

كعكة ليلة التقسيم
يلجأ الإنسان إلى المراوغة؛ عندما يعلم أن الخطر حوله قد بات محتومًا، وأنَّ لا مفرّ من البحث عن مكائد؛ تُسهم في التخفيف من وطأة العقاب، أو ربّما تُنجيه من دخول السجن أحيانًا كثيرة، ولهذا يصبح مثل كالعبيد الذين يرجون أسيادهم العتق.
ذات يوم كان «بلفور» يجلس في حديقة منزله، يطالع أخبار الحروب في صحيفة يقرأ سطورها كل يوم، يقلّب صفحاتها بتمعّن، ويحلل كلّ أخبارها. وعندما وصل بنظره إلى أخبار الاقتصاد؛ قرأ خبرًا رفع من درجات السكّر لديه، وجعله يتصبب عرقًا، وينزع ربطة عُنقه ذات اللون الأحمر، بينما لعابه بدأ بالسيلان من شدّة الارتخاء.
كان الخبر إنذارًا للمتعثّرين في سداد قروضهم، ويخبرهم بضرورة سداد الديون، وإلا ستكون كافة ممتلكاتهم قيد البيع في غضون أسابيع قليلة، ويعدُّ ذلك إنذارًا نهائيًّا لا رجعة فيه.
بلفور كان قد رهن مسبقًا بيوته وعدّة مزارع للبنك، مقابل الأموال التي سيقترضها للتجارة المربحة، لكنَّ إدمانه على المقامرة؛ جعله يخسر أمواله كلّها، فبات مديونًا للبنك، ولعدّة رجال من كبار الشخصيّات في بريطانيا، وهذا ما جعله يعيشُ أتعس أيّام حياته كلّها.
فكّر كثيرًا في مخرج للمصيبة التي تُقابله، ولم يخطر لباله سوى اللورد الصهيوني «روتشيلد»؛ فهو على علمٍ بمقدرته الماليّة الكبيرة، وما يملكه من مصارف يُديرها بنفسه، وقدرته على مساعدته في هذه المحنة إن أراد ذلك، وأشفق حقًّا على حاله.
وعند مقابلة بلفور للورد الصهيوني روتشيلد قال بلفور مُحرجًا:
«أعتذر إن أزعجتك، لكنّ الأمر مهمٌ جدًّا، ويترتّب عليه حياتي ومُستقبلي».
ابتسم اللورد روتشيلد بخباثة شديدة، وقال مرحبًّا:
«أهلًا ببلفور الصديق العزيز، أيًّا كانت مشكلتك فحلّها لدي دون شك».
أخذ بلفور يقصّ حكاية مشكلته كلّها، ويرجو اللورد روتشيلد مساعدته؛ لكيلا يفقد مركزه كوزير للخارجيّة في بريطانيا، ولكي يكسب عطف اللورد روتشيلد؛ أخذ يبكي أمامه، ويتوسّل بصوت متألّم، راجيًا عند قدميه العون، وتقديم الأموال مساعدةً له.
كان اللورد روتشيلد على علم مُسبق بكلّ ما قاله وزير الخارجيّة؛ لأنّه هو صاحب الأسهم الكبيرة في البنك الذي اقترض منه بلفور، وكان قد أمر مدير البنك بتسهيل حصوله على أيّة قروضٍ يريدها، وبالمبالغ التي يطلبها، دون أيّ تعقيدات تذكر بعد أن يتم الرهن.
لم يفكّر روتشيلد كثيرًا للردّ على بلفور، فقال مبتسمًا بمكرٍ شديد:
«أُعطيك ما تُريد إن حققت لي ما أُريد سيّد بلفور».
فرح بلفور ولم يصدّق نفسه، وعندما سأل عن مقابل تلك الأموال، قال اللورد روتشيلد:
«شبرُ أرض في فلسطين، مُقابل الآلاف مما تريد من الأموال».
صُدم بلفور من طلب اللورد روتشيلد، فقال متلعثمًا:
«لكنَّ فلسطين لها مركز خاص لدى العالم كلّه».
لم يُعجب ردّ بلفور اللورد روتشيلد فقال مؤنّبًا له:
«تهدرُ أموالك كلّها على القمار، وتتحدث عن مركز فلسطين؟! لا مركز إلّا لدولتنا الصهيونيّة».
خاف بلفور كثيرًا، وفكّر في العاقبة التي ستحلّ به؛ إن رفض طلب اللورد روتشيلد. وخطرت له حيلة تخلّصه من مأزقه، وتحفظ له هيبته أمام العالم، فقال متوددًا:
«أمازحك فقط، وأنا بكلّ تأكيد سأكون طوْع أمرك، ملبيًّا لرغبتك في فلسطين».
وغادر بلفور بعد أن وعد اللورد روتشيلد بإنجاز المهمّة سريعًا. في بيته عقد اجتماعًا لمساعديه، واستشارهم في تقسيم الأراضي، فكان جوابهم استحالة تنفيذ ذلك؛ لأن بريطانيا ستواجه غضبًا شديدًا إن أقدمت على فعلتها. وأن العالم سينظر إليها بأنها مملكة لا تقيم للعدل وزنًا، وتشجّع على السلب والنهب؛ فبرر بلفور موقفه:
«نقسّم الأرض سرًّا دون معرفة؛ لأننا بحاجة إلى دعم الصهاينة لنا في حربنا العالميّة».
لكنَّ أكبر مساعديه كان له معارضًا: «سيتمُّ الانقلاب على جلالة الملك إن فعلنا ذلك».
جنَّ جنون بلفور لرفض الجميع طلبه، وفي صباح اليوم التالي كسر كل الزجاج في مكتبه، وفكّر في كيفية الخلاص من هذه المشكلة، وبالطريقة التي سيرضي بها اللورد روتشيلد، والعالم في آن واحد. عاد إلى بيته مُسرعًا، وبعد مضي ساعات طويلة؛ أخذ قلمه الخاص واصطحب معه ورقة، خرج إلى حديقته الفاخرة، وكتب في ساعات الليل الأخيرة مسودّة رسالته البشعة، ثم خلد للنوم وهو يفكّر بسداد ديون مقامرته.
وفي الاجتماع الدوري الذي يُعقد كلّ نهاية أسبوع، عرض بلفور على مجلس الوزراء رسالته، وبرر كتابته لها، حاجة بريطانيا إلى التمويل المالي من القيادات الاقتصاديّة الصهيونيّة الكبيرة، الذي سيساعدها في إكمال حملاتها العسكريّة داخل بلاد العرب. وبعد قراءة الرسالة بصوت رصين؛ وافق كل من في الاجتماع عليها، طمعًا في الأموال التي ستملأ خزينتهم.
ووفقًا للوعد الذي بينهما، قابل اللورد روتشيلد وزير الخارجية بلفور في ليلة الأوّل من نوفمبر عام 1917 وتحدّثا مطوّلًا في سطور الرسالة التي لم تتجاوز الستّون كلمة. فرح اللورد روتشيلد عندما قرأ أن بريطانيا تتعاطف مع اليهود لإقامة وطن على أرض فلسطين، لكنَّ فرحه سرعان ما تحوّل إلى غضب؛ عندما قرأ أنه لا يجوز لهم التعدّي على حقوق الآخرين فيها، ولمّا سأل عن هذا البند، أجابه بلفور وعينيه ترمق خزينة أمواله:
«لا تقلق سيّدي، كلّ هذا حبرٌ على ورق فقط، كتبت ذلك؛ لكيلا يقال في دول أوروبا، أن بريطانيا دولة لا تحترم حقوق الإنسان... تدخلون فلسطين أوّلًا، ثم افعلوا ما شئتم».
دُهش اللورد روتشيلد من خباثة بلفور، وأمر مرافقه بأن تُسدد كافة ديونه في البنك، وأنّ يفكَّ رهن بيوته ومزارعه، ويعطى مقابل هذه الرسالة أيضًا مليون دولار كهديّة لقاء الوعد.
وفي صبيحة اليوم التالي، أرسل بلفور رسالته بشكل رسمي من مكتبه إلى اللورد الصهيوني روتشيلد، الذي ضحك كثيرًا وهو يقرأ سطورها على رفاقه الصهاينة، الذين توعّدوا بأن لن يبقوا عربيًّا واحدًا في فلسطين على قيد الحياة، وأنّهم سيجعلون العرب يتألمون وهم يرون بأعينهم، دخولهم المسجد الأقصى والكنائس المقدّسة، وأقسموا بوحدتهم المذمومة على احتلال كافة الأراضي الطاهرة؛ ليقيموا عليها دولة إسرائيل المزعومة... صمت الجميع ثم قال اللورد روتشيلد وهو يتأمل شوارع لندن من شرفته:
«المال سيّد يرأس الرجال في هذا العالم، ونحن الصهاينة نعلم فنَّ الشراء».