الاثنين ١٧ شباط (فبراير) ٢٠٢٠
الجزء الثاني من قراءة نقدية وأدبية

في قصيدة يا شام للشاعر السوري مفيد

عبد الزاق كيلو

(2)

ثم يتابع الشاعر زف مشاعره عارمة بالاحساس الفياض بمتعة الرؤية ملتقطا بعدسة خياله البيانية ما تتمتع به رياض دمشق من طبيعة تبعث في النفس النشوة الروحية والفكرية إحساسا بالبديع الجميل:

والنبعُ في بردى ينثالُ أغنيةً
فيرقصُ الطَّيرُ في الأشجار والورقُ

فالصور المستعارة من المخزون الفكري والخيالي يشخصها الشاعر لوحات فنية انطباعية تخلف في ذهن المتلقي الإحساس بالجمال المتناهض يتمازج فيه الماضي والحاضر فتتوالى الصور المجردة يغمرها الحنين فتخال الطبيعة استجمعت جمالها بخرير المياه و دعة الأشجار المتكاثفة على ضفتي النهر الذي يحرض لحنه الشجي الطيور في أكنانها مغردة تغازل المياه الرقراقة تهف بريشها محرضة هي الأخرى أغصان الأشجار زهوا وطربا فتتمادى أوراقها الغضة
الطرية اهتزازا وحركة بقدها المياس ...مما يبعث اللذة النفسية انحيازا نحو الهدوء والجمال متنعما بها المرء في أفياء الطبيعة الساحرة.

المشاعر الصادقة التي تخفق في حنايا قلبه الشاعر و خلجات نفسه تعبر عن حنينها نبضا عارما بالحب ..وكأن للشاعر ذكرى عاطفية تشده نحو اللجوء إلى فسحة خياله ليعبر عنها في آخر سياق القصيدة ويلوذ بحضن الحب الذي يشعر بدفئه و سموه الروحي في عالم السعادة والجمال..فهو لا يزال على صراط الحب يمضي..فالشاعر يخاطب الشام كناية و في الحقيقة يخاطب حبيبته الجالسة على عرش قلبه..دلت عليه القرينة اللغوية في إعادة ذكر العذارى الدمشقيات وما تزال ذكرى الحبيبة تند في قلبه مشعلة دمه وأعصابه بالحنين والشوق و
اللوعة..تكرار النداء..يا شام... زاده التصاقا بالحنين و زاده من مد جسر شعوره الذي يربطه بين الماضي والحاضر بأجمل ذكريات الحب ...و ربما تحول عشقه للمحبوبة إلى حب وطني عارم النبضات بالاحساس بالجمال والجلال كلما لاحت له في الذكرى دمشق مجردة عن الزمان والمكان متسعة دائرة هيامه بها في رياض عقله متوردة بالمحبة و العرفان دوما...و هذا ارتقاء عاطفي و روحي متسامي عن الأغراض الدنيوية.. فحب الشام ينزع به نحو الإبداع وهو إن لم
يعزف أعذب الألحان والأناشيد دوما...كما تلهمه معشوقته الشعر فروحه تذهب
حسرات و قافيته يغادرها جني الشعر

يا شامُ هذا الهوى ما زالَ في دَمِنا
نحن الذين على درب الهوى خُلقوا
تلك العذارى الدمشقياتُ نعرفها
من سحرها الندِّ قلبُ الصبِّ يحترقُ
يا شامُ أنت الهوى في روح قافيتي
لا تتركيني – بحقِّ اللهِ - أختنقُ .

روح الموسيقا المنغمة على قافية واحدة منوعة الألحان نظرا لتنوع حرف الردف و خلوها من أحرف العلة في تأسيس الردف و الروي حرف القاف بما فيه من لحن عالي الوتيرة و تألق النغم و بحر البسيط و بما يتمتع به من حركة موسيقية ينسجم فيها اللحن مع المعنى و الصورة مع البيان اللغوي الذي اعتمد فيه الشاعر عن ألفاظ مبسوطة في السمع... ممتدة في المعنى.... تنساب في أفياء القصيدة كما ينساب بردى بين الوهاد والوديان ناشرا عطر ألحانه فتنضوي على ضفتيه القلوب رقة وحنينا ...فالموسيقا تعبر بقوة عن تداعيات نفس الشاعر وتموجاتها القوية المنسجمة مع تلوينات الطبيعة الزاهية ثم إننا نلاحظ... في القصيدة.. التناسق المحسوس عقلا وشب إدراكا يدور حول مفهوم الرائع و المؤثر ينعطف فيه الجمال نحو الموائمة بين الواقع المحسوس و المثل الأعلى المدرك بالعقل...حاز فيها الشاعر حصة الأسد من قيمة _الجليل _ أعلى القيم الجمالية... نعم.. الجليل الذي يبعث في النفس السرور و البهجة بغض النظر عن العواطف السلبية الأخرى التي يشتمل عليها الجليل كالخوف و الرهبة...فالشاعر في أبيات قصيدتة المتصعدة في مرأى الخيال الإنساني الراقي حقق فيها الشاعر مفهوم الجليل وقيمته في معاني القصيدة وصورها التي تطرب لها الحواس..فأحسن العزف على أوتار الطبيعة الدمشقية بجلال واضح.. فيشعر المتلقي بالسمو و الرفعة خارج إطار ذاته بإحاطته العميقة في قصيدته المتسعة و المبسوطة المعاني إدراكا للجلال الذي هو أقصى قيم الجمال في الطبيعة والكون.

هو لم يربط الجليل بالخوف و الرهبة..و إنما ربطه بالقوة الجمالية التي تسر النفس مولدا في خيال المتلقي عواطف عملية تغمره شعورا و إحساسا بلذة حضور حضور دمشق في فرجات الذات و انفتاحها بحركة ذهنية نحو المعاني و الأفكار الإيجابية ترتبط تمثيلا و بيانا بالجليل الذي فيه استواء الفكر مع الخالد المعجز السار.

نعم... حول الإحساس المتصل بالجمال إلى فعل متحرك في خيال المتلقي عبر الصور المجردة في سياق القصيدة فتتحول إلى علاقات منسجمة ضخمة الوصف و التعبير البياني و متسعة التصوير بأسلوب المجاز العقلي محققا علة الجليل و هو السمو و العظمة.

فلا تفهم دمشق من غير عظمة و مجد...و لا تمثل تصورا إلا محققة للكمال بجوهره و جلاله ..فمن البيت الأول في القصيدة أطلق الشاعر زناد خياله مصيبا سطوة الجليل بصفات تتسم بها دمشق سموا و رفعة و عزة..و في نهاية القصيدة يشخص الشاعر القيمة الجلالية المتجلية في ذائقته الشعرية و الفنية...في تنافس قيمي يحسمه لمصلحة الجليل على الرائع و الجميل...:

يا شامُ أنت الهوى في روح قافيتي
لا تتركيني – بحقِّ اللهِ - أختنقُ .

عبد الزاق كيلو

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى