الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم منتصر الطيب منصور صبرة

قُبلة الزيتُون

داخل هذا الحي، لم تكتف الحُمى من القتل، ذلك لم يكُن مُقلقاً البتَّة، العاصفة؟ لا لن تهدم المنازل، وبهذا لم يتَّقُوا زخات الرصاص فقط، ما يُزري حقَّاً بسلامتهم الصواريخ، الأسلحة الثقيلة والأوغاد، لا تتعجَّبوا فنحن نعيشُ في بُقعة من العالم ليست معزولة فقط، بل تُشيَّد حولها جُدر عازلة كُلَّ يوم كي نبتعد عن إنسانيتنا..

تقودني (ناديا) الفتاة الصغيرة بين ردهات شارعٍ ضَيِّق، لم تكن انطباعاتي عن الحي مريحة، وعلمتُ من قبل أن ثلاث أرباع شبابه مُعتقلين في سِجون بعيداً عن القِطاع، وحينما بدأ لي الشارع كئيباً طفقتُ أُعاين لطائفة أشجارٍ جافَّة توزَّعت على جنباته، تذكَّرتُ أن الحاجة للماء أو الجو المُسمَّم جعلها بهذه الهيئة، عندما وصلتُ بنهاية الظهيرة لآخر مُنعطف دلفتُ يساراً، كان ثمة صبية يلعبون بالاختباء خلف صفِ الأشجار، فيما كانت صرخاتهم الخافتة تَتْوزَع بين إطلاق الرصاص عبر الفم، أو اصطناع صوت المتفجرات، بداخل الحي تتصاعد رائحة مختلطة بين الكلونيا والخبز الحار والتبغ، وهذا لا يغريني بتناسي عم (خليل) ولحظات كدرهِ التي تركتهُ عليها من قبل، وجدتهُ يُدخِّن غليونهُ، يتخذ مسحة مضحكة كأنهُ يتقمَّص عامداً شخصيَة (شارلي شابلن)، داخلياً كان كائناً سريع الغضب يستمرأ تلك النظرة التي يُصدِّرها للقادمين، وحينما قدمتُ أول مرَّة صُحبة ابنهُ طلال الذي استشهد قبلي في معركة قبل خمسة أعوام بين الشباب المقاومين والاحتلال تملَّكني شعورٌ الرهبةِ منهُ، فيما قُبضوني لآحقا وأودعت السجن، وبينما علم بخبر خروجي -إذ كان يتسقَّط الأخبار- فوجئت به يتَّصل عليَّ، يخبرني بأنهُ في انتظاري وسيبعث بناديا حفيدتهِ كي تلاقيني أوَّل الحي، أثلج قلبي رؤيتها وهي تنادي:

"يا عمُّو (عاصم) أنا هون في انتظارك"

تمسك في يدها صورة لنا -أنا ووالدها- كأنها تتأكَّد عبرها من ملامحي، ربما أعطاها عم خليل لها كي لا تتوه عنِّي، لقد عرفتُ أنها نادية، الفتاة التي تركتها رضيعة، ولأنني لم ألمِّح لطلال بالحياة التي أحب أو أي أحلام تتعلَّق بالهجرة، صرنا نعمل في حقل البرتقال الصغير الذي يملكهُ جدَّهُ، حدِّثني بزراعة بعض أشجار الزيتون ولم يخبرني بأنه ينتظر مولوداً من زوجته، كان العجوز بمجرد وصولنا يظهر استحسانه لأخباري، يمسح تارةً بيدهِ الخشنة على رأس الصبيَّة، ولم يبد عليه التعب، أو تظهر على الصبية أي حيرة واضطراب فظلَّت سعيدة، أخبرني بأنها ترسم قصراً حينما أراد التباهي بعملها، وبه الكثير من النوافذ، خطوط ضوء الشمس الصفراء تتسلَّل لأشجار الزيتون المرسومة خلفه، والباقية تحاصر المبنى، وكأنها تُنفِّذ رغبة مجهولة بلا شعور، كان الحقل في الواقع بعد امتداده الخيالي لدى طلال يصل إلى ظهر الدوار، ورغم أن فؤادها صغير وغير مُجرِّب لم يكن يدرك بأن الأرض قد تصير فجأة إلى دمار، كما هو حال شجر البرتقال النافق، لأن جوابها الوحيد وهي تقبض على كوفيه جدها بأن الشمس تجعل الزيتون ينمو أسرع، ولهذا لم تفلح وعود جدها عن اثنائها في تخطيط طرف الممر للزراعة، ولعلَّهُ يرزح تحت خوف متزايد من الأيام المُقبلة..

10/تشرين

لم تكن ناديا تتوقع بعد هذه النزهة البريئة أن يتحوَّل الأفق إلى سحاب مزعج من الأصوات، كما لم ينل جدها على أقل تقدير درجة وعى لما سيحدث، وكنت أنا أقل الآخرين توقُّعاً للقادم، وهكذا حينما صاح فجأة "فلنعُد للبيت" حمَّل جُملتهُ المُباغتة شعوراً لا يُطاق من القلق بينما تعجَّبت ناديا، لقد ظنَّت أن السماء ستحتشد بالمطر، ولم تكن الفتاة ضعيفة كي أغمرها بالحب الأبوي فجأة لكنني حملتها على كُلِّ حال، لقد كنت أدرك أن الوحش لن يشبع مرَّةً واحدة خاصَّة عندما يصير جريحاً، كلَّما احتمى بالمخلوقات الجائعة، حالما وصلنا بلغنا الهتاف والتكبير لأصداء العمليَّة النوعيَّة التي نفذتها لجنة المقاومة بالأسقاط على (الكيمونة) السكنيَّة واختراق جبهة العدو من الجو والأرض، لأجل هذا قام العجوز بحركة حازمة وهي أن قادني خلف البيت حينما ترك زوجة ابنه والطفلة، ثمة علامة صغيرة تقع تحت شجرة سرو أمرني بالحفر عندها، وعندما اصطكَّ الجاروف بشيء ظهر صندوق حديدي، طالبني بإخراجهِ، فتح قفلهُ وظهرت بعض البنادق الآليَّة
لقد ركض محموماً وأنا خلفهُ أحملها، لم يتوقَّف حتى بلغ الكوخ المقام على طرف السور، حيث توجد ثلاث فتحات، انغرز يُحرِّك نوافذها المصنوعة من الحديد الُصلب بينما غطَّت سحابة من الغبار مِصباحهُ اليدوي، وريثما انفتحت النوافذ برزت التلال الخضراء يظلَّلها وئام مُتناغم قد يدوم، وخلف أغاريد طيور تجيء وتختفي يتألق في شكل عميق ضوء خاطف فبدأ المكان كالمسحور أو قطعة هاربة من النعيم، تحت ظلال أشجار زيتون متناثرة كأنها تتطاول على الظلال فوق المرج المُزهر لونه كان الليل قد بدأ اسدال الظلمة والشجن، يتحرَّك الهواء بكمية محدودة بالخارج، لكأنني أسمع وقع أقدام تركض. إنهم مُستوطنون يضيئون الطريق بمصابيح خفيفة بينما حملت أياديهم المدافع، لقد انتظروا ضوء النهار كي يذبل ليهجموا علينا، اتَّفقنا أنا وعم خليل، ارتكزت بالخارج طالما حدَّد نقاط فوق الأرض كان قد فخَّخها بالكيروسين والزجاج لمثل هذا اليوم وعليَّ أن أكون دقيقاً في إصابتي، رأيت أعدادهم، يا للهول! اقبلوا كقطيع ذئاب جائعة، شاهدت الدفعة الأولى منهم تعبر الحاجز الأول بحذر وكان عددها يُقارب العشرة أشخاص، تأكَّدتُ من بندقيتي وجاهزيتها، استدعيت حنقي القديم وأطلقت رصاصتي بحنكة فأصابت هدفها، انفجرت الزجاجة بدوِيٍّ كبير، صرخوا وتفرَّقوا، بعضهم سقط يتأوَّه، جاوبتني رصاصات عم خليل تصيب أحدهم في قدميه، لكن الدفعة الثانية ظهرت، فشرعتُ بإصابة الزجاج المرصوص كخطٍ ثانٍ بثلاث رصاصات فصاروا يُولُّون الأدبار..

الآن يصعد الفجر، كانت القرية على أشدِّ استعداداتها، لقد بدأت روحهم تعود إلى الماضي القصي القريب، الغد مُشوَّش بلا ملامح معروفة، لكنهُ يخلق الرضا بنا، وبينما زاول الأطفال ألعابهم لكن مع آثار رصاصات الليلة الفائتة، جلبهم عم خليل وأدخلهم للمخزن ليملئوا زجاجاً جديداً، طالعني وجه (فريدا) زوجة طلال وهي تناديني للقهوة، عندما قابلت زوجها كانت مُعلِّمة في روضة أطفال، أشعل نيران فؤادها وانتحى بروحها لأجل المغامرة كأنما دعاها إلى الجنة، أحبَّت طلال لقوَّتهِ وشجاعته، لأنه قدَّم لها الحب وبجانب الحب قدَّم لها أشجار الزيتون شرع في زراعتها ما قبل أن يلقاها، ربما كانت سترغب في الرحيل عن هذه البقعة اللطيفة لولاهُ فأمَّها أرملة وزوجة شهيد تكفَّلت بإعالتها حتى رحلت، وكأنما أودع الريف في جسدها عطر هذه الأرض، مادت تقبل ورائحة خفيفة طيِّبة تنبعث منها وحينما مشيت بجوارها شعرت بأن جسدها ينبض بالأمل والكبرياء، لم أشأ أن أقول شيئاً لأن عم خليل بدأ سعيداً وهو يشاهد قدومنا ودلَّة القهوة الموضوعة أمامه تحت ظل شجرة الحور، بدأت أفسِّر سر ابتسامته الموحية، التبستُ قليلاً من الفكرة برمَّتها فأنا لم أبلغ موقع وجودها في حياتي إلا كزوجة صديقي والباقي دوامات ستُكملها الحياة بأن اعتمدها شقيقة لي، ربما كانت تلك الأشياء تحدُث بقَدرٍ مُحدَّد فأنا وحيد ولا أسرة لي بعد أن دمَّر الانفجار دارنا وماتت أسرتي، ومن خلال عمَّي الذي ربَّاني في داره ب(يافا)، التحقتُ بالمعهد المهني ثم التقيتُ طِلالاً فصار صديقي، واكتشفت أنه وحيدٌ مثلي.

بوسعي أن أقرأ أفكارها فهي وديعة شفَّافة تشبه طلال دائماً. جاء الشتاء، السماء رمادية، وقطعان الضباب تلعب في الهواء، العجوز يُدمدم في الأركان، هو قلق على الدوام، في كل يوم نراجع أنا وشباب القرية الاستحكامات، في المساء نجتمع حول النار مع السيدة وناديا التي تثرثر وتضع رأسها على حجري، الصباح أسقي الزيتون وأقطع الحطب وأعمل في السوق القريب، خلف الوهاد مزارع الليمون والبرتقال والتفاح، مع اقتراب أعياد الميلاد يهدأ الحال قليلاً، لكن دوريات التفتيش لا تتوقَّف، هناك وقتٌ كاف للانتباه كلما دعت الضرورة، لذا لم استكين لسلام لحظي.. فبعض الجنود الاسرائيليين كانوا ينهبون المال من جيوب الفلاحين، وصار هؤلاء يخبئونه بين عيدان الشعير، في مرَّة أحرقوا الشعير، وبذا لم يلتصق شبح الطمأنينة بقلوب القرويين الناصعة، في المساء قُلت لفريدا وأنا أشرع باب الكوخ الخشبي: عليك أن تتعلمي استعمال البندقية وإصابة الأهداف. جلست قصادي على الكرسي الخشبي ودمدمت: آه، هو أمر محتوم. لقد أخبرتها عن مواقع الزجاجات، لا شك أن رفيقها الراحل كان سيُصيِّرها لذلك ولهذا رحَّبت بالأمر، بالخارج تلتمع شعلات البرق، يجيء خاطفاً لنظرة عينيها السُوُد، فركت جبهتي واستدرت أُواجه الهواء الداخل من النافذة وفجأة! انطلقت رصاصة، عبرت من النافذة وتجاوزت الباب فقفزت نحوها لأحميها بجسدي وسقطنا على الأرض، ندَّت منها صرخة واحتمت بصدري لفترة، تجاوزت شعوري وحملت المدفع المركون على الجدار، اختبأتُ وأنا أدقِّق بصري، كان وجهها يلمع بالعزيمة، حملت المُدفع الآخر فأشرت لها بألا تفعل شيئاً، أطلقتُ رصاصة على إحدى الزجاجات فانفجرت بضوء وسمعتُ الصياح، بعد قليل كان الرصاص يتساقط كالمطر على منطقة الأشجار، صاروا يطلقون النار بعشوائية، لكن الشباب الملثمون بادلوهم إطلاق النار فتراجعوا، في اليوم الثاني شيَّعنا شهيدين، طفل وامرأة عجوز، عند الصباح كان السيارات المُدرَّعة تحاصر المكان، وكلاب الحراسة المدرَّبة تكبح جماحها بصعوبة، لم يطلقها عم خليل، خلف الجدران تضطرم الحياة، إنهم يبحثون عن الشباب ولم يدروا أنهم تسلَّقوا الجبال، كانت فريدا مرعوبة من اعتقالي حتى أنها كادت تخلع طرفٌ صناعي شكَّل يدي اليُمنى، خشيتُ أن تجهش بعبارات إعزاز تنفُذ إلى أعماق روحي، احتضنتني السيدة العجوز كأنني ابنها الراحل فهدأتها، شممتُ رأسها الضئيل الذي يغطيه الشيب اللامع، وبالجانب الآخر كان عم خليل يتابع حملات التفتيش بقلقهِ المعهود، لقد كانت فريدا تتوق إلى لمسي حينما عُدتُ من الأشجار القريبة ليلاً كي تتأكد أنني بخير، ربما تشتبه فيَّ.. بأنني هو، حينما أخبرتني بذلك ضحكتُ، وبعبارة أخرى تمنيتُ ذلك وعليَّ أن أُضفي شعوراً ملائماً كي لا تسقط في الفخ، لكن لن أخبرها بالأمر فتسقط فريسة للهلوسة؛ في بعض الأحيان يزعم القرويون السُذَج بأن الشهداء يعودون بغتةً للاطمئنان على ذويهم ولو بشكل آخر، لم أكن مؤمناً بالزعم للنهاية، ربما فريدا كذلك فهي مُتعلِّمة وأفضل منِّي، أخذتها لجولة بين أشجار الزيتون التي صارت باسقة قليلاً، وهناك شجرة قديمة ساقطة جلست عليها بينما تجوَّلتُ أبحث عن ورد برِّي أُهدِيه لها..

وفجأة أعادنا صياح عم خليل المُدهوش!

وجدنا نادية تشرع نوافذ البيت كُلَّهُ، تعجَّبت من خيلاء طفولتها، ركضتُ لأُشرع نوافذ الكوخ الصغير، سبقتني فريدا بعزم غريب، بزغت الحشائش لامعة، ضوء الشمس ينبعث عابراً النوافذ، بينما جرت النسائم تُشيع الدفء لكل الأمكنة، كان شجر الزيتون ينمو ليُغطي المكان، يحميه كما رسمتهُ الطفلة..

يا الله! عليَّ أن أمنح فريدا قُبلتها الأولى تحت ظلالهِ الوارفة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى