الخميس ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٧
بين الخطيئة والتطهير
بقلم الكبير الداديسي

في رواية (عذراء وولي وساحر)

نواصل هذه السلسلة التي خصصناها للنبش في أزمة الجنس من خلال الرواية النسائية المعاصرة في العالم العربي، وبعد دراسات في روايات من مختلف الدول العربية بالمشرق أو المغرب العربيين، نحط الرحال اليوم بالإمارات العربية المتحدة التي تعد من أكثر الدول العربية فتوة في تاريخ الرواية العربية، إذ تأخر التحاقها بركب التأليف الروائي ما يزيد عن القرن من الزمن على ظهور التجارب الروائية الأولى، وبما يربو على نصف قرن على جارتها الغربية (المملكة العربية السعودية) التي دخلت نادي الكتابة الروائية في خمسينيات القرن العشرين برواية (ودعت آمالي ) لسميرة محمد خاشقجي الصادرة سنة 1958، وبحوالي عقدين من الزمن على دولة جارة مثل الكويت التي دشنت تاريخ روايتها برواية (وجوه في الزحام الفطمة العلي 1971) فلم تسجل الإمارات أسمها في ذلك التاريخ إلا مع نهاية القرن الماضي، و لكن ما يميز الرواية في هذا القطر العربي كونها نسائية النشأة، إذا كانت الأنامل الناعمة أول من أسالت المداد على صفحات سجل الرواية الإماراتية، وكانت رواية (شجن بنت القدر الحزين) للروائية حصة الكعبي الشهيرة بسارة الجروان الكعبي الصادرة سنة 1992 أول ما كتب روائيا بالإمارات.

قبل أن تنتصب الرواية الإماراتية واقفة تسير بتبات جنبا إلى جنب مع الرواية النسائية العربية عامة، وخاصة جاراتها الفتية النشأة...

وعلى الرغم من حداثة الرواية النسائية بالإمارات العربية المتحدة فقد استطاعت (سارة الجروان الكعبي) أن تفرض نفسها روائية عربية بتراكم روائي يضم بالإضافة إلى باكورتها (شجن بنت القدر الحزين) أعمالا سردية أهمها المجموعة القصصية (أيقونة الحلم) الحائزة على جائزة أفضل تأليف إماراتي سنة 2003، و رواية (رسائل إلى مولانا السلطان) إضافة إلى رواية (طروس إلى مولانا السلطان) وكان آخر ما كتبت رواية (عذراء وولي وساحر) الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون 2011 والفائزة بجائزة العويس سنة 2012...

ورواية (عذراء وولي وساحر) رواية غرائبية يمتزج فيها المقدس بالمدنس، السحر بالعلم، والدين بالجنس والزهد بالخطيئة... تتخطى حدود الواقع لتسبح بالقارئ في عوالم عجائبية يبنيها الخيال، حيث الروح تسبح في نواميس لا يمكن للعقل أن يُـسيِّـجـها وهي بذلك تعد من الروايات النسائية القليلة بالعالم العربي في هذا الشأن...

تُفتتح الرواية حيث البطل الوليّ الصالح المعالج (مولاي شكر) يعاقب نفسه بكسب الماء الساخن على جسمه، في بحثٍ متواصل عن تكفير عن ذنب اقترفه يوما ما، وتطهيرٍ للذات من الدنس، ليتراجع السرد القهقرى وتعود بنا الأحداث إلى حيث كان البطل طفلا غرا صغيرا (وكان اسمه آنذاك عمر) يتعلم على يدي شيخ علامة يدعى (خادم عز الجلال) يشب الطفل ويترعرع وقد شرب أصول العلم والتصوف من أستاذه الذي اختطفته أيادي المنون فاضطر الشاب إلى أن يهيم على وجهه لتقوده الظروف لمعاجلة الأميرة (تناهيد) التي أنقدها من موت محقق بعد أن لدغتها أفعى سامة... ويصبح طبيبها ومرافقها ومستشار والدها، تنشأ بينهما علاقة حب جارف كادت تنتهي بالزواج لو لم يعكر صفوها، دخول الساحر شلعم على الخط، ويكون قدوم هذا العامل المعارض – المصر على الانتقام لشرف الرجل الذي رباه ويعتقده والده- سببا في كشف عدد من الحقائق تتعلق بهويته كشاب يشعر بأنه ابن خطيئة يملؤه حب الانتقام لجده بالفراش التاجر علوان ممن كان سبب مأساته خاصة جده الوالي حسان الذي استدرجته مليكة زوجة التاجر عدوان إلى علاقة جنسية ترتب عنها اشتعال نار الانتقام في صدر التاجر عدوان أحرقت كل ما كان لحسان بما فيه أبناءه العشرين وقصره ونساءه وطرده بعيدا دون أن ينطفئ لظاها...

نجح شلعم في تقويض علاقة مولانا شكر بالأميرة تناهيد بعد أن تمكن بسحره من دس امرأة في فراشه وأوهم السلطان والأميرة بخيانة مولانا شكر ودفعهم إلى تطبيق حكم الإعدام في حقه، لكن مولانا شكر بسحره وعلمه تمكن من تخليص نفسه من حبل المشنقة في آخر الأنفاس، ليختلي للعبادة في أحد الحبال، وتنتهي الرواية بزواج الحبيبين واحتراق الساحر الشرير شلعم و تخليص الناس من شروره، ليتخلص مولانا شكر للعبادة وخدمة الناس ويصيبه هازم الذات ويغادر الدار الفانية نحو دار الخلد تاركا زوجته الأميرة تناهيد حاملا بولد سيكون صورة طبق أصل لأبيه اختير له اسم عمر...

الرواية كما يبدو من أحداثها حبلى بالحكايات الفرعية وهي وإن تفردت بغرائبية أحداثها، تبقى مثل معظم الروايات النسائية متمحورة حول تيمات الجنس و الخيانة، تعكس بجلاء عمق أزمة الجنس في الرواية النسائية، لكن سارة الجروان غلفت تلك الأزمة بغلاف صوفي يتماشى والغرائبية التي اختارتها قالبا لروايتها، من خلال ربط الجنس بالخطيئة والتكفير عن الخطيئة، هكذا قدمت الرواية المرأة قوة محركة للأحداث لما تتميز به من قدرة على الغواية، فكما كانت غواية مليكة لحسان في الماضي سببا في تفجير سيل من الأحداث القائمة على الانتقام والقتل والإبعاد... تعد غواية تناهيد في الحاضر مصدر توالد أحداث يمتزج فيها الحب بالانتقام داخل منظومة قيم الخير والشر، لتجعل الرواية من أزمة الجنس بؤرة الأحداث في لج حياة الزهاد والحكماء ذلك أن معظم الشيوخ والحكماء في الرواية كانت الخطيئة سببا في زهدهم، ولم يكن الزهد سوى بحثا عن التكفير عن الخطيئة، ومحاولة لإشباع الروح، ليحوّل اليأس من الحب الواقعي إلى عشق متناه للذات الإلهية وهروبا من الجنس إلى الحب الطاهر الخالص، فالرواية تنتهي وقد فضل الشيخ عمر اتـِّـباع حياة الزهد وسلك طريق نهل العلم والحكمة على البقاء مع زوجته التي لم يعاشرها سوى سبعة أيام، يجري وراء حب الذات الإلهية تاركا زوجته رغم حبه الشديد لها ويختار الموت بعيدا عنها دون علمه بحملها لا يهمه من الدنيا مال ولا بنون.

وحتى إن غلفت الرواية بغلاف صوفي واختارت لمعظم أبطالها مسار الزهد في الشهوة والمتعة واللذة وتغليب الروح على الجسد فالرواية تنضح بالجنس والاحتفال بالجسد فقد افتتحت بمشهد أروسي للجسد (الجسد عار في حمام) لكن النزعة الصوفية للرواية اتجهت نحو الانتقام من هذا الجسد بصهره بالماء الساخن: (في حمام فخاري افترش أرضيته الرطبة تتقاطر حبات الماء على جسده المتقوقع فتخز مساماته كوخز النحل، يئن مزدردا صمته.. يرفع يده بالكوز للمرة العاشرة لينصب على جسده المتجمد فيصهره.) هذا الجلد المتكرر للذات ناتج عن شهوانية الجسد وعقابا له على انغماسه في اللذة، فالبطل يصهر جسده وهو يتذكر كيف غواه جسد المرأة وعجز عن كبح جماح شهوته: (مزق ثوبها الأبيض من منحرها حتى أسفل قدميها ورمى به حيث رمى بطرحتها،رأى هرميها الشامخين فسرت القشعريرة ذاتها إلى جسده فأتلفته، أخرج نفسا طويلا لفظ على إثره تالية أنفاسه، ارتفعت يده ثقيلة استقرت على أحدهما اقترب بوجهه بين سلسلتيهما، أنفاسه الملتهبة استعرت فوق فوهة أحدهم ارتجفت شفتاه وهو يهم بالاقتراب من الفوهة القرمزية وانسل لسانه مخاتلا مرتبكا متعثرا بشهقاته ليس تقر في إنبعاثها، أصدر فحيحا استلب لبه فنكص اللسان في نفس طويل مثعثرا بخدره.) هذا الجموح الشهواني لم يعر أي اهتمام لوضعية المرأة كمريضة مغمى عليها، فرغم غيابها عن الوعي لم ينظر لها المعالج الصوفي إلا كجسد ينبغي اقتناص ثماره اليانعة:

(تسللت يده إلى سرتها اقترب بوجهه منها انحنى على بطنها بنصف وجهه فركه بسرتها ثم سقط لسانه على جلدتها الرقيقة ديباجية الملمس، فراح يعب أنفاس ه من مسامات ريحها ونزل بلسانه إلى أدنى سرتها، طوعت له يداه ورغبتيه بسحب غطاء الثياب التي تستر خبيئة فخذيها، سحبها سحبا رقيقا لم ينبري من خلاله العرش خاصتها) ذلك أن جسد المرأة غواية، سالب للعقل، الرجل أمامه ضعيف مهما كان تدينه وورعه فما أن رأى الشيخ عمر تناهيد ممدة أمامه حتى (سلبته قلبه ومهجته وطهارة سريرته برغبة جامحة لم يقو على مقاومتها ولم يفطن لفداحة جرمه إلا بعد أن اندكت الأرض بين يديه وغيض الماء واستوى على براكين الخطيئة.) هذه الخطيئة اللحظية المحدودة في الزمـان والمكان ستكون لها امتدادتفي الحياة لتترك فعلها في الأبناء يقول موصل لجده الولي حسان بحرقة: (أنا بذرة دنسة.. دنسة أنا حصيلة خطيئة.. خطيئتك.. خطيئتك أيها الشيخ الأواب)

لكن رغم اعتبار الجنس خطيئة، كان هذا الجنس السبب في إعادة تناهيد إلى وعيها، واستعادتها لعافيتها ولنتأمل هذا المقطع الجنسي كيف كان تأثيره على الأميرة المريضة وكيف جعلها تتعلق بالشيخ عمر باعتباره مخلصها بعلاج(الحب/الجنس) الذي لم يقو أي معالج على تقديمه لها: (استوى جالسا بين قدميها وبحنو باعد بينهما بيديه، انحنى ثانية من مكانه الأثير وقد آثر بألا يفض غطاءه سقط بوجهه كله أعلاه، راح يمطره بقبلات تتفجر من فيه كقبلات ذرية لا يكتوى بنيرانها سواه، بينما لسانه قد بلل الغطاء الذي يشيء بترجمانه، شعر بنيران تتدفق من أسفل البركان الأعظم فارتفع يئن يئن يئن.. تطوح رأسه فوق وجهها واقترب من شفتيها أكب بفحولته، وقذفها قبلة طويلة زفرها في جوفها قبلة حياة، فشهقت، فتحت عينيها، بنظرات الحياة المتقدة والمنبعثة من الموت، رفعت يديها إلى محط عنقه، طوقته بهما فاعتنقته مذهبا لا رجعة فيه.) وهو مقطع يجعل من الجنس علاجا ومخلصا.

وبما أن الرواية في عمومها تتجه إلى اعتبار الجنس خطيئة كان يفترض نكوص الشيخ وتراجعه عما كان يفعله، كما كان يفترض صدور رد فعل عنيف من تناهيد وقد استعادت وعيها على رجل يضاجعها، وكان ممكنا أن يغرق كل منها في حالة من تأنيب الذات والاستغفار والبحث عن طريقة لدرء الخطيئة أو التكفير عنها... لكن شيئا من ذلك لم يحدث، إذ استمر المشهد الجنسي كأن شيئا لن يحدث: (والتحما معا في عناق حميم حتى غاب اللحم في العظم وذاب العظم في الحلم احتضنها في صدره، أظافرها غاصت في ظهره، وغاص في عذوبة أناتها، تسمرا على هذه الهيئة لحقبة من الزمان) هكذا يتحول الجنس، في لحظات المتعة، من خطيئة إلى أكسير حياة، ومن رذيلة إلى ماء للديمومة يسقي كل طرف منه شريكه في علاقة حميمية تجعلهما يسبحان في ملكوت النشوة ويكون الجنس لحظتها وسيلة للتسامي والارتقاء. وليكتمل مشهد التعالي فضلت الكاتبة أن تعيد تناهيد إلى غيبوبتها بفعل مقصود من الشيخ عمر وسحره، هكذا يتداخل السحر بالغواية، فإذا كانت المرأة غاوية فالبطل ساحر يوظف السحر لبلوغه النشوة... فشترك المرأة بغوايتها، والرجل بسحره في الخطيئة... فما أن استعادت تناهيد وعيها حتى أعادها الشيخ عمر إلى الغيبوبة: (دنا من شفتيها ألقمهما شفتيه واجتر أنفاسها نفخا فالروح محياها تناهيده ومجراها ومرساها، بعنوة سحب شفتيه منها ونفثها ريحا أعادها فيه إلى واقعة الغيبوبة المؤقتة فترنح رأسا بين يديه وبحنان وعاطفة لا تستكين عدا لهذه المخلوقة المسجاة أمامه حواءه المخلدة في آدميته بنفخة واحدة طير عنها أسمالها التي جاءت متنكرة بها وهوى بثقل حبه على جسدها يهبها أكسير حياة وتهبه ماء الديمومة فاستطارت كل خبايا أوردته وتدفقت الدماء متصاعدة في فحولته المتشكلة في ميسمه الذكوري حتى استطالت بحجم رغبته التي لطالما أفلح في خفض حدتها ولكن هيهات فما وعى بنفسه إلا وقد اخترقها في لحظات غاب هو الآخر فيها عن الوعي والإدراك فلاكها بكل بادرة حياة وعرق نابض ارتفع عاليا وعاليا ثم انحدر بعنفوان عشقها وتلفه، غاص في خلجات اشتهاءاتها ارتفع وخفض، ارتفع وخفض، ارتفع وخفض، فخاض غمار انفعالات ما طعم لها مثيلا وما سيطعم يوما، فخفض وارتفع، ارتفع وخفض، متصلبا على شعور ألقمه حلاوة الحياة برمتها وسلبه عفة الشيخ وطهارته.)

الجنس إذن في الرواية غاية الغايات ونهاية الامتدادات، يحقق كل هذه النشوة والحلاوة ويسلب الشيوخ والصالحين عفتهم وطهارتهم، ويزيل عن المحصنات حصانتهن، وما كان هذا تأثيره فمباح أن تسخر له الجن، وأن يفضل على السلطان والمال والجاه، فرغم كون عمر قد ورث رقع عمه شاكيل التي تؤهله لتسخير الجن وامتلاك مختصر الحكمة وما يمكنه السطرة به على الإنس والجن... فعمر لم يخطر بباله تسخير شيء من ذلك الإرث في الحصول على المال أو السلطان... وإنما اقتصر من كل ما تحت سلطان جنوده على ما يمكنه من الظفر بحب تناهيد وإبعاد غريمه شلعم عنها. ولتوضيح ما كان تحت أمرته نستمع لوصية عمه وشيخه شاكيل وهو يقول له: (في هذه الرقع عهدت إليك بعلم وجنود وأتباع يخدمونك ولا يعصون لك أمرا، إن بإمكانهم بسط الأرض بكنوزها وأنهارها، وكل خيراتها وتطويعها بين يديك لحظة تشاء... هم كرامات الأولياء وجندهم المسخرون.. فمرهم يطيعون، وقد جعلت لك الوصاية عليهم من بعدي.. هم قوم يا عمر لا يوجهونك بل أنت سيدهم توجههم حيث شئت إن أردتهم في خير تفانوا وإن استعملتهم في شر عتوا وعاثوا فسادا في الأرض.. وصاروا نكالا واستدراجا لموهوبهم... فمختصر الحكمة تقبع في سيدهم وكبيرهم.. إن حسن حسنوا وإن خبث خبثوا.)، وإن التوجه الصوفي يجعل الزهد في الحياة، والترفع عن كنوز الأرض وأنهارها وكل خيراتها... أمرا عاديا لدى شيخ وهب نفسه للحكمة والعلم، لكن ما ليس عاديا هو نسيان تلك الوصية والرقع وعدم تذكرها، وعدم استعمالها إلا في اللحظة التي شعر فيها عمر بحتمية ضياع حبيبته من بين يديه،فقد (كان بمقدور عمر معرفة كل ما يدور في أنحاء الأرض بواسطة الكرامات التي أوتيت له، ولكنه أقسم على أن لا يستعين بها إلا لأجل أمر جلل...) وهذا الأمر الجلل مرتبط طبعا بالجنس وبـحب تناهيد ذلك أن عمر (مولاي شكر) لا يهمه إلا (شيء واحد فحسب ألا وهو تناهيد وكل ما دون ذلك يهون فلا يساوي لديه جناح بعوضة.)

إن الرواية بكل ذلك تقدم عالما يتداخل فيه الجنس بالغرائبية /العجائبية، عالم محكوم بقوانين إشباع الغرائز في رحلة حياة البطل من الولادة إلى الممات وما تعج به من تناقضات مهما تعددت تجلياتها تبقى ضمن قطبي الثنائية السرمدية التي فرضت نفسها في الأعمال السردية (ثنائية الخير/ الشر) وعلاقتها بوجود الإنسان كمادة وروح: المادة مرتبطة بالشهوات والغرائز والجنس جزء منها، والروح التواقة للكمال والحقيقة المطلقة والوصل بالذات الإلهية...

إن رواية (عذراء وولي وساحر) اختارت إضاءة بعض عتمات الحياة الجنسية لفئة تحوم حولها هالة من التقديس؛ حياة مغلفة بالصمت، و يشوبها الغموض، يتعلق الأمر بالحياة الجنسية ل(الأولياء الصالحين) الذين ينظر إليهم المجتمع بعيون التبجيل والتعظيم باعتبارهم حملة كتاب الله، و لما يتوفرن عليه من كرامات... لكن الرواية أبت ألا كشف القناع عن هذه الفئة وإظهارها كأناس عاديين كل همهم إشباع غرائزهم، ما أن تخطر المرأة أمامهم حتى يخلعون عنهم قناع (الولي الصالح) ويتحولون سحرة مشعوذين، وقد رأينا كيف تصرف الشيخ عمر مع جسد تناهيد وقد جاءته مريضة متنكرة... حتى إذا فطنوا إلى وقوعهم في الخطيئة اختار حياة النسك والزهد والتصوف...

أن التركيز على تلك الفئة وألاعيبها جعل من الرواية أكثر ارتباطا بالواقع رغم فنتازية شخوصها، وغرائبية أحداثها، ولعل ذلك ما يجعلنا نجد في هذه الرواية ما لم نجده في معظم ما هو منشور من الرواية النسائية العربية... ففيها تتساوى كرامات الأولياء وسحر المشعوذين في التعامل مع المرأة: فعمر الولي الصالح استعمل سحر لمضاجعة تناهيد كما استعمل سحره في التخلص ممن بدا له أنه سيحرمه منها، وأن كل ما تعلمه عمر الذي يصبح في ما بعد «مولاي شَكَر»، على يد شيخٍ معروف بالزهد والانقطاع يتهاوى عندما ابتلي بحب الأميرة «تناهيد»، فجعله يقع في الخطيئة عن وعي، ويقف عاجزا عن منع نفسه منها، بل وجدناه يخطط لإشباع غرائز الجسد...

يتضح إذن من خلال الرواية أن المرء لا مفر له من الجنس، وأن الجنس المأزوم يصبح خطيئة، وأن هذه الخطيئة ضرورية في حياة الإنسان، على الأقل لأنها هي ما يكشف للإنسان حقيقته، ما دامت ليست سوى ابتلاء ووسيلة تدفع الأخيار إلى البحث عن التطهير والتطهر، لذلك انقطع الشيخان (الشيخ سيدي خادم عز الجلال و الشيخ مولانا شكر) للعبادة بالجبل وزهدا في شهوات البطن والجنس بعد خطيئتهما وخيانتها للأمانة والصداقة.... ويستغل الأشرار الخطيئة للانتقام إذ استغلها (عدوان) للتنكيل بزوجته مليكة التي سجنها في قبو ومارس عيها صنوفا من العذاب فقأ عينيها وشوه وجهها الجميل وادعى أمام الناس أنها خادمة تعرضت للحرق أثناء الخدمة حول النار.. لم يكن مسموحا لأحد من الإقتراب منها البتة. وظل طيلة حياته يطارد الوالي حسان فسمم أبناءه العشرين، وحتم عليه التخلي عن نسائه الأربع وقصوره وممتلكاته، وقتل ابنه الناتج عن تلك الخطيئة أمام عينيه... وأغل صدر حفيده بالفراش (موصل) للانتقام من جده البيويولوجي ومن كل من يمت له بصلة فظلت الخطيئة تلاحق عمر تلميذ حسان وكل مريديه وكانت سببا في مآساة العم شاكيل وزوجته الذين حولهما موصل (شلعم) إلى كلبين، وفي كل ذلك كانت خطيئة الجنس كبرى الخطايا... وكان الجنس المحك الأقوى والسيف الذي وضعه شلعم على رقبة العم شاكيل عندما تمكن منه وخيره بين أمرين أحلاهنا أمر من الآخر قائلا له: (فأنت مخير بين أمرين اثنين إما أن أواقع زوجتك متى شئت.. متى شئت.. أسمعت أما الخيار الآخر وهو أن تنهي حياة شيخ الجبل.. فماذا تختار؟).... لتكون خطيئة الجنس معادلة لخطيئة القتل، (ومن قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا)... أي خطيئة هذه التي تتناسل منها كل هذه المآسي سوى خطيئة الجنس المدنس..

أزمة الجنس إذن في رواية (عذراء وولي وساحر) خلخلت القيم، الأحداث، الشخصيات، الزمان والمكان، السرد وكل القوى الفاعلة في الرواية... فالجنس جعل الصديق يخون صديقه، وجعل الغني يفقد ثروته وأبناءه، والزوج يشوه وجه زوجته ويتفنن في تعذيبها... كما أن الجنس هو من طوح بالشخصيات في أتون الأمكنة الموظفة في الرواية فالجنس هو الذي طوح بالوالي حسان في الجبال بعيدا عن قصره، واقتاد عمر وشلعم إلى قصر والد تناهيد، وهو الذي رمى مليكة في الدهاليز، والولي شكر في الجبل ثم في البقيع وفي الأخير هو الذي أحرق شلعم وجعله رمادا...

الجنس يساهم في تشابك الأحداث ويؤثر على كل خصائص الروائية من شخصيات، زمان، مكان،سرد، وصف، ولغة... لتقدم للقارئ رواية تحكى بواسطة سارد متحكم في خيوط اللعبة السردية يعرف أكثر مما تعرف الشخوص عن نفسها، يرصد كل حركاتها وأنفاسها في السر والعلن، ويتسلل لغرف النوم ليصف ما يقع في الخفاء يعلم ماضي شخصياته وحاضرها ويرسم لها مستقبلها بحسب ما يخدم تصوره لتطور السرد الذي كسرت الإرجاعيات (Flash back) خطيته، دون أن يمنعه ذلك من إتاحة الفرصة للشخصيات للتعبير عن مواقفها وميولاتها في مقاطع حوارية خارجية تدور في ما بينها، أو داخلية تبوح فيها الشخصيات بما يختلج صدرها وما يجول في خاطرها فتكلم ذاتها عن الجنس تأنيبا، اعترافا، أو تكفيرا عن خطيئة...

إن امتزاج الديني، الجنسي بالعجائبي في هذه الرواية يجعلها تتناص مع الكثير من النصوص العجائبية التي تتميز باختفاء، طيران وتحول الأبطال وانتقالهم في الزمان والمكان وامتلاكهم لقدرات وطاقات خارقة أقرب إلى المعجزة... كما تتناص مع إحالات متعددة في القصص الدينية الواردة في الكتب المقدسة خاصة قصص الأنبياء في القرآن الكريم ومن ذلك:

قصة آدم الغواية والخروج من الجنة: فكما تدخل الشيطان بين آدم وحواء وكانت الغواية سببا في عذاب آدم وذريته بعد طرده من الجنة كان الشيطان سببا في غواية مليكة للوالي حسان وإخراجه من جنته الخاصة من وسط أولاده ونسائه وقصوره، دون أن ينفعه استغفاره وصلاته فما أن انكشف سوء فعلته حتى شعر بالذنب و (اختفى في مخدعه يستغفر ويصلي عل ربه يغفر له خطيئته.. ) لكن الخطيئة ظلت تلاحقه طيلة حياته (قتل أولاده العشرين) وقتل ابنه من الخطيئة أمام عينيه شر قتلة وملاحقة الخطيئة كل مقرب منه (العم شاكيل وزوجته) ومريده وتلميذه مولاي شكر كما لاحقت خطيئة أدم أبناءه عبر تاريخ الإنسانية...

قصة موسى ومعجزة السحر: لا يذكر السحر والسحرة إلا وتخطر على البال قصة نبي الله موسى، وسعي السحرة إلى مواجهته والتغلب عليه وتقويض ما يدعيه... وتبدو الإحالة على القصة انطلاقا من العنوان (ولي وساحر) كطرفي نقيض الولي يمثل القطب الموجب والساحر يمثل القطب السالب مثلما كان النبي موسى إيجابيا والسحرة سالبون. وإن كان مصدر سحر (الولي والساحر) في الرواية واحد، ذلك أن الوالي حسان هو من علم كلا من عمر وشلعم السحر فقد لزمه عمر مدة طويلة فيما كان شهران كافيين ليعلم حفيده شلعم حيلا كثيرة منها الاختفاء والطيران في الهواء.. وكانت نتيجة هذا التعلم السريع أنه لم يوظف ما تعلم إلا في الشر منها تحويل شاب وزوجته إلى كلب وكلبة بعد أن رقض الشاب خيانة معلمه حسان.. مقابل ذلك لم يحتج عمر (مولاي شكر) السحر إلا لتخليص نفسه من الإعدام والموت المحقق عندما (أحدث جلبة عظيمة أثارت زوبعة من الرياح والأغبرة والأدخنة واختفى)، وعندما تصدى لهجوم شلعم وأحرقه...

و في المتن المحكي يشكل إذن السحر - كمؤشر دال على الشر- عنصرا هاما في الرواية، ويحاول كل طرف التبرؤ منها ونسبته لغريمه، فبعد توريط الولي مولانا شكر متلبسا بالخطيئة حاول شعلم(وهو ساحر) وصفه بالساحر يقول للأميرة تناهيد (صدقيني يا مولاتي صدقيني لعل الذنب ليس ذنبه إنه يتحدر من سلالة سحرة لقد تربى على ذلك منذ نعومة أظافره... إن الساحر يا مولاتي من شروط إدراجه في قائمة السحرة أن يشرك بالله ويكون من تبعة الشيطان فلا تلوميننه يا مولاتي واحمدي ربك أن كشف لك حقيقته الزائفة..) وقد اختارت الكاتبة نهاية مأساوية لمن يوظف السحر في التفريق بين الناس، وبث الحقد والبغض والكراهية بينهم، فكان انتصار الحب على السحر بزواج مولاي شكر من تناهيد واحتراق الساحر بمباركة من المشيئة الربانية يقول مولاي شكر وهو يفسر لعائلة تناهيد النار الملتهبة التي عمت الفضاء (في واقع الأمر جاء الساحر موصل ليتخلص مني ولكن شاءت مشيئته تعالى بأن يحترق وينتهي به الحال إلى رماد.)

قصة مريم العذراء: تتبدى الإحالة على (العذراء) منذ أول كلمة في العنوان(عذراء وولي وساحر) وما أن يلج القارئ صفحات الرواية حتى تطالعه صورة تناهيد (المقصودة بالعذراء في النص) رمزا للطهارة والشرف يقول فيها زوجها (فالأميرة يا مولاي الشيخ أنا أعرفها لا تأت الخطيئة.. إنها امرأة طاهرة ونقية.)، رغم زواجها ظلت عذراء تحرس عذريتها قوى خفية يضيف الشاب الذي تزوجها (الحقيقة يا مولاي زوجتي وعروسي الأميرة تناهيد بقيت عذراء طوال فترة ارتباطنا برغم مبادلتها لي الرغبة في بادئ كل ملاطفة تستثار بيننا بيد أنها سرعان ما تدخل في حالة من البكاء فتتحول على إثرها إلى لبؤة شرسة تأبى أن تستكين فتمكنني منها على الإطلاق.. وبرغم أني كثيرا ما استخدمت معها العنف إلا أن ثمة قوى خارقة تحول دون فض بكارتها...) ويؤكد زوجها حملها وهي العذراء الطاهرة وتأكيد تناهيد أن حملها تم دون أن يعاشرها رجل (عندما واجهتها بحقيقة عذريتها أنكرت بشدة وبكت وأقسمت ألف قسم على المصحف بأنها لم تعاشر سواي..) لتكون تناهيد مثل العذراء قد وقعت حاملا دون أن تعرف سبب حملها....

قصة المسيح ومعجزة/ كرامات إشفاء المرضى: إذا كان المسيح عليه السلام قد أوتي معجزة إحياء الموتى وشفاء حالات مرضية ميئوس من شفائها فقد تميز بعض أبطال رواية (عذراء وولي وساحر) بكرامات خارقة، ففي قصة شفاء تناهيد على يد مولاي شكر، تناص مع شفاء عدد من الحالات الميئوس منها على يد المسيح وتفوقه على كل من كان في عصره فقد تمكن عمر من إعادة تناهيد إلى الحياة بعد أن لدغتها أفعى. يقول أحد الحراس للسلطان (ثق بعلاج هذا الفتى... لقد قام بعمل ما كنت أنا ولا زميلي على ثقة بإسعافها كما فعل هذا الفتى.)

قصة يوسف واستحالة مقاومة فتنة الجمال تعد قصة يوسف في القرآن الكريم (أحسن القصص) وفي هذه الرواية عدة تقاطعات مع تلك القصة منها الطريقة التي وصل بها عمر إلى قصر السلطان والد تناهيد، التي تشبه إلى حدما، ما وقع ليوسف يقول عمر (لقد تم اختطافي قبل سنة من هذا التاريخ من قبل قطاع طرق إلى أن آل بي قدري إلى هذا البستان.. فأنا خادمكم وطوع يمينكم. ) وكما راودت زوجة العزيز يوسف عن نفسه واستعصم ولم يجد إلا أن يدعو ربه طالبا أن يحميه من كيد النساء (قال رب... وإلا تصرف عني كيدهن أصبو إليهن)، كذلك فعلت تناهيد مع عمر فتأفف وتمنع ورفع أكفه يطلب ربه أن يعصمه وهو العاجز عن الابتعاد عنها (أي رباه اعصمني لا استطاعة لي لا قدرة ولا قوة تحول بيني وبينها ) وقال في مقطع آخر من الرواية (لقد جاءت تطلبني.. هي بين يدي تستجدي حبي... انقطعت السبل إلى مقاومتها.. رباه إلهي.. ألطف بي.. هبني قوة لأكون عبدا رضيا.. يالله يالله ) وبعد عدة تلميحات وإحالات خفية صرحت الكاتبة بالاستفادة من قصة يوسف عندما اضطرت للاستشهاد بآيات من سورة يوسف، فعندما ضبطت تناهيد مولاي شكر متسللا لفراشها في نهاية الرواية حاول التخلص منها وهو يردد الآية (﴿... لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ...﴾.. ﴿... لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ.. ﴾) وفي الرواية إحالة أخرى على قصة يوسف في قصة الوالي حسان مع مليكة زوجة صديقه التاجر عدوان عندما ألفينا مليكة تراود الوالي حسان عن نفسه كما راودت زوجة العزيز يوسف وصدها عنه (مليكة التي لم تكف إحتكاكها به برغم صده عنها كي تتم خطتها على خير ما يرام كما تحب وترضى. )

قصة النبي سليمان وإحضار القصر لاستقبال بلقيس: تتجلى الإحالة إلى هذه القصة في ظهور قصر من العدم لا يختلف في أوصافه عن قصر بلقيس. ففي القرآن الكريم ( قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين، قال الذي عنه علم الكتاب أن آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) كذلك ظهر أمام مولاي شكر في الخلاء قصر ( ما رأت عينيه له مثيل ولم يعرف لنهايته قامة، تحيط بالقصر حدائق غناء فيها من الثمار والرياحين والأزهار العجب العجاب...) لاستقبال تناهيد وأسرتها فيه...

هذه مجرد نماذج تتناص فيها الرواية مع بعض قصص القرآن التي كان للجنس والسحر والمعجزات فيها حضور واضح... وقد يجد القارئ في الرواية تناصا مع قصص وحكايات وأساطير أخرى في التاريخ لزهاد ومتصوفة زهدوا في كل ملذات الحياة وآثروا الاعتكاف في الجبال والكهوف من أجل العلم والحياة الأخرى، والسعي لمعرفة حقيقة الذات الإلهية التي تمثل الحب الخالص المطلق ولن يوجد مثل ما يوضح ذلك خير من قصة خير الأنبياء وغار حراء... ومن تم قد يستفيض الباحث في النبش عن دلالات الكثير من الرموز الموظفة في الرواية من ذلك رمزية الأفعى التي كانت سببا في التعارف بين عمر و تناهيد: فمثلما سرقت الحية في أسطورة جلجامش البابلية من البطل نباتا يحتوى إكسير الشباب الذي كان سيضمن له شبابه وفتوته، وكما تحولت عصا موسى إلى أفعى مخلصة منقذة، ودخلت الأفعى إلى الجنة لتخرج منها آدم وحواء في المسيحية... كانت الأفعى في رواية (عذراء وولي وساحر) سببا في أن سرقت تناهيد من عمر عقله وورعه وأفقدته ورع الزهاد، وغيرت مجرى حياته، بل أعطته حياة وولادة جديدة ذلك أن الحية (من الحياة... مرادفة للخلود والانبعاث وتجدد البقاء).

إن رواية (عذراء وولي وساحر) إلى جانب كل حمولتها الدينية، الاجتماعية، الخرافية والأسطورية تبقى رواية غرائبية بامتياز فهي مليئة بالأمور الخارقة التي تجعل الأبطال كالأنبياء والسحرة قادرين على شفاء المرضى وتغيير شكلهم والانتقال الآني في الزمان والمكان يتراءى لهم ما لا يراه الآخرون بما أن الرواية تقطر غرائبية سنكتفي ببعض الملامح للتوضيح فقط، ومن تلك الملامح الغرائبية في الرواية:

رؤية ما لا يراه الآخرون: فهذا مولاي شكر بعدما خر راكعا وما (أن رفع رأسه واعتدل جالسا إذ به يرى أقواماً يرتدون أسمالاً بيضاء لا عدد لهم ولا عدة، جلوساً ينتشرون حوله بملء جوف الجبل، يحدقون به باستبشار، تلوح على تقاسيمهم الهدأة والسكينة) بل أكثر من ذلك يتواصل معهم، يكلمهم ويكلمونه بكلام غريب يعج بالرمزية والتناقضات، قال له أحد هم: (ينبغي أن يكون المرء نائماً مستيقظاً أمامنا حتى يرى الأحلام في اليقظة. لا تبحث عن القَدم في هذه الناحية وكن أعرج. وعند الرجعة كن أنت قائد القطيع... وكن كالملائكة وقل (لا علم لنا) حتى تأخذ بيمينك (علّمتنا) فاكـتـم سرنا تظفر بعلمنا)

ظهور أبنية وقصور فخمة من العدم: في فجاج الجبال بالخلاء حيث الفضاء مقفر و(في الصباح الباكر أفاق عمر في موضعه الذي غاب فيه عن الوعي والإدراك، كل شيء على حاله هنا ولكنه يشعر بأن أمرا قد طرأ على المكان، سحب قامته ليستطلع هواجسه موقنا بأنها صائبة لا محالة، ما أن جاوز موقع الشيخ بخطوات إذ به يرتد أمام رتاج عظيم البنيان ذو حلق مذهبة سحبهما بكلتا يديه فأبصر جناحا مهيبا شرفاته من خشب الورد والزجاج المزخرف وأثاثه من خيوط القز ومقاعده ديباج مبطن بأجود صنوف القطن تتوسطه ناعورة ماء تصدر خريرا أشبه بعزف الناي، وأرضيته سجاد من السلك الكشميري وآخر فارسي حريري، تتناغم ألوانه كروضة زانها الربيع، مشى فيها طويلا أن انتهى إلى دهاليز عدة تتفرع عن غرف مهيبة فارهة الثراء، فاجتاز عدة رتاجات ولج في نهايتها إلى بوابة عظيمة يقف على حراستها قرابة المائة حارس كلما اقترب من أحدهم انحنى له إجلالا، أمام البوابة العظيمة وقف ليرفع رأسه في هذا البناء المتراص ليشهد قصرا ما رأت عينيه له مثيل ولم يعرف لنهايته قامة، تحيط بالقصر حدائق غناء فيها من الثمار والرياحين والأزهار العجب العجاب وحول القصر ملاحق امتلئت بالخدم والمستخدمين)

القدرة على مسخ الآخرين وتحويل جنسهم تعلم موصل السحر خلال شهرين وكانت تلك المدة كافية لأن يتحكم في رقاب الخلق فقد استطاع بمكره تحويل العم شاكيل وزوجته إلى كلبين أبقاها هي كلبة، وأتاح للعم شاكيل إمكانية الرجوع إلى أصله الآدمي نهارا، لم تتحمل زوجته ما أصابها وتوفيت كما تموت الكلاب وظل هو يمني النفس بأن يصادفه الموت نهارا ليلتحق بالرفيق الأعلى في صورة إنسان وفعلا تحقق مراده يقول السارد في مقطع غرائبي واصفا لحظة وفاة عمه شاكيل: (عندما أكب حول الجثة السوداء المكومة لكلب يحتضر أيقن أن تلك الرائحة تخصه من قريب دون سواه، لم يقو على لمسه ولم يلبث حتى أخذ في تمدد لكافة أعضائه الأربعة وجعل يتقلص كمن يجتذه من الداخل وحش أجرب، أو كأنما انحشر ذئب في جوفه، راح يفترس منه كل ما كان بين العظم والجلد، وشعر عمر بأن الذئب يولم بهما معا في لحظات يتقهقر البصر فيها مذعورا، وعندما أيقن أنه هالك لا محالة سرعان ما تخلفت هذه الجثة الحيوانية المشظاة إلى هيكل عمه شاكيل...)

أحداث غريبة وكائنات أغرب: ويبقى من أكثر المشاهد غرائبية في رواية (عذراء وولي وساحر) مشهد التقاء الساحرين وانتصار الخير على الشر وهو مشهد أقرب إلى الخيال العلمي حيث دوي الانفجارات وألسنة النيران تتهاوى من السماء وأناس وكائنات غريبة تطير في الفضاء يقول السارد:

(لم يكد يتم حديثه وعمر منصت له بحزن لا يقوى على مجابهته بالحقيقة حتى دوي انفجار عظيم تمخر عن تخلق نار مهيبة فوق رأسيهما وفي أقل من طرفة العين طوقتهما جنود طيارة رفعوا الشيخ مولاي شكر إلى أقصى اليمين والسلطان قارون إلى أقصى الشمال لتسقط النار فوق الموقع الذي كانا يشغلانه وقبل أن يتمكن السلطان من إدراك الوعي للأيادي البيضاء التي امتدت إليه كانوا قد اختفوا بذات السرعة التي ظهروا بها )

يستنتج إذن من خلال رواية (عذراء وولي وساحر) أنها تتميز عن غيرها من الروايات النسائية -التي سبق لنا دراستها - بغرائبية أحداثها وتأسطر شخصياتها وأمكنتها لكنها وإن جمعت بين الدين والخرافة، الواقع والأسطورة، المقدس والمدنس... تبقى مثل عدد من الروايات النسائية التي جعلت من الجنس ملحها وبؤرة معظم أحداثتها دون أن تنغمس في ما انغمست فيه معظم الروايات النسائية التي ركزت على الجانب الإيروتيكي، ودون أن ترقى إلى تلك الجرأة الزائدة التي وجدناها في الكثير من الروايات التي تبالغ في وصف الأعضاء التناسلية ورصد تفاصيل العلاقات الجنسية والإغراق في الاهتمام بجسد المرأة وشهوانية الرجل وهوسه الجنسي بالجرأة المقززة التي وجدناها في روايات مغاربية كرواية (اكتشاف الشهوة) للجزائرية فضيلة الفاروق، و رواية (الملهمات) للمغربية فاتحة مورشيد... أو في روايات مشرقية مثل رواية (زوج حذاء لعائشة ) لنبيلة زبير من اليمن ورواية (سلالم النهار) لفوزية شويلش من الكويت وإن تشابهت (عذراء وولي وساحر) مع هذه الرواية الأخيرة في الانتهاء إلى الزهد بالجبال والتخلي عن حياة الشهوات والملذات، ذلك أن سارة الجروان الكعبي ارتقت بالجنس من تلك العلاقة الميكانيكية إلى أرقى درجات الصفاء الروحي، حيث يتوحد العشيقان ويصيران واحدا في حلول صوفي يحقق للذات الإنسانية وجودها، ويسمو بها لتتماهى مع الذات الإلهية حيث الحب المطلق والعشق اللامتناهي ولنتأمل هذا المشهد الذي جمع العاشقين عمر وتناهيد كيف يـحل كل منهما في الآخر في صورة أقرب إلى حلول الحلاج في الذات اللإلهية عند قولة:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حلـــلــنــا بدنا
إن أبـــصرتـنــي أبصرته
وأن أبــصــرته أبــصــرتــنــا

يقول السارد في الرواية: (وهمس لها: - معشوقك هنا... هنا العاشق والمعشوق... لا يغيبان... يفنى الجسد وهما باقيان... واحد لا عدد لهما عدا واحد... وكل العشق إن توحد في واحد أفضى إلى الواحد. سحب تأوهاتها، إهابها.. لحمها، عظمها فأوردتها، رصفها بجسده فتماهى الجسدان في انعتاق روحهما في لجة الوصل، فلم يعد يخالجهما شعور إلى رغبات أخرى فاستحالت غرائزهما الملحمية إلى غواية التجلي للحقيقة ورصدها لئلا تغيب أو ترفع من الذاكرة وجل عذوبتهما استنفذاها في خلوة الجمع خوفا لئلا تفرط. ) وإذا كان الحب خالصا ونهايته حتمية والعاشق عمر مقتنع بأن (كل النساء دون تناهيد. باطلة) فلا بأس إن سرق بعض لحظات الحب قبل الزواج سواء أتاها متخفيا كما في قول السارد: (هبت من نومها بعنف، قفز من حولها إلى أسفل التخت وحمد ربه أنه كان متخفيا..) أو تسلل إلى فراشها في صورته الحقيقية كما كان في نهاية الرواية: (في الليلة الأخيرة لها في قصره لم يستطع مقاومة رغبته في وداعها، اندس في فراشها في هيئته التي تعشقها جسما ماديا وليس طيفا كما في زيارته قبل الأخيرة لها، تظاهرت بأنها نائمة وتظاهر بأنه لا يعرف، أقحم يده أسفل رأسها وعنقها ليوسدها في صدره كان القمر بدرا فتسلل نوره من الشرفة على هيئة خيوط رفيعة طولية استقر وميضها فوق الجسدين الملتحمين، بنفس طويل اجترها خفقانا استرد به سريان الحياة في أوردته القاحلة، وجهها المنحفر في صدره ويديه تطوقانها بقبضة قوية ألهمها قوة المبادرة بالمكاشفة فقبضت بشفتيها شعيرات صدره وراحت تداعبها بلسانها، فرط سكونه في هدأة سكينتها فدفعها بقبضتين عنيفتين، فتقابل وجهاهما وعيناهما وتسمرت نظراتهما طويلا جامدة دون أن يخرق أحدهما جدار الصمت والعي الذي تلبسهما مطواعا، تململ لينسل من فراشها فتكلبت به صارخة:- لن تذه... لن تختفي هذه المرة... ليس بعد الآن... أفهمت... أفهمت... يا مولاي شكر.) ويكون هذا المشهد سببا في تعجيل النهاية التي انتظرها العاشقان كما يظهر من استعجال (مولاي شكر= عمر) طلب يد تناهيد من أبيها (سيدي السلطان جئتك طالبا يد ابنتك الأميرة تناهيد... وإن لم تمانع فأنا أريد أن أعقد قراني عليها الآن... اللحظة اللحظة.)
في الختام لا بد من الإشارة إلى أن هناك كبوة تؤثر سلبا على جودة الرواية ويتعلق الأمر بكثرة الأخطاء المطبعية من خلال نسيان حروف أو زيادة أخرى أو الأخطاء اللغوية برفع أو نصب ما حقـه غير ذلك في النسخة الإليكترونية التي توصلنا بها من كاتبة الرواية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى