الأحد ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠١٩
بقلم الهادي عرجون

قراءة في المجموعة الشعرية «يداك أسمائي الغريبة»

يداك أسمائي الغريبة المجموعة البكر للشاعرة التونسية إيمان الفالح (1) تطل علينا بثوبها الأزرق الذي يغلب عليه الاعتدال و الصفاء و الاستقرار كما يعكس الحريات و الانعتاق و التحرر و الإحساس والعبقرية ويفتح الأفق للخيال، كما يعتبر لون الروح و قد يضفي هالة من الكآبة و الانعزال بالإضافة إلى العزلة ومشاعر الحزن قبل أن نغوص في المحتوى وكوامن المجموعة الشعرية الصادرة عن الثقافية للنشر والتوزيع بالمنستير سنة 2019 على مساحة 84 صفحة من الحجم المتوسط ضمت بين جوانحها 34 قصيدة نثرية أضفت عليها شاعرتنا أنفاسها و أعطتها من روحها و دقات قلبها الشيء الكثير لتخرج لنا نصوصا تزدحم فيها المشاعر بالإيقاع و الوجع بالألم و الغربة لتنحت على شفة الريح أصوات الغياب و تشهد خصومة الريح مع الطير، هي ذي إيمان الفالح تخلق من العدم أشياءها و من اللامعقول أدواتها الشعرية و أسلوبها في التعامل مع النص.

ننطلق من عتبة العنوان كعتبة نصية لها دلالاتها فالعنوان لا ينطق عن الهوى بل يأتي لإثبات شيء واقع في نفسية الشاعرة تبحث عنه في جرعات هذيانها وعن ذاتها التي تعاني غربة الشاعر و غربة المثقف وغربة الزمن و غربة المكان حتى باتت يدا المحبوب أسماءها الغريبة.

و انطلاقا من العنوان يتضح تكرار لفظ ( الغربة ) 17 مرة في كامل المجموعة لينفرد النص الذي حمل عنوان الديوان بالحيز الأكثر حيث تكررت هذه اللفظة 7 مرات مرتبطة بغربة الشاعرة النفسية " أيا ظلي الغريب" و هي عبارة عن لازمة تكررت في النص 3 مرات لتعبر عن واقع أليم و غربة الروح و بماض يسبح في وجع و يغرق فيه، تقول في نص يداك أسمائي الغريبة (ص11):

"أيها الهذيان الحبيب
هز إلي برمش كي أوغل في ماء القصيد
أيا ظلي الغريب
لك اغتراب الصخر في نبوءة الماء"
كما تقول أيضا في نفس النص (ص12):
"أنر قناديلك دلها نحو بيوت الوحشة و الفراغ
ليدح وجهك نورا
في فيافي مغترب
أيا ظلي البعيد
شجرة الليل عظامها موحشة
وحشة القلب المتيم ساعة الخلق الأولى
تشظت فتائلها أسراب حمائم
يا خالقي
رامت مناقيرها عناق السماء
و بايعت اغتراب آخر غيمة...
أيا ظلي الغريب
هز إلي برمش
كي أوغل في ماء القصيد"

كي توغل في ماء القصيدة، نعم إيغال في بحر الكتابة و غربة في ثنايا نص يكابد الشاعرة تصرعه ليصرعها تحاوره تارة و تبحر في ذكراها، تقول (ص:41)

"أجدني...
بكيت حين ضحكت
تذكرت
تذكرت هتاف الصغار
تذكرت ضحكة العشب
تذكرت أصابع جدتي، حبلى بألف شمس"

و هذا التكرار مرده جملة الحالات الوجودية التي تكابدها الشاعرة من وجع و قلق و حزن و ألم. للهروب من الواقع، حيث نجد استغلالا جديدا و متميزا للتكرار اللفظي و هو ما اضطلع بإبراز الجانب الحسي في النص، مع العلم أن هذا التكرار لم يكن تكرارا مستهجنا أو تكرار ا ينم عن ضعف و إنما هو بمثابة المنساج "النول" الذي يستعمله النساج لحبك نصه و تلاحم بنائه الشعري و تفعيل إيقاعه الموسيقي تقول: ( ص:51)

"تورمت ذاكرتي حين سقطت على حبل القفز
لكن ما زلت أذكر
ما زلت أذكر سيرة بيتنا الحجري المقتول بذنب الريح"

فهيبذلك تنسج من ذاكرهاو ذكريات الطفولة أملا في الخلاص و أملا في الانعتاق و التحرر من سلطة الروح الغريبة عن جسها لتكسر قاعدة النظام التي منحت أفكارها للفوضى ترتبها ليخرج النص عن سياق المألوف لكشف الفكرة و تعرية المرامي التي تريد الشاعرة إيصالها للمتلقي، بتقنية التكرار و التي عبر عنها الدكتور صميم إلياس كريم بقوله: " و تكمن شاعرية التكرار و قيمته الإيقاعية و الدلالية بخاصة في أن مبدع النص/ الشاعر يحاول الاتكاء على تقنية التكرار أن يكشف لنا عن الأمور و الأشياء و النوازع التي يعني بها أكثر من غيرها، فهي عباراته لأنه تشكل مرآة صادقة تعكس ما يخالج الشاعر ويعتري وجدانه "(1).

فالتكرار في ديوان "يداك أسمائي الغريبة" له أهمية بالغة، بما أن التكرار في الشعر الحديث يهدف لاستكشاف المشاعر الدفينة و تبين الدلالات الداخلية للنص كما يعد أحد المسالك المؤدية بالضرورة إلى إفراغ المشاعر المكبوتة و الذي جاء في سياق شعوري حزين، و هو رغم تنوعه لم يأت عشوائيا كما قلنا و لكنه جاء لإثراء القصيدة إيقاعيا و كذلك لإثارة المعنى بتركيب جديدة لم تكن دارجة أو شائعة الاستعمال في الشعر الحديث خاصة مع أنسنه لفظ ( الريح ) التي تكررت 22 مرة حيث بدت أفعال الريح أفعال إنسانية فهي (تبكي و تضحك و تغني و للريح ظهر و تثمل و تطارد تذبح و تسرق و تقتل) كأن الشاعرة هنا تحاور شخصا أو ذاتا :(على شفة الريح(ص9)- (الريح هناك منشغلة (ص26)- سيرة بيتنا الحجري المقتول بذنب الريح(ص51)- الريح سرقت سجادي (72)...) و غيرها من العبارات الدالة على شخصنة الريح و خاصة في نص بيت مقتول (ص51-52) بصفة متواترة و بأكثر كثافة:

"مازلت أبحت عن السكين الذي ذبحت به الريح
بيتنا البرئ
لم أعثر إلا على عرجون دم شاحب معلق
في كبد السماء الشحيحة
سحبته فانسكب دمعي شلالا
قهقهت الريح لتخبرني
أنه الضلع الوحيد المتنفس في أي
تركت الريح تغني في دمي
أتلوى كلحن حزين من سابع ثقب في ناي قلبي"

و لكن هنا لنتوقف عند لفظ الريح في التفسير الديني، لماذا لفظ الريح و ليس الرياح إذا نظرنا للمنظور القرآني الذي يشير أن لفظ الرياح يدل على موضع الرحمة في القرآن، والرياح يأتي منها الفوائد الكثيرة، مثل إصلاح الهواء ، وإثارة السحاب، ونزول المطر ، ومنها أيضاً الرياح المُبشرات التي وردت في القراًن بلفظ "المبشرات" مرة ، وبلفظ ” بُشراً " مرةً أخرى حسب المفسرين.أما لفظ الريح فيدل على معنى العذاب والهلاك، حيث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يفزع إذا رأى الريح ويقول "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به"، وسُميت لفظ الريح في القراًن بالعاصف، في قوله تعالى "ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره".

فهي هنا عند الشاعرة إيمان الفالح مصدر الحزن و الألم و القلق الدائم و الخوف من الماضي و الخوف من المجهول، فيغدو حزينهاحزنا يبحث عن الأمل و عن الذات المفقودة، تقول (ص52-53):

"مازلت أبحث عن السكين الذي ذبحت به الريح
بيتنا البرئ
لم أعثر إلا على عرجون دم شاحب معلق في كبد
السماء الشحيحة
سحبته فانسكب دمعي شلالا
قهقهت الريح لتخبرني أنه الضلع الوحيد
في أبي
تركت الريح تغني في دمي
أتلوى كلحن حزين من سابع ثقب في ناي قلبي"

و هذا الحزن ولد لدى شاعرتنا غربة تحاول الخروج منها فهي كالريح الثملة التي تترنح عنوة في مخيلة الوقت تصارع ذاتها و انفعالاتها و هذا ما يعكس ألوان الحزن و الشجن المصاحب لإيقاع النص و الذي جعلها غريبة عن جسدها، تقول (ص71):

"أنا روح غريبة عن جسدي
يداي تنفلتان مني
خطوي يذهب بغير رغبة وجهتي
أنا الريح ثملة أترنح عنوة في مخيلة الوقت"

و على الرغم من شعورها بالقلق فهي تصطدم بظلها فلا أمل للرجوع و لنها تحاول الخروج من غيمة الوقت و من غيمة الذاكرة و الماضي المحزن و مع هذا فهي تبحث عن قتل الخوف في ذاتها و محاولة الرجوع، تقول في نص " أصطدم بظلي"(ص77):

"كنت أنزع اللافتات
وأركض عكس الاتجاهات
فأصطدم بظلي
كلما حاولت الرجوع إلي
وأسقط ... فيسقط نصف القمر خلفي و نصفه الآخر
تشربه السماء من وجهي"

و في الختام يمكن القول أن نص إيمان الفالح كشف عن روح شاعرة أبحرت بنا نحو عوالم صبغت لونها بألوان من الأحزان و الأشجان و الغربة و هو ما يعكس الحالة النفسية للشاعرة أثناء كتابة نصوصها و التي أرى أنها كتبت في نفس الفترة لما فيها من معجم متكامل و متجانس، كما يمكن القول أن هذا الانفعالية المعتمدة بتقنية التكرار (تكرار الكلمات) أدت دورها الوظيفي في تنامي الإيقاع داخل النص الشعري.

(1)- إيمان الفالح: شاعرة تونسية أصيلة القيروان.
(2)- صميم إلياس كريم: التكرار اللفظي و أنواعه و دلالاته قديما و حديثا (رسالة دكتوراه)ص138، جامعة بغداد كلية التربية ابن رشد،1988.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى