قراءة جمالية في قصيدة «نجم الميادين» لوهيب عجمي
تهدف الدراسة إلى كشف الرؤى الجمالية التي تنطوي عليها قصيدة (نجم الميادين) لوهيب عجمي التي رثى فيها أخيه الشهيد(محمد حسين عجمي)، من حيث الرؤية والتشكيل والإيحاءات الجمالية التي تنطوي عليها على المستوى الفني والجمالي، ومن هنا يمكن القول: إن البحث في مثيرات الشعرية في قصيدة (نجم الميادين) يعني الكشف عن الكثير من المضمرات النصية التي تباغت القارئ في هذه القصيدة على المستوى الفني والجمالي، وبمقدار بلاغة الشاعر في خلق التشكيلات النصية المباغتة يحقق اللذة الجمالية في التفعيل النصي، وإثارة الرؤية الجمالية في قصائده على المستوى الفني أو الجمالي. ومن هنا يمكن القول: إن الشعرية ومحفزاتها النصية في قصائد وهيب عجمي تتأسس على الفواتح النصية المفاجئة والتكامل الجمالي في تفاعل أبياتها وتضافرها على مستوى حراك الرؤى والدلالات النصية، ناهيك عن القفلات النصية الموفقة التي تترك القصيدة في تفاعل واستثارة جمالية حتى النفس الأخير، وهذا يؤكد التلاحم والتكامل الجمالي في إيقاعاتها وتشكيلاتها النصية المفاجئة على المستوى الفني.
ولعل من أبرز مساعي الدراسة كشف التلاحم والتفاعل النصي بين الأبيات على مستوياتها كافة، ومن هنا يمكن القول: إن الشعرية كتلة تحولات، وتفاعلات نصية موفقة يثيرها الشاعر على مستوى الدلالات، وحراك البنى النصية في جل إبداعاتها النصية، وهذا لا يتأتى إلا من خلال حراك الدلالات والمؤشرات النصية التي تباغت القارئ بإيقاعاتها النصية الموفقة التي تثير اللذة الجمالية في التلقي الجمالي.
نجم الميادين
لك يا محمد في الوجود مكارمُ
وعلى ذراعِك ثورةٌ تتعاظمُ
تمضي وترفعُ للشُّعوبِ مشاعلاً
وعلى طغاةِ الأرض قلبُك ناقِمُ
انت المداوي في البلادِ جراحَها
ونزيفُها بجراحِها يتفاقمُ
بالحبِّ بالإخلاصِ انت مدجَّجٌ
أنت الطَّبيبُ معلِّمٌ والعالِمُ
أبدعتَ في حقلِ الطبابةِ ماهراً
أبداً وما اسْتعْصَتْ عليك طلاسِمُ
للسّاح تُقْدِمُ بالعلوم مزوَّداً
ولديك صبرٌ في الوغى وعزائمُ
بثباتِك المعهودِ قاومتَ العِدى
ماكنتَ يوماً في النِّضال تُساومُ
تمضي وبُركانٌ بصدرك ثائرٌ
وعلى يديْكَ بنادقٌ وحمائمُ
في يومِ عُرسِك يا حبيبي يا أخي
بيروتُ شيَّعتٍ الفِدا وعواصِمُ
وفصولُك الخضراءُ ماجالتْ بنا
الّا وعطرُك للربيعِ يزاحِمُ
فاسْتَقْبِلِ الثُّوّارَ إنَّك ظافِرٌ
ولكَ الرِّماحُ على الفسادِ صوارمُ
في السّاح تُشعلُ أُمَّةً لكنَّه
كالثَّلج قلبك أبيضٌ ومُسالمُ
خابتْ بكلِّ الحكمِ آمالُ الورى
ولقد سموتَ بِنا وذُلَّ الحاكمُ
هذا طريقُ المجدِ أنت سلكتَهُ
متوهِّمٌ من ظنَّ أنَّك نادِمُ
زَعْزَعْتَ أركانَ الضلال بثورةٍ
لا ما ثناك مع الطُّغاةِ تصادُمُ
لا لم تهادِنْ في الورى متكبِّراً
بلْ كنتَ تصفعُ ظالِماً وتُخاصِمُ
خبرٌ لثوّارِ الكرامةِ صادِمُ
قدْ غابَ نجمٌ في الحراكِ مقاوِمُ
رجلُ الشَّجاعةِ والمروءةِ والإبا
بطلٌ وشأنُك في الورى متعاظمُ
هذي دماؤك للزمانِ مشاعلٌ
تغزو الظلامَ تُبيدُهُ وتُداهمُ
كرّارُ في خوضِ المعاركِ قاهرٌ
شهدَتْ إليك بطولةٌ وملاحمُ
صدّاحُ في قول الحقيقةِ صادِقٌ
والأرزُ يشهدُ والوفا والعالمُ
حطَّمتَ أركانَ التعصُّبِ قائداً
مارونُ سارَ على خطاك وقاسِمُ
ياقائدَ الثُّوّارِ صوتُك صاعِقٌ
برقٌ ورعدٌ في المواقفِ حاسمُ
ياثورةَ الأحرارِ ذاك محمَّدٌ
نسرُ الفضاءِ على مداركِ حائمُ
يا أُمَّةَ الأبرارِ ذاك محمَّدٌ
نجمٌ مشعٌّ في سمائك دائمُ
يا أمَّة الثّوّار ذاك محمَّدٌ
هو قائدٌ متمرِّدٌ ومُصدامُ
يا أُ مَّةَ الفقراءِذاك محمَّدٌ
سندٌ لكمْ وركائزٌ ودعائمُ
هذا الشَّهيدُ كتابُهُ بيمينهِ
وبهِ على الطّاغوتِ حُكمٌ صارمُ
زُمرٌ على كلِّ المناصبِ أفسدَتْ
عمَّ البلادَ مجاعةٌ وجرائمُ
زمرٌ بنا حكَمَتْ طغتْ وتجبَّرتْ
وإذا المذاهّبُ نقمةٌ وتَخاصُمُ
هذي بلادي ثروةٌ منهوبةٌ
وكأنَّها للظّالمينَ مغانٍمُ
خشَبٌ رِقابُهُمُ خَوَتْ وتآكلتْ
وتعفَّنَتْ فوقَ الرِّقابِ جماجمُ
بيروتُنا ثكلى تعضُّ جراحها
والمجرمُ المغرورُ فيها الحاكِمُ
ومزارعٌ في كلِّ صوبٍ أُنشِأتْ
سرق الطُّغاةُ كنوزَها وتقاسموا
سقطَ الطُّغاةُ بوحلِهم وضلالهِمْ
فإلى متى شعبُ الكرامةِ نائِمُ؟!
قدْأُتْخٍمَ الحكّام نهباً أسرفوا
والشَّعبُ في عهد المصائب صائمُ
قدْ جاعَ شعبٌ والغرابةُ انَّها
صمتتْ على جوع الشعوبِ عمائمُ
سُحْقاًلحكمٍ فيه يُغتالُ الورى
والشَّعبُ للسُّلطان عبدٌ خادِمُ
ياقائدَ الثّوار جئتك ثائراً
ولديَّ منك مناقبٌ ومكارمُ
من ظلمة الأوغاد انت مهاجرٌ
تمضي ووجه الأرض اسودُ قاتمُ
أدميتَ قلبي في فراقِك ياأخي
فالقلبُ محترقٌ بصدري وارِمُ
قدْ غصتَ في بحر المنايا درَّةً
وأنا على موجِ المنايا عائمُ
لكنني رغم الفجيعةِ صابرٌ
بالسَّيفِ اكمل ثورةً وأقاوِمُ
أسمى العطاء مدى الحياةِ شهادةٌ
أعطى وما نالَ الشَّهادةَ حاتمُ
ستظلُّ دنيانا لثوّارِ المدى
حتّى ولو بلغ المناصبَ ظالمُ
كلُّ الوفا متمثِّلٌ بمحمَّدٍ
شعبٌ بحبِّك يامحمَّدُ هائمُ
نجمُ الثَّرى في كل قلبٍ ساكنٌ
وبنورهِ قلبُ المحبًّةِ حالِمُ
إن غبتَ عنّا ياطبيبَ بلادِنا
فعلى جبين الفجر نصرُك قادِمُ
في كلِّ عصرٍ إنتصارك بازغٌ
وعلى شفاهِ الفجرِ ثغرُك باسمُ
التحليل النصي:
تعد الشعرية قيمة خلاقة بالرؤى والدلالات الشعرية، وهي تتضمن علاماتها اللغوية المؤثرة التي تثير النص، وتحقق قيمه الفنية المتنامية، والشعرية ليست مقتصرة على علاقة الكلمات مع بعضها البعض بقيم انزياحية تشكيلية مؤثرة، وإنما فاعليات نصية مؤثرة في إنتاج الدلالات وتفعيل الرؤى الشعرية، وهذا يعني أن الشعرية كتلة فواعل نصية مؤثرة في استجرار الرؤى والدلالات الجديدة عبر محفزات الصور الشعرية، ذلك أن"الكتابة بالصور هي القانون المحوري الذي تنبني عليه القصيدة المعاصرة بأسرها. لأن الشعر يتنزل في دائرة الرؤيا،ويكاد يتوحد بالحلم، والصورة هي الشكل الذي يستجيب للرؤى. ذلك أن العبارة الخبرية تقف قاصرة ولا تحيط بالرؤيا، فيقوم الشاعر بتفجير العبارة من الداخل، فتأتي الصورة بمثابة الصدى المباشر لذلك الانفجار، انفجار اللفظ العاجز عن استيعاب التجربة المفردة"(1).
والواقع أن الشعرية في أية قصيدة لاتبرز إلا من خلال فاعلية الصورة ومثيراتها النصية التي تحرك الرؤى والدلالات وموحياتها النصية، فالشاعر عندما يشكل الصور المؤثرة يخلق منها إيقاعات نفسية، وشعورية ودلالية تحرك الرؤى وتخلق إيقاعها الجمالي، ولايمكن للشعرية أن تبرز كقيم جمالية تحفيزية دون فاعلية الرؤى وموحياتها النصية الخلاقة، وهذا"يجعل النص الشعري بأكمله يقوم على أساس الصورة التي يحتاج إخراجها إلى غوص الفكر في خلجاتها وإحالة الذهن في كوامنها وخصائص نظمها وسياقها، وهذا كله يشي بروح الإيقاع الذي يتحقق من خلال الانسجام والتناسب بين الصور المتلاحقة"(2).
ومن يطلع على قصيدة (نجم الميادين) لوهيب عجمي، يدرك أن اللعبة الجمالية من مثيراتها الفنية، فهذه القصيدة من مواضيع الرثاء الجميلة التي رثى فيها أخيه الراحل الدكتور محمد حسين عجمي، وهي من درر الشعر العربي في الرثاء، وهي تحمل في طياتها الكثير من الصور والإشراقات الجمالية التي تصف مناقب الفقيد، و تقف على خصاله وسجاياه الحميدة في النضال ومحاربة الظلم، بلغة نقدية تموج بالفاعلية والشاعرية والإيحاء، ولعل أهم المفاصل النصية الجمالية في هذه القصيدة تتمثل بالمفاصل النصية الحساسة التالية:
1-الفاتحة الاستهلالية الموفقة فنياً أو جمالياً:
تعد الفاتحة النصية الحساسة من مغريات شعرية الكثير من القصائد المعاصرة، من حيث الفاعلية والقيمة والاستثارة الجمالية، ذلك أن التشكيل الجمالي المثير أو الموحي من المحركات الاستثارية التي تثير اللذة الجمالية في التلقي النصي الإبداعي، تبعاً لمحركاتها النصية وفواعل الرؤى الجمالية التي تحرك إيقاعاتها النصية الخلاقة، فالقيمة الجمالية لاتبرز إلا من خلال فاعلية الأنساق الجمالية ومحفزاتها النصية ضمن النسق الشعري.
ومن يطلع على قصيدة (نجم الميادين) لمحمد حسين عجمي يدرك أن فاتحتها الاستهلالية موفقة على المستوى الإبداعي من حيث سمو العاطفة، ودهشة الصور والمشاعر العاطفية الصاخبة التي تحمله في طياتها، من حيث الفاعلية والقيمة والتأثير، كما في قوله:
لك يا محمد في الوجود مكارمُ
وعلى ذراعِك ثورةٌ تتعاظمُ
تمضي وترفعُ للشُّعوبِ مشاعلاً
وعلى طغاةِ الأرض قلبُك ناقِمُ
انت المداوي في البلادِ جراحَها
ونزيفُها بجراحِها يتفاقمُ
بالحبِّ بالإخلاصِ انت مدجَّجٌ
أنت الطَّبيبُ معلِّمٌ والعالِمُ
أبدعتَ في حقلِ الطبابةِ ماهراً
أبداً وما اسْتعْصَتْ عليك طلاسِمُ
للسّاح تُقْدِمُ بالعلوم مزوَّداً
ولديك صبرٌ في الوغى وعزائمُ
بثباتِك المعهودِ قاومتَ العِدى
ماكنتَ يوماً في النِّضال تُساومُ
تمضي وبُركانٌ بصدرك ثائرٌ
وعلى يديْكَ بنادقٌ وحمائمُ"
إن القارئ هنا أمام صور انسيابية تفيض باللذة والشاعرية والإيحاء، والصورة سبق وقلنا هي المحرض الجمالي على استثارة الرؤى والدلالات الشاعرية الصادمة التي تبعث المتعة والاستثارة في التلقي الجمالي،كما في قوله:[ تمضي وبركانٌ بصدرك ثائر/ وعلى يديك بنادق وحمائم]،أي أنت مكمن السلام والطيبة والجمال وأنت مكمن البطولة والشهادة والمقاومة والتحدي على العدا،وهذه الصور الجدلية الصادمة تعكس المقابلة بين السلام عبر رمز (الحمائم) والحرب (بنادق)، ليؤكد للقارئ أن أخيه في المقاومة ماكاد ليهادن أبداً، فهو في ساحات المقاومة كالبنادق لايستكين ولا يلين، وهو في ساحات السلام الطبيب الرؤوف الرحيم، وهكذا يحقق الشاعر جمالية الصور من خلال تناغمها وتآلفها وانسجامها النصي.
والواقع أن جمالية الفاتحة الاستهلالية لاتظهر بتألقها الجمالي إلا من خلال تضافرها مع بقية الأنساق الشعرية الأخرى، لتحقق أعلى قيمة جمالية في تحفيزها واستثارتها الجمالية، كما في التآلف النصي بين الفاتحة النصية وبقية الأبيات الشعرية، محققاً قيمة جمالية في تكاملها الجمالي وتفاعلها على مستوى الرؤية والدلالات الشعرية، كما في قوله:
في يومِ عُرسِك يا حبيبي يا أخي
بيروتُ شيَّعتٍ الفِدا وعواصِمُ
وفصولُك الخضراءُ ماجالتْ بنا
الّا وعطرُك للربيعِ يزاحِمُ
فاسْتَقْبِلِ الثُّوّارَ إنَّك ظافِرٌ
ولكَ الرِّماحُ على الفسادِ صوارمُ
في السّاح تُشعلُ أُمَّةً لكنَّه
كالثَّلج قلبك أبيضٌ ومُسالمُ
خابتْ بكلِّ الحكمِ آمالُ الورى
ولقد سموتَ بِنا وذُلَّ الحاكمُ
هذا طريقُ المجدِ أنت سلكتَهُ
متوهِّمٌ من ظنَّ أنَّك نادِمُ
زَعْزَعْتَ أركانَ الضلال بثورةٍ
لا ما ثناك مع الطُّغاةِ تصادُمُ
لا لم تهادِنْ في الورى متكبِّراً
بلْ كنتَ تصفعُ ظالِماً وتُخاصِمُ"
إن جمالية الرؤية الشعرية تبرز بكامل احتدامها ورؤاها الصادمة من حيث القيمة والفاعلية والحساسية، من خلال التفاعل الجمالي والتكامل الفني بين الأبيات، إذ إن كل بيت يتضافر مع الآخر، محققاً قيمة جمالية في تحفيز الرؤية الرثائية التي تصف مناقب الشهيد في حياته، طريق المقاومة ضد الفساد وأئمة الضلال الذين سرقوا حق الضعفاء، ونالوا منهم ما نالوا، وهذا ما دل عليه بقوله:[ زعزعت أركان الضلالِ بثورة/ لا ما ثناك مع الطغاة تصادم]، وقوله:[ لا لم تهادن في الورى متكبراً بل كنتَ تصفعُ ظالماً وتُخاصمُ]، فكل جملة تشكل قيمة جمالية في تحفيز الرؤية الشعرية، وهنا جاء موضوع الرثاء ليس تقليدياً مباشرة بالبكاء على مناقب الفقيد، وإنما بتعدادها بأسلوب جمالي ليكون الرثاء محطة للشعرية وليس منتزعاً منها، فالقارئ الحصيف يدرك شعرية العجمي في الانتقال من رؤية إلى رؤية، ومن دلالة إلى دلالة دون ان نلحظ ـأي نشوز أو تنافر في الدلالات من حيث الإيحاء والحساسية والجمال، وكأن كل بيت يشد الآخر، ويشكل قيمة جمالية في تكوينه من حيث الفاعلية والرؤية والحساسية والجمال، فالقارئ يتحثث الرؤى الجمالية التي يثيرها الشاعر في تشكيل القصيدة من حيث القيمة والفاعلية والرؤية الجمالية.
ولو دقق القارئ في مدى التفاعل الجمالي بين الأبيات الاستهلالية وباقي الأبيات لخلص إلى نتيجة مهمة، وهي أن القصيدة تشكل لحمة تكاملية منسجمة من حيث القيمة والرؤية وبث المناقب والخصال الجميلة التي يمتاز بها الشهيد، فهو رمز العطاء والتفاني والتضحية في الحياة، ورمز الصمود والتصدي والإصرار على مواجهة الظلم حتى الرمق الأخير من الحياة، وهذا ماجعل قصيدته قمة في الاستثارة والفاعلية والرؤية في قيمتها الرثائية لتكون من روائع الشعر المعاصر في الرثاء.
وصفوة القول: إن الفاتحة لاستهلالية للقصيدة كانت مثيرة في إيقاعاتها ورؤاها منذ الدفقة الاستهلالية، وهذا دليل حرفنة واستثارة في التشكيل،أعتدنا عليه عند العجمي، فهو يختار الفواتح النصية الاستهلالية المثيرة التي تحفز الدلالات الشعرية في القصيدة لتبرز كقيم إبداعية نشطة تثير الشعرية، وتحقق إيقاعاتها الجمالية.
2-التكامل الجمالي:
ونقصد بالتكامل الجمالي: تفاعل الأبيات الشعرية فيما بينها لتحمل دلالات كثيرة تثير اللذة الجمالية في التلقي الجمالي الآسر، وهذا يعني أن فاعلية الرؤية الشعرية تتحقق من خلال مظاهر الاستثارة الجمالية التي تثيرها الأنساق الشعرية لتحقق قيمتها ورؤاها النصية.
والتكامل الجمالي – في أبيات هذه القصيدة- يدلل على بلاغة النسج الشعري، إذ إن كل بيت شعري يقتضي الآخر بجميع ما يبثه من رؤى ودلالات تصف مناقب الشهيد وتبرز بوصفها قيم جمالية تحفز الشعرية وترتقي بمثيراته التكوينية، كما في قوله:
رجلُ الشَّجاعةِ والمروءةِ والإبا
بطلٌ وشأنُك في الورى متعاظمُ
هذي دماؤك للزمانِ مشاعلٌ
تغزو الظلامَ تُبيدُهُ وتُداهمُ
كرّارُ في خوضِ المعاركِ قاهرٌ
شهدَتْ إليك بطولةٌ وملاحمُ
صدّاحُ في قول الحقيقةِ صادِقٌ
والأرزُ يشهدُ والوفا والعالمُ
حطَّمتَ أركانَ التعصُّبِ قائداً
مارونُ سارَ على خطاك وقاسِمُ
ياقائدَ الثُّوّارِ صوتُك صاعِقٌ
برقٌ ورعدٌ في المواقفِ حاسمُ
ياثورةَ الأحرارِ ذاك محمَّدٌ
نسرُ الفضاءِ على مداركِ حائمُ
يا أُمَّةَ الأبرارِ ذاك محمَّدٌ
نجمٌ مشعٌّ في سمائك دائمُ
يا أمَّة الثّوّار ذاك محمَّدٌ
هو قائدٌ متمرِّدٌ ومُصدامُ
يا أُمَّةَ الفقراءِ ذاك محمَّدٌ
سندٌ لكمْ وركائزٌ ودعائمُ
هذا الشَّهيدُ كتابُهُ بيمينهِ
وبهِ على الطّاغوتِ حُكمٌ صارمُ
زُمرٌ على كلِّ المناصبِ أفسدَتْ
عمَّ البلادَ مجاعةٌ وجرائمُ
زمرٌ بنا حكَمَتْ طغتْ وتجبَّرتْ
وإذا المذاهّبُ نقمةٌ وتَخاصُمُ"
هنا، تبرز الدلالات الشعرية بقوة فاعلية التكامل الجمالي في الأبيات الشعرية لإبراز مناقب الشهيد العظيمة في النضال والتضحية ضد الظلم، فراح يعدد الشاعر خصال الفقيد ومناقبه في النضال والتضحية لدرجة أن كل بيت يشد دلالة البيت الآخر ويتكامل معه في استثارة الرؤى الجمالية الخلاقة التي يمتاز بها الفقيد، فهو أمة الفقراء في مقاومة الفقر ومد يد المساعدة للمحتاجين الضعفاء، وهو رمز المقاومة والمجابهة والنضال والتضحية، وهكذا جاءت الأبيات متكاملة في استثارة الدلالات الجمالية في تعداد خصال الشهيد والقيم النضالية والإنسانية التي تحلى بها، وهكذا يشكل الشاعر التشكيلات الشعرية الفاعلة في تحفيز الرؤية الجمالية واستثارة إيقاعاتها النصية البليغة، من خلال فاعلية التكامل الجمالي بين الأبيات، وهذا دليل أن التكامل الجمالي أيقونة علائقية مهمة في تحفيز المغزى الكلي والدلالة الكلية التي ترمي إليها القصيدة وهو أسطرة موضوع الرثاء ليكون الشهيد أسطورة في المقاومة مقاومة كل مظاهر الفساد والظلم وهذا الشيء الغالب على الأبيات وإيقاعاتها النصية، كما في قوله:
بيروتُنا ثكلى تعضُّ جراحها
والمجرمُ المغرورُ فيها الحاكِمُ
ومزارعٌ في كلِّ صوبٍ أُنشِأتْ
سرق الطُّغاةُ كنوزَها وتقاسموا
سقطَ الطُّغاةُ بوحلِهم وضلالهِمْ
فإلى متى شعبُ الكرامةِ نائِمُ؟!
قدْأُتْخٍمَ الحكّام نهباً أسرفوا
والشَّعبُ في عهد المصائب صائمُ
قدْ جاعَ شعبٌ والغرابةُ انَّها
صمتتْ على جوع الشعوبِ عمائمُ
سُحْقاً لحكمٍ فيه يُغتالُ الورى
والشَّعبُ للسُّلطان عبدٌ خادِمُ
ياقائدَ الثّوار جئتك ثائراً
ولديَّ منك مناقبٌ ومكارمُ
من ظلمة الأوغاد انت مهاجرٌ
تمضي ووجه الأرض اسودُ قاتمُ
أدميتَ قلبي في فراقِك ياأخي
فالقلبُ محترقٌ بصدري وارِمُ
قدْ غصتَ في بحر المنايا درَّةً
وأنا على موجِ المنايا عائمُ
لكنني رغم الفجيعةِ صابرٌ
بالسَّيفِ اكمل ثورةً وأقاوِمُ
أسمى العطاء مدى الحياةِ شهادةٌ
أعطى وما نالَ الشَّهادةَ حاتمُ
هنا، تبرز تقنية التكامل الجمالي في بث الدلالات الانفعالية الصاخبة في تقريع الحكام الفاسدين الذين سلبوا حقوق الشعب ومصوا دماءه، وهكذا يعدد الشاعر باستثارة جمالية تقريعية صادمة الواقع المرير الذي تعيشه الشعوب في ظل الحكام الفاسدين الذين يمصوا دماء الشعب وينالوا من كرامته وعزته، وهكذا جاءت الأبيات حافلة بالدلالات الانفعالية التقريعية المنددة بالظلم وتحرض على المقاومة والتضحية والنضال ضد هذه الفئة الظالمة حتى الرمق الأخير من الحياة ليسيروا على ماسار عليه الشهيد المقاوم محمد حسين عجمي، شقيق الشاعرالذي اقتبس من هديه الكثير من المظاهر البطولية ليكمل مشواره في النضال والتضحية والوفاء.
وهكذا شكلت تقنية التكامل الجمالي قيمة تحفيزية مهمة في استثارة الدلالات الشعرية المقاومة التي تبرز بوصفها مثيرات تحفيزية تجعل نسق الأبيات تصب في خانة واحدة (خانة المقاومة والصمود والتصدي، ضد مظاهر الظلم وأشكاله ومسبباته كافة، وهذا ما يحسب لهذه التقنية في إبراز تلاحم الأبيات الشعرية وانسجامها وتكاملها على المستوى الفني.
3-القفلة النصية المثيرة:
تعد القفلة النصية المثيرة من المغريات النصية التي اعتمدتها القصائد الشعرية المؤثرة في إيقاعاتها ودلالاتها النصية، وتعد هذه التقنية من مغريات قصائد وهيب عجمي كلها من حيث الفاعلية والاستثارة والتأثير، فهو يختار القفلة النصية التي تترك إيقاعها في نفس القارئ أكبر فترة ممكنة من الزمن، لأن العجمي يشكل قصائده بزفرة واحدة ونفس طويل يستمر على نفس الوتيرة في الاستثارة والفاعلية والتأثير، ولهذا تبدو قصيدته متماسكة في إيقاعاتها وتشكيلاتها النصية، ومن هنا تبرز الدلالات وتزدهي بإيقاعاتها الجمالية الخلاقة التي يرتكز عليها العجمي في تحفيز رؤيته الجمالية المؤثرة،كما في قوله:
ستظلُّ دنيانا لثوّارِ المدى
حتّى ولو بلغ المناصبَ ظالمُ
كلُّ الوفا متمثِّلٌ بمحمَّدٍ
شعبٌ بحبِّك يامحمَّدُ هائمُ
نجمُ الثَّرى في كل قلبٍ ساكنٌ
وبنورهِ قلبُ المحبًّةِ حالِمُ
إن غبتَ عنّا ياطبيبَ بلادِنا
فعلى جبين الفجر نصرُك قادِمُ
في كلِّ عصرٍ إنتصارك بازغٌ
وعلى شفاهِ الفجرِ ثغرُك باسمُ"
هنا، تأتي القفلة النصية محكمة، وتمثل خلاصة القصيدة في إبراز عظمة الشهيد، فهو رمز للشهيد البطل المقاوم الذي ملأ الدنيا صداه وأثره وقيمته، لتزدهي لبنان به على مر الأجيال، فهو فجر النور والانتصارات المشرفة، وقدم روحه رخيصة في سبيل قضيته المقاومة وثبات موقفه النضالي، وهكذا وفق الشاعر في جعل القصيدة لحمة متكاملة جمالياً من أولها لآخرها، وهذا ما يحسب للشاعر في هذه القصيدة أنه شكلها بنفس واحد مقاوم يدل على فاعلية التكامل الجمالي والتفاعل بين الأبيات لتحقق وحدتها الجمالية وإيقاعاتها المتكاملة.
*تعليق على القصيدة:
تشكل القصيدة رؤية جمالية تكاملية من أولها لنهايتها، وهي في قصيدة رثائية قد تبدو للبعض قصيدة رثاء عادية،وهي قصيدة تفوح بعبير الجمال واللذة وشاعرية المشاعر العاطفية المحمومة التي ينقلنا إليها الشاعر في سياق عاطفي شعري ملحمي الرؤية والتوجه، وهي ذات خصوصية إبداعية في الاستثارة والتأثير،لأنها معجونة بدماء العاطفة والمشاعر وطبيعي أن الكلام الذي يخرج من القلب يثقب القلب ويعلن بصمته، وهذه القصيدة تشكل صرخة صادمة في وجه الطغيان الذين نالوا بجريمتهم الخزي والعار، وفي الوقت ذاته أكد الشهيد عظمة تضحيته وصموده ونضاله العظيم، فالقصيدة على المستوى الإبداعي حققت شعريتها وحققت رسالتها الإنسانية في الدفاع عن حقوق الضعفاء حتى الموت، فكانت قصيدة شاملة بمؤثراتها ورؤاها الإبداعية لتسمو بمؤثراتها النصية درجات من الاستثارة واللذة والفاعلية والبلاغة والتأثير,
وأخيراً، يعلن الشاعر وهيب قصيدته في قصيدته (نجم الميادين)أنه شاعر رثائي من الطراز الرفيع من حيث فاعلية الرؤية النصية والتمرس في الانتقال من رؤية إلى رؤية، ومن دلالة إلى دلالة، لتكون قصيدته هذه من القصائد المتلاحمة برؤاها ودلالاتها النصية من أول كلمة في تشكيلها إلى آخر كلمة في نسقها، وهذا ما يحسب لها على المستوى الإبداعي. أي إن جميع أبياتها متكاملة لتصب في خانة واحدة(إعلان المقاومة والصمود والتصدي حتى الرمق الأخير من الحياة)،وما شهادة الشهيد محمد حسين العجمي إلا رسالة للعالم أجمع أن يقاوم ولا يستسلم حتى النهاية. وهكذا استطاع أن يحقق رؤيته الجمالية بإحساس شاعري ورؤى جمالية عظيمة في إيقاعاتها وبناها ورؤاها الدالة.
الحواشي:
(1)اليوسفي، محمد لطفي- تجليات في بنية الشعر العربي المعاصر، ص92-93.
(2)ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، أطروحة دكتوراه، جامعة حلب، إشراف:أحمد زياد محبك، مخطوطة جامعة حلب، ص264.