاول أن أغني. تفر الكلمات و الألحان. يشط بي
انفعالي إلى الظن أنه قد يسألني: ما آخر رغبة لك في الدنيا؟ أقرر أن أجيبه بأن أحضر المباراة النهائية لكأس العالم في كرة القدم لسنة 20000028. أخمن أننا قد نفوز بها إذا تغيرت مقاييس الكرة الأرضية. من يدري؟
يدنو الطيف مني، جالباً الضوء معه. يقف قبالتي. تنحسر ملامحه أمامي. أصاب بالدهشة. أحس نسيماً يهدهد قلبي. أيعقل أن تكون هي؟
ماري أتت بنفسها لاستقبالي. لا تزال تحتفظ بسحر بسمتها. مدت يدها لي، أمسكتها بحنو، لا أريد مفارقتها. تأخذني معها و الضوء يرقص حولنا، معنا.
أمسك يدها بحنو، لا أريد مفارقتها. تغزوني رائحة عطر رخيص، و عرق مقرف أعرف صاحبته. أفتح عينيّ. رأيت الخيبة تعتلي وجوهنا كلنا. كانوا ينظرون إليّ كما أخطر في وجوههم البلهاء. أبحث عن وجه ماري التي لم تكن هناك.
كانت زوجتي. أصطدم بوجهها العابس تقول بحنق:
– من كانت تلك التي كنت تهذي باسمها؟
أردت أن أقول: قاتلتي. لكني عدت لأغمض عينيّ علّ موظف الموت ـ أو أحد أعوانه العاطلين ـ يعيدني إلى الحياة.
فاطنة بنت الحسين*: مطربة شعبية مغربية.