

قطعٌ من لحم مشوي
رائحة الشواء في كل مكان.. الزحام شديدٌ أمام الخيمة، ومع الزحام يتدافع الواقفون ليصيروا كتلة متماسكة من اللحم تروح وتجيئ كليةً في انتظار تسلم أكياس اللحم المقدرة.
آه! لم نر منذ شهور شكل اللحم، فكل طعامنا صار معلباً نتسلمه بصعوبة في مشهد يشبه هذا المشهد.
مازال ذراعي يؤلمني منذ يوم الطحين.. نعم نسميه يوم الطحين، فقد كان التدافع غير عادي ذلك لأننا نعلم جميعاً أن الذي لا يحالفه الحظ بالوصول إلى كيس من الطحين سيظل يشم رائحة الخبز على الصاج الموضوعة فوق الحطب المشتعل منتظراً أن يتفضل عليه أحدهم بقطعة خبز لا تشبع من جوع، صحيح أننا تعودنا على ألا نشبع، ولكن سيكون هذا القدر من قلة الإشباع أقل من ذاك.. ولإننا حينما نملك نطمئن.
أشعر بالعطش، فلم أستلم حصتي المقدرة اليوم من الماء.
أعرف أنه ليس لي حصة محددة، كما أعرف أن الأمر عشوائي جداً، وأن الحقوق هنا أمر وهمي، وأن التدافع هو سيد الموقف، وأن ما يأتينا أقل مما يستحق كل منا، فمن الأساس ليس لنا حق، هم يقولون ذلك، فهذه مجرد مساعدات ومعونات قد تكفينا، وقد لا تكفينا، لا يعنيهم ذلك، إنما مجرد إرسالها لنا يشعرهم براحة الضمير.
اذاً فخيالي المدفوع بشعوري بالظمأ هو ما يدفعني إلى تصور أنني لم أحصل على حصتي اليوم من الماء.
لن أزاحم اليوم معهم للحصول على قطع اللحم المقدرة كما يفعلون، ذلك لأنهم يوزعونها بالميزان العادل، فكل سبعين كيلو جرام منه تعني رجل كبير أو امرأة، وكل ثلاثين هي طفلٌ صغير.. سمعت ذلك ممن حولي.
لكنهم أمسكوا بيدي، ودفعوني معهم رغماً عني كي أستلم نصيبي منها.
أعطوني جوالاً فارغاً يشبه ما بأيديهم من جوالات كانوا ينامون عليها، أما بعضهم فتمسك بكراتين ورقية سميكة، كانت مطواة من قبل لاستخدامها في إغلاق الخيام، أو لوضعها تحت الجوالات الفارغة التي ينامون عليها، ولها أيضاً استخداماتٍ أخرى.. ذلك لاستلام أكياس اللحم الخاصة بذويهم.
نضال، وإياد، و ابنتي سهيلة مكتوب على أجسادهم أسماءهم بالكامل، زوجتي من فعلت ذلك بريشة ألوان غمستها مراراً في علبة لدهان الحوائط أبيض اللون.. كان ذلك في بيتنا بغزة قبل النزح، كما جعلتني أكتب على جسدها أيضاً.
أما عني فرفضت الفكرة، وقلت لها أنني إذا مت، وتناثر لحمي في التراب فلا تبحثوا عني، لأنكم ستستنشقون رائحتي في كل مكان على الأرض، وستشتهون الطعام الذي سأصنعه لكم في كل نبتة تثمر لكم خضراً أو فاكهة.. حتى الزيتون سيتخلص من مرارته ليصير أحلى مذاقاً، وأكثر فائدة لأنه مروٍ بدمي، سينضج كل طفلٍ يأكل منه سريعاً، ويشتد جسده.
سيُزرع لحمي المتناثر في الأرض رغماً عن كل شيء، لينبت أبناءً وبناتاً جدد.
ذهبت لأحضر الماء وتركتهم نيام، فعدت ولم أجدهم سوى أشلاءً تناثرت أجسادهم إثر القصف، واختلطت لحومهم بلحوم غيرهم ممن كانوا يجاورونهم في تلك اللحظة.
أنا لم أتأخر كثيراً عنهم، فقد أتممت صلاتي، فأسرعت لألحق حصة من الماء، فماتوا، ومات معهم من لم يترك مكانه من المصلين.
لم أحصل على الماء، ولم أمت مع زوجتي وأبنائي.. فقدتهم.
حتى تلك اللحوم التي جمعوها ممزوجة برؤوسٍ مهشمة وأذرع وسيقان مكسرة، صارت مغطاة بالتراب والدماء، ومتفحمة أغلبها، فكيف يمكنني أن أجمع حروف أسماءهم المنسوخة على أجسادهم؟!
حتى الأحشاء الشاردة لملموها مع كل ذلك، وقسموها جميعاً في أكياسٍ، ثم أخبرونا أنهم ذوينا.. من كانوا إلى جوارنا منذ سويعات يحدثونا ونحدثهم.
هم عادلون في القسمة أعرف ذلك فسبعون كيلو جرام للكبار وثلاثون،أو عشرون أو حتى عشرة حسب عمر الطفل قسمة مُرضية، لتكفي الأكياس جميع الحاضرين، فحسبة الخمسين كيلو للصغير كانت ستحدث عجزاً في عدد الأكياس المقدمة كما سمعنا.
الطابور في تناقص، وعليّ الآن أن ألزم مكاني لأحصل على أسرتي بدلاً من أن تنفذ الكمية دوني، وأن أفيق من ذهولي.. هكذا قال لي جاري في الطابور.
الكلاب في الجوار يتعاركون من أجل الفتات المتناثر من اللحم، انتصر أحدهم وأخذ قطعة أكبر من أن تكون فتاتٌ. لم يرها من لملم الأشلاء.. أمعقول أن تكون لسهيلة؟! ابنتي الرقيقة؟! لا بأس لعله يتعود على أكل اللحوم فيقطع يوماً جسد من مزق أبناءنا وأزواجنا.
لا لن أظل في هذا الطابور لآخذ نصيبي من اللحم والأحشاء فأبنائي وزوجتي في السماء مكتملين مستقرين، وسأترك حصتي المقدرة لصاحب النصيب لعله أحرص مني على الحصول عليها، على ثقة من أنه سوف يزرعها في الأرض لتطرح يوماً أبناءّ، وبناتاً جدد، يشبهون سهيلة وإياد ونضال، وكل الأبناء الذين ارتقوا، ليصبحوا يوماً نساءً ورجالاً أكثر عدداً وأشد قوة ممن رحلوا إلى هناك، لينجبوا البنات والبنين.. فالأرض أبداً لا تخون.