الأربعاء ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم أشرف الخريبي

قراءة في تجربة حسن السبع الشعرية

عبر التفاصيل الثرية في ديوان (زيتها وسهر القناديل) الذي يضم 37نصاً، والمنشور في أوائل التسعينات (طبعة أولى 1992)، وديوان (حديقة الزمن الآتي) الذي يضم 22نصاً، والمنشور في أواخر التسعينات (طبعة أولى 1999) تتجلى روح الشاعر حسن السبع خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة نسبياً بين كل من الديوانين، والتي ربما يبدو الاهتمام بها ألقاً وحضوراً مكثفاً لعنصر الزمن واللغة (المعنى) في النصوص، أكثر منها زمناً موضوعياً وموقفاً من واقعها المعاش بكافة التفاصيل في كتابات الشاعر وشعراء الوطن العربي بصفة عامة، خاصة في ظل هذه المتغيرات على الساحة العربية والتي لا يمكن فصل الشاعر أو أي كاتب عنها. غير أن زوايا الرؤيا تختلف، ربما في الفترة التي تلت هذه النصوص زمنياً أيضاً، حيث تجلت أزمات أعمق وأكثر أثراً في نفوس الشعراء والكُتَّاب.لا يمكن فصل الكاتب عن زمنه الحادث به مجموع هذه المتغيرات، غير أن هذه النصوص ولعة باللحظة الإنسانية من خلال موقفه من الزمن في تلك اللحظة الحاضنة لموقف الإنسان المروع والمسكون بالكتابة، الحبيبة، الجميلة، (اللؤلؤة):يا مساء الحنين للؤلؤة...

تكسر الأبد المتراكم فينا، نسافر في الحبر، في تعب القلب.. إنه المتدارك يطرق قلبي وأنت على شفتي القصيدة.

ومن اللؤلؤة حتى «أريج المعنى» المنثور كعقود الياسمين في ديوانه (حديقة الزمن الآتي) عبر تفاعل الزمن موضوعياً، مع تصور النصوص والصورة الشعرية الهادئة البسيطة المكثفة بعمق اللحظة، بكل تراثها واحتفائها، والشاعر تشغله اللغة والشكل الفني لها وكذلك تجليها في النصوص، وتبقى من أهم طموحات النص في تفجيرها واستغلال طاقتها بصورها وبلاغتها. هكذا يدخل أزمنة الكتابة ولغة المعنى. ويبقى ذلك الواقع المهموم المؤرق في انتظار لؤلؤة الحلم كي تخرج الوردة، في الليل، في الفجر، في الصبح، في زمن تشتاق إلى الكتابة أو يشتاق إليها، في أي وقت وكل وقت عبر تجارب ثرية متألقة وبديعة، ولتقديم رؤية فنية واضحة وعميقة ذات دلالة. وخلال تواصلي مع هذه النصوص الرومانسية، وعبرها جميعاً، بداية من لقاءي معها منذ أول نص قرأته، ومنتهياً عند ديواني الشاعر، لاحظت أن عنصر الزمن أو قل البنية مرتكز أساسي لدى الشاعر، وهاجس يسيطر على عناصره الفنية، ويقيم معها حواراً دافئاً، كي يستأنس الزمن أحياناً، وينقل الزمن للوعي الفني أحياناً أخرى، محاولاً الوصول إلى الدلالة وطرحها كي يعيد إنتاجها في النص ثانية بتركيز شديد، وهي الدلالة التي تملك قدراً من الكلية باستخدام عنصر الزمن الذي له دور فاعل وحضور دائم في كل النصوص وليس بعضها وذلك في ديوان (زيتها وسهر القناديل) خاصة.

ولا شك أن المقارنة بين الديوانين تفرض نفسها في كل الأحوال، غير أنهما يسيران معاً في اتجاه واحد في النهاية، وربما تنطبق مسألة البنية الزمنية على الديوان الأول (زيتها وسهر القناديل) أكثر شكلياً على الأقل، رغم عنوان الديوان الثاني وهو حديقة الزمن - أيضاً - الآتي.. وأرق الزمن في الديوان الأول أرق اللحظات الزمنية الموضوعية لموضوع النص وفكرته أحياناً، أو كمعادل موضوعي للخبرة الإنسانية وتماهي لحظاتها وتداولها في النص، وكذلك الصورة الشعرية وتشكيلات البناء المختلفة حضوراً حياً ومتسقاً مع مكونات النص بعد ذلك. حيث نكتفي بحضورها الكلي ولا نستطيع أن نفهم دلالتها إلا في نهاية النص ككل:

"ينسج المنفى من الوقت تفاصيل كفن ليغيب السوسن المكسور في الصمت ومن غير وطن
زمن يعبر هذا الأفق أم ظلٌّ مسجى في الزمن"

غير أنها لم تتعد هذه اللحظات، فتبقى في مكانها مرصودة زمنياً وواقعاً معاشاً ومحاكاة فنية في النص، دون أن تتخذ شكلاً في واقع النص أو تفاعلاً مستقراً مع بنيته وصوره، لتصبح موقفاً من الزمن محقق الوجود، أو تتحول إلى الموقف العام، غير أنها تكتسب هذه الخبرة والميزة بعد ذلك في الديوان الثاني ببساطة وألفة، وتصبح أرقاً مثل سابقه لكنه يحمل هموماً كثيرة، ويضيف للنص بعداً آخر نابضاً بزمن الكتابة. وتصمت العبارة قليلاً، وتصمد موضوعياً لتنقل إلينا هذه الخبرة الزمنية بعمومية أكثر وموقف صارم من الزمن، مع تراكم الخبرة الإنسانية وتدفقها، ويصبح الأرق الزمني ليس أرق اللحظة فحسب. إن الزمن موقف من اللحظة والموضوع وباقي العناصر ويصبح الزمن فاعلاً بكامل العناصر في التجربة الشعرية والتشكيل والبناء كما في قصيدته الجميلة (القرين) وهو يقول:

«وابتدأت اليوم بالفوضى، وطلقت السكينة والوقار، بيدين فارغتين إلا من ضجيج الحبر، يأخذني لشقته التي.. لصباحها لون المساء، ولليلها طعم النهار».
هكذا هو الزمن موصوف تغيره وكنهه وكونه أيضاً، ومجموع متغيراته هي حصيلة الدلالة التي تفهم في نطاق النص ككل، وربما في نطاق الديوان كله، ليس كمعنى مكتمل، بل إيحاء تنيره الصورة الشعرية عبر فضاء النص. ويبدو اهتمام الشاعر بهذا الأرق غاية في الأهمية بشكل واضح وجلي في معظم النصوص أو كل النصوص في ديوان زيتها وسهر القناديل.

ويظل الزمن الموضوعي هاجس الشاعر يشف من خلف الصور والكلمات، وبشكل مباشر في أحيان أخرى، ضمن العناصر الفاعلة والمحركة للنص، راصداً هذا الزمن في كل المرات التي يدخل فيها للنص أو يرغب في الدخول إليه كحلم وكرؤى، ويرى الكتابة نفسها موقفاً من الزمن وضمن الفاعليات الأساسية في كتابة الشعر، كما في نصه الجميل (أزمنة اللوعة) كي يحدث تقسيماً ليس عفوياً بالطبع لليوم محدداً بالزمن مطروحاً على الذات التي مثلته (اليد الفارغة)، حيث يقسم النص إلى مواقف زمنية: فجر، ضحى، ظهيرة، عصر، ليل.. راصداً التغيرات والتوجهات بشكل ثري للدلالة وكيف تتبدى البنية الزمنية وتبقى في مواجهة الواقع المتأزم كي تستيقظ الحقيقة العارية في الضحى غير أنها في النهاية تهاجر في الصمت محققة انتصار الغموض والغياب في الرغبات المصادرة..

ويبدو الزمن تكويناً، مدخلاً أساسياً للنصوص وأساس تحركها الواعي عند الشاعر.
ومن بين الأدوات الفنية في جانب آخر منه تسيطر على أجواء النص وتحيله إلى مساحة متخيلة الصورة الشعرية بتشكيلاتها التي تتحرك خلال هذه المساحة الزمنية، بالمفارقة مع الذات أحياناً، أو المكان في أحيان أخرى، مستعيناً بصور جميلة التراكيب سهلة الإيقاع متناغمة تتهادى فيها الجمل الشعرية كأمواج تتراقص بشكل متواز.. وفرح الذي يعبر الماء، غير أنها تتسم بالحيادية في الديوان الأول. وتنحاز للذات في الديوان الثاني.

إن ذلك يتجاوز فضاء النصوص من حيث قدرتها على توليد نسق مميز، وتلك العلاقة العضوية التي تواقفت فيها الألفاظ مع دلالة طرحها، وأصبحت عنصراً من نظام النص إلى جانب الموسيقى والإيقاع الداخلي، من حيث التركيب اللغوي والتكرار والتوزيع والاعتماد على جرس بعض الألفاظ. فالصورة الشعرية سهلة الفهم، عميقة المعنى، بعيدة عن الانغلاق أو الوقوع في الغموض، ولكنها خارجة للتو من أجواء الرومانسية التقليدية في ديوانه الأول، ورغم تزايد الاهتمام بتراكم الصور، والمفردات الذهنية إلا أنها مليئة بالمشاعر الجياشة والحلم الرومانسي.

يلاحظ استخدام أساليب الحكي، والجمل الفعلية المكثفة الموحية بألق عن لحظات بعينها، تحكى داخل هذه المساحة الزمنية التي يمنحها الشاعر في صوره وتراكيبه الشعرية لليومي المعاش أو المتخيل في كل الأحوال، ومحاولة رصد الوقائع التي تركز بالأساس على لحظات مختلفة، واستفادة الشاعر من آليات القص، وإدخال الحكاية أحياناً ضمن العناصر، وتتجلى التشكيلات الشعرية ثرية الدلالة متوهجة ونابضة لحصار الواقع المعاش، ولهذه الدائرة الحصارية - حصار الواقع وحصار الذات في موقفها من الزمن. تتجلى جميعها في هذه النصوص: "لؤلؤة الوقت - أزمنة اللوعة - التفاتة إلى الثواني الحية - دفء" كل هذه النصوص وغيرها التي تكشف توجهها من العنوان إلى موقف محدد من الزمن.

في قصيدته (دفء) يقول الشاعر:

«التفتُ إلى الساعة الحائطية
كانت تعد الثواني لاهثة في المساء
كم أضعنا من الوقت سيدتي
عند باب الشتاء فاتنا أن للدفء حرفين حاء وباء»

وفي قصيدته الجميلة الثرية (انطفاءات اللون) يقول:

ينسج المنفى من الوقت تفاصيل كفن
ليغيب السوسن المكسور في الصمت ومن غير وطن
زمن يعبر هذا الأفق أم ظل مسجى في الزمن

يظل الزمن يحرك جمال هذه النصوص

والألفة والروح المعذبة الحيرى ضمن التفاصيل، الذات التي تتمحور في العالم، لكنه ألق وبريق وقت زمن ولا شك مورق مثل قصيدته: من رآه يمر

من هجير الظهيرة يستلُّ قامته ثم يمضي
خطى شاسعات المروج.. يقول له الضوء

«سر مثل رمح ولا تنكسر»

تقول له الأمنيات «اقترب.. كي تمر»

يمر.. وكان المدى مثل قيلولة الكهف تجتر ساعاتها
وخيوط الضياء التي تتسلل من كوة الحلم
تغتالها عتمة الوقت ثم تمنحها للخماسين تنثرها
في سبات الجهات

ديوان حديقة الزمن الآتي.

وهذا الجدول يوضح هذا الموقف لحصر مجموعة من القصائد، وكيف أنه لم يبق نص في الديوان دون المرور من خلال الزمن، أو غير ذلك الوقت الفاعل في النص، وله دور أساسي ينهض في بناء هذه النصوص.

عنوان القصيدة

شهرزاد
غياب
التفاصيل واحتمال الياسمين
التفاتة إلى الثواني الحية
الجدار
دفء
أزمنة اللوعة
فوضى
فرس المضمار الآتي
مكابرة
يقول: وطن إنما من ثوان قصار، الثواني تجدد إيقاع رقصتها
كانت تطرّز لي الوقت في رحلة من حرير ومرمر
احتمال ألتقي شفتين يبدأ منهما زمني
واذكرا فيض تلك الثواني
وقلت في أقل من دقيقة واحدة
التفت إلى الساعة الحائطية كانت تعد الثواني لاهثة
فجر، ضحى، ظهيرة، عصر
عاشق ينتظر الأعناب عامين
آن لنا أن نعيد إلى الوقت أسماءه
فهل يبدد العالم وقته سدى

وهذه القصائد على سبيل المثال بينما لا يمر نص دون المرور على الزمن، في كل قصائد الشاعر يبقى هذا الهاجس الزمني أرقاً في النص، خاصة في ديوانه الممتع (زيتها وسهر القناديل). وتتجلى إمكانيات هذا الزمن بعد ذلك منذ العنوان في الديوان الثاني (حديقة الزمن الآتي). ويظل الزمن يحرك جمال هذه النصوص، والألفة والروح العذبة الحيرى في ذات الوقت وهي تتمحور حول العالم والواقع المأزوم:

«فجأة ينهمر الأمس تلوحين
فأبقى في مهب الأمنية
فجأة يبتكر القلب جناحين وقنديلاً ودرباً
وتصيرين هنا في ثانية
أحتفي باللحظة الملأى شموعاً
وأباريق وشعراً وقطوفاً دانية
فجأة ينتحر الورد تغيبين
وتبقى الأغنية»

ويبقى النص (الكتابة) هو كل الجمال هو الإبداع، هو البحث المستمر، والشاعر يحكم نصوصه ببنيات قصصية، ويعتمد على مساحات من الحدس والحلم، ولا يكتفي بما هو أمامه من مكونات للصورة أو تراكيب جاهزة معروفة الدلالة. إنه يبتكر صوراً جديدة يفضل أن يكون الأول في عالمها ولا يهمه الشكل الفني، حيث يضمن في كل من الديوانين نصوصاً من الشعر العمودي، ويبقى باقي الديوان على أساس الشكل الفني للشعر الحر.

ثانياً: الموقف من المعنى (أريج المعنى):

الموقف الثاني الذي يشغل الشعر في النصوص هو اللغة أو شكل اللغة في النص، وهو حائر في وضع المفردات وتفجير طاقتها، ومنح المزيد من إمكانياتها، لتبقى اللغة هي الحزن الشفيف المورق شجراً من الأحزان عن العمر، الزمن، مرثية الألم: «بين مبتدأ الوردة وخيرها غابة من الأشواك» هكذا يقول الشاعر.وتدور هنا الرموز الشعرية في أنساق مختلفة يصنع الشاعر منها جدائل من ذهب ويلفها على لغته، نعيها ونفهمها ببساطة وهدوء وروعة مع الصورة الشعرية الهادئة، كما في نصه «دندنات» أو «مناخات شرقية». لقد صارت اللغة هاجساً يهم الشاعر طوال النصوص، وعبر معظمها بجمالها ودهشتها وعذريتها، أحد مفاتيح النص تحولت في الكتابة إلى موقف فاعل ومتحقق ذاتاً:

«مرَّ عامان من التسويف والحذفِ ن المبني للمجهول والممنوع من الصرفِ بمنفى الذاكرة مرَّ عامان ولم نعثر على المسكوت عنه في سياق الثرثرة»

الموقف من الكلام من المعنى، حيث اللغة متحكمة في مجريات الأمور وضمن عناصره ومشاعره وحياته كلها، أصبحت البنية الشعرية ضمن عناصر التشكيل النفسي للشاعر ولجو النص الشعري، إنها موقف من العالم والشعر والحبيبة والذات، اللغة المحتفى بها كالزمن تماماً والمدربة كنظام دلالي يضيء ويوحي، ويستمر في فعل الكشف الدقيق عن محتويات النص بعناصره في هذه النصوص الشعرية البديعة، مع فهم مستمر وواضح لعوالم النص بحيث يرتبط هاجس اللغة بمفردات الصورة، ويبقى ضمن تفاصيل النص وحيرة الشاعر ومشاعره الفياضة وهي أساس تترابط به باقي أجزاء النص، ويضمها رباط واحد يبرز جمالها وكونها الذي يربطه الشاعر بالنص، «غير أني اكتشفت أنها في الكلام الذي قد تعذر» هكذا يقول.. مع احتفاء اللغة وعالمها الثري تطل الشاعرية العذبة واللحظة المعدة خصيصاً لكتابة هذا الشجن المؤرق والروح المعذبة الأليمة، والصورة الفنية الشفافية المتألقة حين تمر فوق الزمن كي تتجادل وكي نصل إلى أريج المعنى، وتعري المفردات حقيقتها تاركة المسكوت عنه الذي لم نقله: «ما دام كل همنا التنقيب عن بعض حروف العطف والعلة والإشارة ماذا سيبقى عندنا من جوهر العبارة»


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى