

قلق المخيم
أنتم لا تفهمون المخيمات.
قال ياسر ذلك وهو يسحب من سيجارته، غير آبهٍ برود الفعل التي تتكوم حوله، استدعى شيئاً من الذاكرة، وراح يرمي في وجوه الحاضرين نظرات مستعرة. فسّرجملته الأولى بلهجة أشد بينما كان يذيب ما بقي من السيجارة بين شفتيه:
هذه مواقع متقدمة للاشتباك، وليست منجزاً معمارياً يتسول من واجهات المدن الحديثة.
تمهّل رئيس البلدية، على خلاف الحاضرين الذين استعجلوا رداً صارماً، طالعهم بحذر، لمس انفعالات مستاءة، تبدت في ملامحهم. فتح النافذة، ليستحضر الصخب الخارجي، الذي شكلته أصوات مدينية، أراد استثمارها في رده على ياسر، قال بهدوء:
دعنا ننظر الى الأمر كما هوعليه اليوم وليس كما كان في الأمس، اليوم توجد حياة وأسواق وتنمية.
نفض ياسر رماد السيجارة، وراح يتأمل أرجاء المكتب، باحثا عن أثر من ماضي المكان، الذي صار مقراً للبلدية، نهض ياسر، محمّلاً بغضب مكتوم، قرع بيده على الطاولة التي جلس وراءها رئيس البلدية، طالعه بابتسامة باردة، ثم اتجه للنافذة، تحسس الزجاج بيده وذاكرته، قال مستغرقاً : هنا استشهد رفاقي غسان وغالب، هل تدرون من أين أتاهم الرصاص؟ من هنا ثم أشار لجهة السوق الصاخب الذي عجّ بالمارة والمركبات.
5 يناير 2002
فرغ غسان من صلاة الظهر، واقتعد عند ركن استأمنه، أخرج مصحفاً صغيراً من حقيبته البنية، وانهمك يقرأ بخشوع، بينما كان ياسر يحاول التقاط إشارة الراديو دون جدوى، كان المخيم مُطَوَّقاً بالكامل من قبل الجيش الإسرائيلي، والأحياء معزولة ومُقَطَّعة عن بعضها البعض. دخل غالب خلسة محيطاً نفسه بهالة فدائية مهيبة، بينما تدلت بارودته على جنبه، مثل مصيرٍ يلاصق صاحبه، وضع ما ظفر به على الأرض: قطعتين من الجبنة البيضاء ورغيفي خبز، وماء نظيف، هز القارورة متفاخراً وقال : أثمن شيء في المخيم.
تأمّل ياسر المائدة المتواضعة، قال بصوت متكسّر: يبدو أن أحدنا سيستشهد. وسرت في صدره تنهيدة ثقيلة.
انضمّ غسان للمائدة، ولكنه أحجم لما رآها شحيحة، وقال : الحمد لله، أنا ملأت روحي ومعدتي، ولست بحاجة لطعام.
احتج غالب: يا رجل قد تكون لقمتك الأخيرة.
عبرت مركبات عسكرية الشارع، مدوية بصخب ثقيل. حاصرت المكان من كل الجهات، ولم يسع ياسر ورفيقيه أخذ مواقعهم، حتى صرفت الرشاشات الآليةُ من مخازن الرصاص دون هوادة، سقط غسان وغالب على الفور، حاول ياسر أن يزحف للركن الأخر، إذ لم تزل بارودة غسان مركونة في محلها، حيثما كان يصلي قبل دقائق. اقتحم الجنود المبنى من النافذة العريضة، التي تواجه الشارع مباشرة، صوب أحدهم طلقة اخترقت قدم ياسر، وانساب دمه خيطاً قانياً على الأرض، أمرالضابط باعتقاله، ثم التقط جهاز الاتصال وقال كلاماً عبرياً، فهم ياسر بعضه : قضت قواتنا على خلية من المخربين في المركز الثقافي.
نهض رئيس البلدية موليا ظهره للنافذة، ذهب للناحية الأخرى من المكتب، كأنه يظهر بذلك حجم المسافة بينه وبين ياسر. تهيأ تاجر للرد بعد أن تهامس مع شخص آخر يجلس قربه، قال : رحم الله شهداء هذه المدينة، طوينا صفحة الانتفاضة، وعلينا الآن أن نفكر على نحو آخر.
تبدى الغضب واضحاً في سيماء ياسر، كان يتلمس آثار المجزرة العابرة للزمن، من خلال تحديق متواصل بين الشارع والمكتب، أدار وجهه حتى يلاقي الحاضرين. وقال بحدة : كيف تُطوى دماء الشهداء، هل تملك يا أبا علاء، أنت وكل زملائك التجار، غسولاً يمسح الدم من الذاكرة ؟ الدم الذي كان هنا ما زال يعبء ذاكرتي، ولن أسمح لسنوات الاعتقال أن تُغيّر علاقتي بالمخيم.
حاول رئيس البلدية أن يجابه ياسر، لكن استوقه أبو علاء، جادل بصوت عال : لا يمكننا السماح بتقليل دورنا في المخيم، نحن تجار الآن، ولكن في السابق كنا مناضلين. المهم الآن هو أن نجد حلا لظاهرة السلاح في المخيم، وما يجره هذا السلاح على عملنا وعلى أمن الناس هنا.
أسهب رئيس البلدية : الشباب الذين يحملون السلاح ضلوا الطريق، وصاروا يهددون الحياة في المخيم، إنهم عنيدون، لكنهم يسمعون نصحك، أنت بطل في المخيم، وهذه شرعية كبيرة. سكت قليلا ثم اقترب من ياسر، وقال : علينا أن نتطلع للأمام يا ياسر، وأنت أيضا عليك أن تنظر لحالك.
أجاب ياسر : هل تحاولون تجنيدي من أجل من تجارتكم؟
نمت على وجهه تكشيرة جرداء، حدق في رئيس البلدية لثوان، سار بضع خطوات حاسماً رده: انا أنظر لنفسي من خلال هؤلاء الشباب، إنهم يعرفون طريقهم الذي لا يمكن أن يتقاطع مع طريقكم. وهم مغادرا
كان الحاضرون يستعدون للخروج، قال أبو العلاء : لم تحطمه الزنازين، ولكن الواقع سيحطه، أعطوه بعضا من الوقت، ريثما يكتشف أن الحياة قفزت عن عقارب زمنه.
مرة أخرى، انشرح وجه رئيس البلدية بالرضا التام ، أضاف : لن تجلب أفكاره الثورية الخبز حين يجوع أطفاله.
1 يناير2002
تلفت غسان إلى صاحبه، كانت التجاعيد المبكرة قد غزت وجهه الغامض، بينما كان الليل يحجبهما عن العالم، سأل غسان بنبرة متـأملة:
إن اشتباكنا يحدث داخل المخيم، هل تعتقد أنه سيأتي يوما نشتبك فيه مع المخيم؟
قال ياسر: هذه ليست إجابتي ولا إجابتك، هذه إجابة الجيل اللاحق.
عاود غسان تأمل وجه صاحبه، هذه المرة بحسرة، سأل: حسنا، من منا سيسمعها؟
فسر موضحا : يبدو لي محالاً أن نسمعها معاً
خطفت ريح خفيفة انتباههما حين راحت تنقل أشياء هشة على التل الذي ارتمى في العتمة، نظر ياسر في الأفق البعيد، الذي غاص في السواد، قال: ليس مهم من سيسمع الإجابة، الأهم هو من سيملكها.