قصيــدة ويســألني الضريــر
هي قصيدة تحكي قصة فتى كان يقعد ومزماره فوق هضبة تطلّ على نهر يشقّ خاصرة القرية، وهو ينفث لحنه نحو السّماء لمح رجلا أغبراً يترنّح يمينا وشمالا، ويتقرّى بشكّ طريقه، فكلما تقدّم بخطوة ضرب بعصاه على الحجر الهشّ فيكسره ثم يرمي بكفّه ليمسك بالشجر الأخرس فيستنجد به، فلا يفقد توازنه ويسير.
ارتبك فضول الفتى، واهتزّ خلسة فدنا منه متلصّص الخطى يسترق النّظر إليه، متردد أن يسأله وما كان يجهله هو أن الرّجل استشعره وعلم بأمره ولكنه تركه لحاله. كان الفتى يرقبه لمدّة من الزمن والرجل يمزّق أشلاء الحفيف بعصاه حينا ويلمّ ناصيته بأصابعه المتجعّدة حينا آخر وترافق كل خطوة همسة رقيقة تكاد تبدو صلاة واستغفار من ذنب عقيم.
ظلّ الفتى يكتم وجوده، وتراكم عليه فضوله فوجده قبح منه، فاستقام، علّ الرجل يبحث عن حفنة ماء فيسقيه أو عن طريق فيرشده أو ربما عن غلام فيكلّمه، اقترب منه بلهفة ففاجئه العجوز وبادر بسؤاله: ما خطبك يا فتى، وإني أجدك مختلٍ، فهل ضللت الطريق؟
بهت الفتى هنيهة ثم رد عليه قائلا: بلى، وقد قلت إنك ضال الطريق فأكون مرشدك، أو ظمئت فأكون ساقِيك..
ابتسم العجوز، واستدار نحو الفتى، فهزّ ذراعه وتحسّسه بأنامله ثم سأله خذني ومزمارك إلى أعلى الهضبة فإني والله ما التقيت غلاما إلا وجلست معه فيحدّثني وأحدّثه.
ويسألني الضّرير..كيف ترى الأصباغ في الغَبَش يا فتىوالنّور في مــقلتيّ ينهمه الدّجىوإنّي مستثيــرمرتعش الخطى، اخشى الأذىونعلي العتيق بصحبتي والعصانسيــــروما ضللت الطّريق فكانا الهدىرفيقان وحسّي ما خاب وسمعي جلافي المسيـــرويروقني همس النسيم وقطر الندىوزرع شاحب مُطرِق النّصل والمنىوالهشيم هجيــــروكم مؤنس في جنح الليل فــدىبنحيب ودبيب وحبيب هـــدىبشجون الخريــــروإن خرّت قواي وشطّ بي النّوىومن بغير اللّـه عن بعدي طوىوما أنا بنكيـــرأيا فتــى..هل ارتجف سمعك على لحن طير جريحوردّدت الأنين وكنت الصّــدىوزلال الصّـوت أسيـــروإن قبضت يوما على لون الضّحىفإني اقبض على سواد اللّيلفيستنيــرما افتتنتُ ببَهرج الوجود وزيف الدّنىولا تسعفُ العين خاسئة إذا بدا السّناوأنا حسيـــروأي سجــنِ ظلــمــاءٍ ما فيه ســـوىأنا وعكّازي الهزيل وهمسي ونجوىالأعاصيــــرأيا فتــى..أما رأيت رضيعا رثّ اللّسان واهتدىوهُـــداه مـن اللّـــــهِ بليــــغ الرّبــىوهو القديـــــرأَمن ألِم به الــــدّهر فقنِط وكفاكاسفا نفسه عابسا ونسىقول خير نذيروإن تكالبت كتل الهموم علىامرئٍ صالح فدعا مولاه ثم اهتدىفالعويص يسيـــرأفلا يستغيث النّخل الباسق وما جنىربّه في عنـــق البيــــداء ملتفـــحاوالجريد كسيــروإني مُجتحف الجوارح من حِجر أوجــاليما غرّني الثراء وما ابصرت عناد الرجالفأنا للــه فقيـــرلطفت يا ربّ في زمن لا يسرُّ الرّؤىوعدلتِ بحكمك ومسَحت عنّي الأسـىوأنت البصيـــروجعلت في النّفس جمــالا يُشعُّ الخطىفأدركت الصّنيع بحسنه وسألت الرضــاوأنت الخبيـــر
بينما الفتى يجلس ساكنا ومصغيا لتراتيل العجوز، محدّقا في سمرة يديه متعثّرا في ملامحه التي لا تشيخ، يقف حينها متوكأً على عصاه وهو باسم الثغر، ثم يسأل الفتى أن يعينه ليتفادى الحفر والأشواك بالطريق ويغادر دون أن يحدّثه عن وجهته.
تردّد الفتى بسؤاله وأخذ يرقبه عن كثب إلى ان اختفى وراح إلى ما ابتغاه، جلس الفتى فوق تلك التّلة مجددا وهو يفكّر بحيرة عمّا حدّثه العجوز، فاستغرب وابتسم، ثم قال: إن كان فاقد النّور نسميه أعمى، ففاقد الإيمان كافر أعمى.
وراح يردّد مستفهماً حديث العجوز بشعر تلاه بدايته منتهاه. ويسألني الضّريـــر..