الأربعاء ٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

قرأت لكم «العقــل»

في مؤلفه (النظرات) يقول شيخنا الجليل (الحفيان) عن ماهية العقل ما يلي:-

(.. إن العقل في التراث الهيليني- شرقياً كان أم غربياً - ذات من الذوات المدركة وجوهر فرد مستقل بنفسه داخل جسم الإنسان، يفارق به الحيوان، وهذا مفهوم قديم ثبت خطاؤه ومن ثم تجاوزته النظريات الحديثة في مفهوم العقل، باعتبار الزمان الوجودي..

والعقل عند الفلاسفة ينقسم إلى قسمين:

1- عقل مجرد

2- عقل عَمَلي

والعقل بنوعيه عمل من أعمال القلوب، إلا أن العقل المجرد يستخدم من الوسائل الإدراكية ما يتناسب مع مجال حركته وتعقله، ومن أهم الوسائل الإدراكية للعقل:

الجهاز العصبي الذي يأتي المخ في قمته ويتم التعقل تبعاً لحركة مراكز الحواس مع أدواتها في تفاعلها مع الزمان والمكان بأحيائه وأشيائه

أما العقل الفعَّال عند الفلاسفة، وهو الروح الزكي عندنا، فهو عاقل عالم بطبعه، تتراءى له مرائي الوجود وتجليات الله في مواجهته لعالمه الأسمى، متى كان جاهز الاستقبال، صافياً ومقابلاً للحق في وجهته، فإذا تربد أو ران عليه شيء من درن الاكتساب الآثم فحجب نقاءه وجوهره وصفاءه، أو انحرف عن الوجهة الحق، فإنه سيصاب بالردِّ السفلي متى نأى عن الذكر، فبعُد عن رحمة الله، فقسا قلبه الذي يشكّل عندنا الهيولي العام لهذا الروح أو لهذا العقل في هذا الطور الذي يسمى عندنا: بالعقل المؤيد، أو الروح المُكاشَف، أو القلب المنير، وكلها من وسائل الإدراك فوق الحاسي..

ولمزيد من التعرف على العقل- المجرد - والعقل- المؤيد - يمكننا أن نقول: العقل المجرد تلازمه أُطر عامة تشكِّل حدود حركته وأغوار مدركاته، ومن هذه الأُطر:-

1/ الإطار المنطقي

2/ الإطار الفلسفي

3/ الإطار الواقعي

4/ الإطار العلمي

5/ إطار التسديد

الأطر الأربعة الأولى تحمل معنى العموم، فلا تختص بإنسان دون آخر، وبمقدار حركة الفكر وقوته في الفعل والانفعال بواقع الحياة المتجدد يكن مقدار العطاء العلمي، إلا أنه عطاء علمي يُعْنى بظاهر الحياة الدنيا.. أما حركة العقل في الإطار الأخير فهي تشكِّل حركة التفاعل الإيجابي مع الوحي فهماً، وتديناً، يمد التصور البشري بالكمال الرباني خلال ضرورة التصويب حتى يستقيم العقل على منهاج السداد والرشد، وآية ذلك عدم التعارض بين معطيات العقل ومعطيات الوحي..

كما إن من أعماله أن يصل الكشوف العلمية بحقائقها الدينية إنطلاقاً من مفهوم الوحدانية، ولا يشترط في العقل السديد أن يغوص في أعماق مفهوم الوحدانية ودورها في منظومة الحياة الإنسانية والوصول إلى إدراك علاقة كثرة المظاهر بتوحيد الظاهر- عزّ وجلّ - لأن هذا من أعمال العقل في عوالم أخرى، وطور أعلى من أطوار العقل هو:

(عالم الملكوت): و(الملكوت) صيغة مبالغة من (مََلك)، مثل (نَاس) المبالغة منها (ناسوت)، والإنسان لا يتعامل مع عالم الملكوت بالعقل المجرد، ولا بالعقل التجريبي، ولا بالعقل المسدد، إلا تصوراً وتفكراً وتدبراً. أما تحقيقاً فلا يتأتى للعقل ذلك إلا إذا كان مؤيداً، ذلك لأن العقل بكل درجاته لا يعمل إلا في الزمان والمكان، وعالم الملكوت، عالم لا زمان فيه بمفهومنا الوجودي.. و يبدأ بالسماء الدنيا وينتهي بسدرة المنتهى

ويختلف العقل المؤيد عن العقل المجرد لأنَّ العقل المجرد قصاراه أن يبحث في ظواهر الأشياء وصفاتها على درجاته

كما أنه يختلف عن العقل المسدد، إذ قصارى العقل المسدد أن يعرف قوانين الأحياء والأشياء، إلى جانب مقدرته على الربط بين المثال والواقع، أو بين النظرية وتطبيقها خلال السلوك الاجتماعي، كما يشترط ليوصف العقل بالسداد أن يشهد صاحبه (الله الحق) من خلال إدراك الحقائق الدينية وربطها بمنهج الإسلام وشِرْعته..

أما العقل المؤيد:

فهو الذي يعرف حقائق الوجود العليا على ما هي عليه، لا عن طريق الدليل والبرهان والتجريب والملاحظة، وإنما عن طريق الكشف عن هذه الحقائق بنور الله، وأهل العقل المؤيد هم أهل المجاهدة في الله ، الذين أظمأوا نهارهم وأسهروا ليلهم حتى كشف الحق عنهم حجاب الحس وأيدهم بنوره فرأوا حقائق الوجود العليا ببصائر لا شوب فيها..

وهنا قد ينشأ سؤال : أين موقع العقل المؤيد من الإنسان؟

ونجيب بأن موقع العقل المؤيد من الإنسان هو (القلب) شريطة أن يكون مؤمناً بالله الواحد الأحد، وفقاً لما جاءت به رسالة الإسلام من شرعة ومنهاج، وبهذا الاعتبار يمكننا أن نقول إنّ العقل فعل من أفعال القلب، وصفة من صفاته، وليس جوهراً مفارقاً كما هو المفهوم الفلسفي القديم، والملاحظ عند دارسي القرآن الكريم، أن كلام الله لم يرد فيه إسم (العقل) كوسيلة من وسائل الإدراك النسبي، وإنما جاءت كلمة (عقل ومشتقاتها لتعطي معنى الفهم والوعي والإدراك) مع إضافة هذه المعاني إلى أداة أخرى هي (القلب) وما يرادفه من مصطلحات مثل (الفؤاد، اللُّب، الصدر)..ولعلَّ المَلاَحِظ الدلالية من وراء اختيار لفظ القلب ليكون هو وسيلة التعقل والإدراك والفهم تتمثل في:

1- اعطاء التعقل معنىً عميقاً يتجاوز الظواهر والظاهرات

2- تجاوز المعنى التجريبي والمنطقي للإدراك العقلي الدارج

3- عدم الوقوف بالمعطيات الوجودية عند مرحلة المعرفة المجردة

4- النفاذ بالإدراك المعرفي إلى طوايا الوجدان وحنايا القلوب لينفعل العاقل بما عقل، ترقية لهذا الوجدان وإنارة للقلب مع الإحساس ببرد اليقين وعاطفة الإنتماء، مع استشعار آصرة الروح ونقاء البصيرة، وكل ذلك يشكِّل مرادات أساسية وسامية متاحة من مقاصد الإسلام، لا يعطيها المعنى الشـائع

لمفهوم (العقل)، الذي يجرد المعقولات من دفق المشاعر، وتفصل السلوك عن الدوافع الوجدانية وتنأى بالمعارف عن نور القلب وهدى الإيمان ومدد التقوى..

وفي إطار المنهج الإسلامي يتجاذب هذا القلب عالمان، عالم الملك (العالم المادي) وعالم الملكوت (العالم الروحي)، فإذا استنار القلب بنور الله فاستقر فيه الإيمان نزع إلى العالم الأسمى فنقل عن الله في عالم الملكوت من حقائق المعارف ما لا يستطيع العقل التجريبي دركه..
أما عالم الجبروت:

ويقصد به عالم تجليات الله بصفات الذات، وهي تجليات نورية محضة ليس فيها من أعيان الأغيار شيء.. وكلما علت درجة القلب في مدارج الرفعة كلما تراحبت سوحه، وانشرحت طواياه بنور الله، حتى تحسن عين الفؤاد رؤية عالم الجبروت، حينما تنعكس تجلياته على مرآة القلب ذات الصفاء والنقاء فيرث من المعارف اليقينية وهباً والتجليات الإلهية كشفاً وشهوداً ما لا يقوى العقل المجرد على تصوره ناهيك عن تعقله..

أما عالم الهاهوت:

فهو الذي يقصد به عالم الذات الإلهية في صرافتها المطلقة وتجردها عن الأسماء والصفات، حيث تنقطع العبارة بالسحق والمحق في عالم العماء وتبقى الإشارة بهاء هوية الذات المقدسة، ولا مقام لسالك في هذا العالم، وإنما هي أحوال في زمان يبلغ من الدقة درجة لا تقاس، وضمير التعريف في هذا العالم (هـو) فإن أشرت قلت: (ها هـو)، ومن هنا جاءت تسمية هذا العالم، ولا إدراك في هذا العالم إلا العجز عن درك الإدراك

وغاية العلم بالله وأسماه ما كان في عالم الهاهوت بنورية المقام الأقدس، مقام: (قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) وهو علم بالله في حقائق الوجود العليا ولسان حال صاحبه الإشارة به حقاً: هو (هو)!! )


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى