السبت ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم سماح خليفة

قلمٌ ينزف، وذاكرة منهكة، وجرح لا يلتئم

"إياكم أن تنخدعوا وتطووا صفحة غزّة، فغزّة ما زالت تنزف"، هذه آخر رسالة وصلتني من أحد الأصدقاء في غزّة، بعد أن قرّرت فتح صندوق الرّسائل، إثر انكفاء على وجعي الذي تمثّل بوفاة أختي بعد رحلة عذاب مريرة مع مرض السرطان، كان موتها مريرًا جدًّا، قاسيًا، موجعًا؛ لأنّه كان بالتقسيط، جعلني أتمنّى لو أنّها ماتت بالجملة، دفعة واحدة، بقذيفة أو رصاصة أو صاروخ، لما تألّمتْ بهذا الشكل، موتها قتل في داخلي كلّ معنى للحياة، ونبش في تربة قلبي أسئلة الوجود والخلق والصمود وجدواه!

لم أتوقّف عن الكتابة لغزة لأني خنت وجعها، أو نسيتها، أو صدّقت أنّ الحرب قد انتهت، وأنّ الشّمس ستشرق عليها أخيرًا بجرأة كسائر المدن، دون أن تتسلّل خجلة بين غيوم الرماد والدخان، إنّما لأنّي نسيتني، فأيقظني مداد قلمي الذي فقد قدرته على البوح المترف، لكنّه ظلّ يسحّ ليلًا من ذاكرتي المنهكة، يكتب بنصل الجرح الذي لا يلتئم، وظلمة القبر المفتوح على مصراعيه يبتلع ركام غزة وأنينها المشروخ، دون أن يجد حاضنة لوجعه، هو فقط وجع الأرض وملمسها الملطخ بالدّماء، وأطيافها المرسومة على جدران التاريخ، فغزة لم تعد مجرد جغرافيا تتنازعها أطماع غاشمة، إنما صارت فكرة في الوجدان، ورمزًا مكتوبًا بالدّم والكرامة والخذلان في آن واحد.

نحن الكتّاب لا يحيينا إلا الكلمة التي تدثّر أفكارنا وتحتويها، فهي الوسيلة الوحيدة التي تشكل عالمنا الداخلي وتجعله ملموسًا.

يظلّ موت غزة مختلفًا تمامًا، هل سبق ورأيت جسدًا ميتًا وجرحه ظلّ ينزف أكثر من عامين! كل شيء يتوقف في غزة إلا الموت والدّم. هل صدّق أحد كذبة إسرائيل بانتهاء الحرب بعد استلام إسرائيل أسراها وجثامينها؟ هل صدّق أحد تلك المسرحية التي تدّعي فيها اختراق حماس للاتفاق كي تبرّر استمرار الإبادة ونزيف الدّم؟ لا أعتقد، حتى أطراف الصفقة الوهمية ذاتها لم يصدّقوا هذه الكذبة، ولكنهم مشوا في ظلالها، لأنّه لم يعد باليد حيلة، فقد ختموا بختم الذّل والعار.

تأتي مقاطعة مهرجان (إدفا) للأفلام الإسرائيلية؛ لتذكر العالم بمسرحية النّازية الصّهيونية المستمرة حتى اللحظة، حينما يرفض الضّحية أن يخلع عنه عباءة الجلاد من جهة، ويعرّي الأيدولوجية الصهيونية القائمة على فكرة التّفوق العرقي من جهة أخرى، ويظل الوضع مرهونًا بمنطق القوّة، التي يمنحها ترامب لنتنياهو، ذاك الذي ذكّره بصريح العبارة أمام الشاشة "أذكرك في حال أوقفت الدعم عنا أن أمريكا قامت على أنقاض الهنود الحمر"، فيذكره ترامب في آخر خطاب له في الكنيست الإسرائيلي بعد إعلان وقف النار المزعوم، أنه أكثر شخصية في تاريخ أمريكا دعم الصهيونية.

إذن هو اللعب على المكشوف، فالحرب في غزة لم تعد تُدار من خلف الستار، إنما على طاولة ريفيرا الشرق الأوسط، حيث لم تعد أكاذيب (الأسرى، الجثث، وقف الحرب، السلام) تحتاج إلى أقنعة مصقولة بالسياسة أو بيانات منمّقة بالإنسانية، فها هي إسرائيل لا تزال تقصف رغم الاتفاق المبرم في شرم الشيخ قبل أقل من شهر، في التاسع من تشرين الأول، بوساطة قطر ومصر وتركيا والولايات المتحدة بعد عامين من الإبادة، ووسط الموت المتجدد يصرّح ترامب أنّ إسرائيل لم تخرق الاتفاق! ويصمت العالم بعد أن بات ساحة مكشوفة للعار الذي سمح لإسرائيل بالتّوحش الذي لا يعكس إلا فقدان الأمن والأمان لديها، وانهزامها أمام إرادة الإنسان الغزيّ الذي لن يهدأ حتى ينال حقه المشروع، وتبقى غزة هي الحقيقة الوحيدة التي تدفع الثمن من دمها ولحمها وعمرانها وهوائها ومائها، لتعكس قبح هذا الزمن، وتأرجح كفتي ميزانه بين حق القوة وقوة الحق!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى