قراءة في أعمال الشاعر هارون هاشم رشيد
كتب الشاعر العربي الكبير هارون هاشم رشيد مسرحيتى «السؤال» و«سقوط بارليف» وقد كتب المسرحية الأولى عقب نكسة 1967 والمسرحية الثانية بعد نصر أكتوبر 1973 ومن خلال قراءة المسرحيتين يمكن أن نتعرف على أهم الملامح الرئيسة لمسرح الشاعر الذى كانت وما زالت القضية الفلسطينية هى همه الأساسي ومن ثم يظل المحور السياسى هو المرتكز الفكرى لمسرحه الشعرى وهذا ما جعل الحوار الشعرى سلساً ومؤثراً , فصيحاً وتلقائياً , ومن ثم كانت هذه الشحنة الجمالية في المسرحيتين ومن خلال قراءة المسرحية الأولى "السؤال" والتى تشكل سيرة ذاتية للقضية الفلسطينية منذ عام 1947 "عام التقسيم" أو قبل ذلك بقليل حتى حرب أكتوبر 1973 , ورغم أن النص المسرحي لا يكتمل إلا بعرضه على خشبة المسرح لكن قراءة العمل المسرحى مقتصرا على كتابته عملية مشروعة وكل قارئ للمسرحية يخرج العمل خلال مخيلته بطريقته هو .
في مسرحية السؤال يطرح الشاعر سؤالاً مهماً : قد يسأل هذا الطفل ويمعن في التكرار : كيف يفرق بين المحتل .... وغير المحتل؟ كيف يفرق بين العربي وغير العربي؟ كيف يفرق بين الإنسان ... وغير الإنسان؟ ثم يطرح السؤال في النهاية بصيغة أخرى:
نسألكم نسأل كل الأمة ... نسأل ... نسأل
ماذا نفعل ... ماذا نفعل ... ماذا نفعل ...؟
إن محاولة الإجابة على السؤال تستدعى أن نبدأ القراءة منذ بداية المسرحية وليست القيمة المعرفية التي يطرحها العمل منبتة عن القيمة الجمالية التي فجرها الشعر أثناء المواقف الدرامية ومن خلال شخصيات اختارها الكاتب بدقة ورسمها بحيث تؤدى كل شخصية دورها كاملاً ... يجسد الكاتب المشهد المسرحى من خلال أسرة فلسطينية تضم الأب والأم وابنهما راجح ومن خلال بعض الأصوات أ يضاً يبداً الكتاب في نسج القضية حتى يتعرف عليها المتلقى سواء كان مشاهداً أم قارئاً وهذه إحدى القيم المعرفية في المسرحية .
1
صوت : موسى فيها طورد .. فر إلى رأس الجبل ... وناجى ربه ... عيسى حوصر فيها حتى اغتالوه . . أحلوا صلبه . . . ومحمد أسرى الله به ليلا للأقصى ثم رجع .
ملعون من لا يعطى هذا البلد ولا يحميه ملعون ... ملعون .. ملعون .
تبدأ القضية بعد الاحتلال الذى حدث بسبب تواطؤ قوى خارجية وداخلية ويدفع شعب فلسطين وخاصة الشرفاء منهم الثمن، وتبدأ ملحمة الكفاح والمقاومة ثم يفاجئون بقرار التقسيم ثم حرب 1948 وهذا ما جاء على لسان الوالد في لغة تعانق فيها الشعر مع الموقف الدرامى في مشهد مسرحى مؤثر ومشحون بدرجة عالية :
الوالد : وأتى عام التقسيم
فانتفض الشعب يواجه قدره .... ويدبر أمره
باع الفلاحون مواشيهم
ترك العمال مصانعهم
خندق كل الشعب يقاتل حتى الموت
يرفض أمر التقسيم وأمر التمزيق
فإذا السادة في عالية ... وفى لوزان ... وفى بلودان
يأتمرون لأجل الحرب
ويقولون الحرب ... الحرب
وبقية ما صار ... تدريه ... وتدريه الأجيال
وتمضى المسرحية تجسد هذه الفكرة عبر تحولاتها وتطورات الحدث فيها يؤرخ الشاعر هارون هشام رشيد للجرح الفلسطيني الذى مازال ينزف من قرار التقسيم إلى نكبة 1948 إلى نكسة 1967 إلى معركة الكرامة .
إن الكاتب في هذه المواجهة يدين العملاء من أبناء الأمة ويدين أحياناً أولى الأمرالذين ساهموا في إراقة الدم الفلسطينى وهذا ما جعله يطرح السؤال الذى يشكل العمود الفقرى للمسرحية , إنه يكتب بلون الدم الذى يسفك يومياً وبحرارة الدموع التى تنهمر من محاجز اليتامى ومآقى الثكالى والمشردين من أبناء الشعب الفلسطينى في الشتات القاسى .
رسم الكاتب شخصية عايدة هذه الفتاة الفلسطينية الفدائية ببراعة واقتدار من خلال حوار
مسرحى شعرى درامى كما جاء على لسان الوالد لينسج بدايتها .
2
الوالد : عايدة هذى ... ابنة عمك
نشأت .... لاتذكر إلا ذاك البيت المهدوم
عايدة ... ل اأنسى ذاك اليوم
يوم أتتنا يحملها شيخ الجامع
كانت طفلة .. تلعب فى الشارع
أصغر من أن تفهم ماذا يجرى
فجأة .... واشتعل الحى
دانات المورتر أخذت تهوى
فوق الأسقف والطرقات
وجرت عايدة
فزعت للبيت
وكان رصاص يهمى مثل رشاش المطر غزيرا
وعنيدا ... وعنيفا
تاهت
لم تجد البيت
كأنت ألسنة النار
تأكل أنحاءه .. أبوابه ... جدرانه
ورآها شيخ الجامع تبكى
وأتى بالطفلة
وعرفنا ماذا بعد
احترق الصدران .. صدر الأم .. وصدر الأب
ذهبا . . . . . . . . . . كانا في ريعان العمر
وكانت عايدة بكر لقائهما
3
إن عملية زرع المعلومات لهذه الشخصية كما يسمونها في لغة الدراما كانت تمهيداً
لمشروعية كفاح ومقاومة وفدائية عايدة , لأنها هي التى فقدت الأب والأم على يد المغتصب هذا العدو الذى داس على كل شئ ولم يبق على أية عاطفة أو قيمة لأنه مجرد من كل ذلك ومن ثم تشكلت عايدة في هذا المناخ وقد عبرت هى عن ذلك وهى تحاول أن تنضم للتنظيم الذى ضم كل من راجح وظافروعبد القادر وقد وافقوا بعد صعوبة بالغة على ضمها , فقد أجبرتهم على ذلك :
عايدة : عايدة اسم من غير مسمى
وكيان من غير موجود
ووجود من غير كيان
عايدة شئ موجود مفقود
عايدة هذا الطاعون المرفوض
هذا الكابوس الجاثم فوق صدور الناس
عايدة ماتت من زمن
دفنوها خنقوا فيها الإحساس
عايدة ... عايدة
ليست كالناس ... ليست كالناس
وبعد قبولها في التنظيم تشعر أنها وجدت نفسها لأنها سوف تحقق وجودها , فقد اختارت طريقها .. إنها الاختيار الصعب لأنه لا يوجد بديل آخر هو الاختيار الحتمى الذى فرضته ظروف الواقع وهنا يتفجر الشعر بدلالاته الدرامية :
عايدة : الآن ارتحت
الآن وجدت طريقى
بعد التشريد وبعد التيه
الآن وجدت سبيلاً أمشى فيه
الآن وجدت أنا شيئاً أحكيه
فخراً يا خيمات التيه
ودماراًً يا أيام التيه
فالآن الآن ... بكفى أصنعه
قدرى أمليه
4
وتصل عايدة إلى قرار التضحية والفداء حتى تستمر الثورة .. إنه ثمن الحرية والاستقلال تدفعه عن طيب خاطر، عايــدة هــي فلسطين محور الوجود العربي , لقد نجح الشاعر في نسج شخصيتها .
عايدة : " تدخــل شارع عمــر المختــار وتنبــه أصحـــاب الحوانيــت أن يغلقوها "
اغلق .. شئ ما سيزلزل هذا الشارع
اغلق أنت ... وأنت ... وأنت
اغلق يا شارع عمر المختار
فأنا أخطو
وجهى يقتحم الأسوار
وحهى يتقدم
هل تعرفنى
هل تذكر عايدة . . . ابنة مدرسة الزهراء
وافدة من عمق معسكرها
تستشرف آمالاً خضراء
تحمل في الكتف حقيبتها الممزوقة
تبحث عن فجر وضاء
هل تذكر مريلتى الزرقاء
هل تذكر " شبرتى " البيضاء
تعرفنى ... تعرف وجهى
يا شارعنا ... تحفظ كل الأسماء
أما مسرحية " سقوط بارليف " والذى وصفها الكاتب بأنها مسرحية شعرية عن العبور .
فقد جاءت أقرب إلى الأوبريت الشعرى لأنها لم تحفل بالأحداث المسرحية التى تنمو درامياً بل جاء الشعر معبراً عن اللحظات التأريخية وكونها جاءت أقرب إلى الأوبريت لايقلل من
ثرائها الفنى، حيث ينتقل بنا الكاتب عبر مجموعة من المشاهد أو اللوحات وصل عددها إلى ثمانية مشاهد اللوحة الأولى في ريف مصر والثانية في موقع من مواقع العدو الإسرائيلي في خط بارليف والثالثة في صالة ترفيه من موقع من خط بارليف , وهكذا تتعدد اللوحات والمشاهد.
5
ومن خلال لغة شعرية مكثفة وحوار يتسم بالتوتر ويعبر عن وحدة الصراع الذى شكل جوهر الصراع العربى الإسرائيلي . وفى إحدى اللحضات الدرامية قبل العبور يقول حسنين البطل الذى استشهد أخيراً :
حسنين : الجبهة يا ست الدار
منذ أخذت مكانى ... في خط النار
تعلمت كثيراً وهضمت جميع الأفكار
تعلمت بأن كرامتنا في أن
تنتشر الحرية ... وتعود لنا سيناء
وغزة والقدس ... وكل فلسطين
والجولان الشماء
تعلمت كثيرأ
أحببت الدبابة والمدفع
والصاروخ الرائع
صاروخ الحية
ما أروعه ... يركض
خلف الطائرة , ويلقيها
أرضاً , ينشرها أشلاء
أما عن الشعر فقد لعب الدور الأساسي في البناء الدرامى حيث تضافرت فيه الصورة الشعرية البسيطة والمركبة تلك الصور التى مثل إبرة التطريز تشك فتوقظ , لقد فكر الشاعر بأسلوب الصورة وما الشعر إلا فن التفكير بالصورة , فالصاروخ يركض خلف الطائرة يلقيها أرضاً ثم ينشرها أشلاء كما يفعل المنشار في الأخشاب . . أما عن التركيبات الشعرية فقد امتلك الشاعر ناصية البراعة فيها من خلال تمكنه من اللغة وجمالياتها فجاءت الألفاظ على قدر
المعانى ومن ثم استطاع عنصر التصوير الشعرى أن يوصف الحالة عند المصريين قبل حرب أكتوبر .
الكل متعطش للقتال وللثأر من العدو الذى اغتصب الأرض أما في الجبهة الاخرى فإنهم مازالوا سكرانين بنشوى النصر غارقين في الملذات , وقد لفهم الغرور فلم يعد يشعرون إلا
6
بالزهو والتفوق الأعمى
عازار : والآن كافئونى .... بساعة
أو ساعتين ... اختلى
بحلوتى راشيل
إلى القدم
أشربها كأساً
تصب الخمر
في عرقى
وتطرد السأم
هيا ... اتركوا
حبيبتى راشيل
أشير: شيطان . . . . كم تتقن
التلفيق والتمثيل
دعها فإنها لى أنا
تعالى . . . أقبلى راشيل
وكان من الطبيعى أن تحدث اللحظة الفاصلة ويحدث العبور وتنتصر القوات المصرية وتدك خط بارليف ولكن السؤال الذى يؤرق الكاتب هو انعكاس ذلك كله على الشعب الفلسطينى في الداخل .
ومن خلال القدرة المتميزة على تطويع الشعر للمسرح وبناء الفكرة بناء درامياً , ورسم الشخصيات استطاع الشاعر هارون هاشم رشيد أن يقدم للمسرح العربى مسرحيتى " السؤال " و " سقوط بارليف " اللتين احتفيا بالقضية القومية " قضية فلسطين "، ومن ثم شق لنفسه طريقاً في المسرح هو مسرح القضية.