الجمعة ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٤

كان يحمل رأسه " وضيف اللّه:

عصمت الأسعد

عندما ثـقُلَ رأسي مما سمعته من موسيقى " ضيف اللّه" على مدارِ مساحةٍ واسعةٍ من زمن ما وعزلةٌ امتدت لسماعِ مؤلفاتهِ مما أعجَزني حَمْل رأسي. فَرحتُ أطوف به الطرقاتِ. حطت قدماي، وما تحمل من رأسي وضيف اللّه قبالة مجموعةٍ من رجالٍ يتوزعونَ على حلقاتٍ وفي الحلقاتِ صدى كلام، بدا كلاماً سوداوياً مظلماً.. عبارات اسمعها في حلقات العزاء والمآتم.. أحدهم: يسلم راسك، يرد الآخر يسلم دينك وإيمانك.. اخْترَقْت إحدى تلك الحلقات.. سألت: هل أعلمتموني خبر الميت؟ إرتد السؤال صدى ارتطم برأسي وضيف اللّه… فلا من مجيب.

حاولت استراقَ السمع من هنا ومن هناك. العباراتُ مألوفة ومعهودة… لم يكن مريضاً.. الإرهاق.. المرحوم.. إلى آخر تلك العبارات الهلامية والتي تلبس البشر جميعاً قلت العين مرآة صاحبها لأنظرَ في عيون الموجودين، فوجدتها ذابت بسيل من دموع أغرقت العيون والمكان … عمّ الناسَ سكونٌ وصمت سوى وشوشاتٍ راحت تطوف فضاءات المكان وصوت يقول: شوهد آخر مرة يخرج من بيته يسير في الطرقات يحمل رأسه وضيف الله فليرحمه الله.

صَخــــب

صرَخْت بأعلى صوتي وبصَمْت… مللتكم جميعاً… منذ الصباح وأنتم تحملقون بي.. مللتكم جميعاً. ذلك الأصلع المتكرش ينفث دخان سيجارته أمامي.. ضايقني جداً إكتأبت ألواني قال: هذه أروع ما رأيت صدقوني أوه " فنتاستك" ، أنا نفسي لم أفهم: فنتاستك … استدار وانصرف حاولت ركله وقعت على الأرض.. قتلتني التفاتة جموع المحملقين.. تناولتني يدٌ ذات ملمس ناعم رفعتني على حبل مشنقتي على الجدار. حملقت بي هي أيضاً حاولت أن تقرأني، عبثاً حاولت.. أوه ما أجملها، أوه هذه الخطوط والألوان رائع.. رائع.. واستمرت تهذي وتهذي حمّلتني مالا أحتمل.. استدارت السيدة .. ركلتها بعنف وبصمت أيضاً.. وقَعْتُ مرة أخرى على الأرض.. أطلقوا بكثافة سهام نظراتهم وصوبوها نحوي لم أحتمل هذه المرة أيضاً.. كادت ملامحي تتلاشى. إلاّ أني أمتلك قواي الخاصة.. تراكض نحوي العشرات. الكل يريد شنقي على الحائط.. تناولني ذلك الأصلع المتكرش وعلقني على الجدار.. صرخت بأعلى صوتي وبصمت.. طافت صرختي فضاء المكان وارتد الصوت إليَّ واخترقني… أدماني صوتي رحت أقطر بلون أحمر سال على أرض المكان .. صار يتشكل بخطوط متعرجة أحياناً ومستقيمة أحياناً أخرى.. راقب المحملقون خط سير اللون الأحمر استقر تحت أقدامهم وتشكلت عبارة ذابت مع صخب المكان.. إقلبوني أني عُلِّقت بشكلٍ معكوس.

مــــــارش

تراخت مقلتاه قليلاً… فسالت من عينيه كلُ مشاهدها، وهي تخطُ من ورائها آثاراً لجروحٍ راحت تتنامى وتتنامى… فأدمت الممر الآمن للهواء.

أما تلك النجمة الراقدة على نسائمه، فقد أزاحت بظاهر يديها كثيراً من الوجوه كي تشاهد نبضه النديَّ مرةً أخرى وقالت:
تخير الآن من ألواني أجملها… وتنسم من هوائي عليله… ولتشربْ من مائي أعذبه. قال وقد سكن في حنايا مشاهدَها:
يا وجوه: الآن تساوت جميع الألوان بلوني، … وأعلّني الهواءُ…. وعذبني الماءُ.

بكت الجروح على أثرها إلا قليلاً. فسالت منها وجوهٌ راحت تصطف وراء نفسها لتصيرَ موكباً يحملني على الأكف والأكتاف، فكانت المسيرة بإتجاه المغيب حاجِبَةً وراءها ما ارتسم من مشاهدَ ومن وجوه.

من أحاديث الحجارة

دمٌ يعني حياة… دمٌ يعني موت
ترنيمة قديمة للشاعر.
أفاق عندما سمع صوتَ ضرباتِ من ازميل ثَلِمْ، بل إن قطعةً متطايرة من عاجٍ أبيض قد أدمت جانباً من وجهه، فابتسامتُه المرتسمةُ دائماً قد تقاطعت مع خيطٍ الدمِ النازفِ منه وقال: دمٌ يعني حياةْ… دمٌ يعني موتْ.

راح ينصت بشغف لتأوهاتٍ الرخام والتي قد ملأت أجواءَ "بافوس" الجزيرة … والآلهة كانت حيرى.

" بجماليون" كان حكايةْ… " بجماليون" صار أسطورة لكنهم رأوه يجوب شوارع المدينة يحمل بين أصبعيه سيجارةً … يُدخن… يأكل الساندويش… يقف بسيارته على المفترقات بانتظار الشارةِ الخضراء.. يدّعي البعض أنهم رأوه يحتضن امرأة من أثير.. امرأة من نور… تلك المرأةُ التي أدمَتْ له عقله وقلبه ونعتوه بالمجنون… تلك المرأةُ المرتسمة فيه، رآها لأول مرّة عندما وقف كيوبيد قبالته يحمل مرآة.
" بجماليون" قَبَّلَ تمثاله العاجي الأبيض أكثر من مرّة..
" فزيوس" الآلهة قد مَدَّت له يديها… تبكي عيونه عندما لم يجد " زيوساً" أخرى تساعده فلا قرابينَ مزينة أسعفته، … ولا توسلات الآلهة، ولا بكاءه الأزليّ أحيا له تمثاله الأثير… قال أيضاً… بجماليون كان محظوظاً عندما أصبح تمثاله من دم وروح… أما القابع خلف الشارة.. فقد صار ذلك التمثال.

رؤيــــا

أثقلوا قيدي… ازداد خيالي.

معادلة قديمة للشاعر

كعادته دائماً… راح يُقَشِّرُ جسده مما علق به من فراغ غرفته والتي تحيطه بيدين حانيتين… وتهمس له بأغنيات لامعة… وموسيقى مصاحبة:

اقبع يا هذا بجلدك… وأقم هناك مدائن وانْبِشْ "سفح الجبل" – بأنامل حسناء حالمة- ولتبحث في عبق الأيام عن عبقٍ آخر… تكون فيه رائحة الحجر يومئذٍ عبادةً… وشهادة.
ولتُؤَمِن قوت روحك من أرواحٍ تصعد بلا عناء ومن قمحك سنبلاتٍ لأيامٍ عجاف.. ولتبعث لنا من هناك مع حمامٍ أبيضَ مُدْمَىً.. أن اقبعوا في جلدكم … وأقيموا هناك مدائن…
وكعادته دائماً وعلى موسيقى لامعة راح يقشر جسده الآخر… من فراغٍ آخر.

المجنــــــــــون

يوجعني المشهد البعيد، ويقصُ عليّ كثيراً من الحكايا التي اكتملت.
رأيتها متوشحة بالبياض حيناً وبالزهور أحياناً أخرى، وهي مازالت تكتب غدها الجديد ولكن بشيء من بقايا.

وعلى ضوء أغنيةٍ وموسيقى مصاحبة، أعلنتْ فوراً القبض على نسائمي... عندها رياح أخرى أغدقت المكان، هبت ببقايا امتزجت رويداً رويداً بصفيقهم الرتيب معلنةً مراراً عن موتي ... ولكن فهل من مجيب.

خفيةً تعقبت المسير كي لا تراني نجوم كانت قد استوطنت حواف سريري الرخامي تزف المحتفلين بحيواتٍ أخرى جديدة فتلك النجوم سمعوها أكثر من مرة تحكي عن رؤياها وتقول:
رأيت فيما يرى النائم موكباً من مجروحين ومن بقايا، ورأيت فيما يرى النائم أيضاً المجنون وهو يمسك بأكثر من يدٍ قد نبتت على جسد (روميو) وكل واحد منها ترسم في خفيةٍ اشارةً للنصر وترسم أيضاً مزيداً من بقايا.

عصمت الأسعد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى