ككتابٍ مفتوح
وقيل لنا بأنّ ما ستراه عيوننا وما سيحدث في يومنا ليس غريباً ولا مستغرباً، إذ أنه مكتوبٌ على الجبين!
ووقفتُ بالمرآة المقعّرة التي تكبّر دقائق الأمور ولم أستطع قراءة ما كُتب على جبيني، كنت أريد استكشاف طالِعي، ولم أوفَّق رغم تمحيصي في جبيني المعروق، إلا بترجمة خطّين احتفاريّين يزدادان غؤوراً بامتلاء الزمن الفارغ، ويتّضحان، كأخدودين عرضيين متغضّنين.
خطّان فقط كانا على جبيني، غبيّان، سطحيّان كشحطتي سكين غير مشحوذة، مرسومان اعتباطياً، وكأنّ جبيني بلورٌ مشعور، مرميُّ بحصاةٍ عن بُعد فلم تنقبه ولم تثقبه ولم تكسره.
وعندما سلّمتُ كفّي لقارئة الكف، وجدتها تؤلّف قصصاً عن خطوط راحة يدي، فمن أين تأتين بكلّ هذه القصص؟ عجباً، وهل تكون تلك الرواية المُختلَقة التي تنسجينها عنّي موجودة هنا في راحة يدي؟ علّميني أيتها المنجّمة كيف تقرأين خطوط اليد.
وذهبتُ إلى مركز التدليك الجسماني ولم أكُ لأعرف أنه مركزٌ للتدليك الروحي والروحاني أيضاً، وتأخّر المدلّك في البدء بعمله بعد أن فرش زيوته ومزلّقاته على ظهري، ودار إليّ ليواجهني وعلامات البهتة والذهول تعلوه وتدهشه، وقال لي بأنّ هناك حكاياتٍ وحكايات مرسومة على ظهري. ولا ترتسم على الظهر عادة إلا عقابيل الجَلْد القديم بالسياط، وما تعرّضتُ يوماً للجلد في ساحة المدينة، ولكني كنت أجلَد روحيّاً خلال سنيّ حياتي بين الفينة والأخرى، فهل ترَكَتْ السياط الروحية والمعنوية آثارَها على ظهري ليقرأها ذاك المدلّك، ويرتعد؟
وعندما بدأتْ يدُه المغناطيسية تمرّ على الندبات والعضلات المتشنّجة، كنت أتألّم من ذاكرتي، وكأنه ُيعيد قراءة كل جلدة وحيثياتها.
– ادهنها ببلسمك يا أخي عساها تشفى ويخفّ مَعْصُها.
وكان ظهري أمامَه ككتابٍ مفتوح يفكّ حروفَه وجُملَه السرّية المعقّدة، ومنها من كان يأبى الانفكاك ويبقى عصيّاً فيمحوها بمراهمه، وكان ظهري كحجر رشيد بكتابته الهيروغليفية، رموزاً وحروفاً وأفاع وخطوطاً جدّ متداخلة تعبّر عن ظلم فراعنتي الكثر من ساكني أهرامات الخوف والخفرع والمنقرع.
أوّاه أيها المدلّك الخبير، من هنا أيضاً، فقد وصلتَ إلى كدمات وصفعات أبي الهول وما فعل بي من أهوال، اجدع أنفه، ثبّته كتمثال تحت الرمال، لا تخف منه ولو كان بجثمان أسد!
وكنتُ أخرج من جلسته ممسوح الظهر مجليّ الذاكرة إيجابيَّ الطموح، كصفحةٍ بيضاء، لكنّها مُنهكة النسيج من فرط التدليك والامّحاء والاستمحاء. ثم أعود إلى واقعي الذي يعود لتسجيل كلماته على جسدي وروحي ووجداني وذاكرتي، ذاكرتي الباطنة تلك التي يتعذّر الوصول إليها ليتمّ محوها بزيت النسيان المقدّس.
صرتُ من بعدها ميّالاً لقراءة الأجساد كالكتب، أفتحها، وأقرأ ما فيها، ولو كان ملخّصاً في جبينٍ أو كفّ أو ساق مكشوفة، أو تعابير وجه، أو أصابع قدم تخرج كرأس السلحفاة من أمام سيور حذاءٍ صيفيّ.
وعندما اضطجعَتْ بين يديّ تلك الليلة ككتابٍ مفتوح، حاولتُ أن أقرأها بدءاً من صفحة جبينها، لكنه كان محقوناً بإبر التجميل المالئة للأخاديد فبدا كصفحة بيضاء بِكر لم يمسسها الزمن. وكذا وجهها، محقوناً ومشدوداً وممسوح الأمارات والتقاسيم كوجه تمثال جبسيّ جميل، أترعَه النحات بمطرقته طرْقاً وأهلكَه الإزميل الحاد حفراً، لكنّ النتيجة كانت وجهاً ناعماً ممسوح الأخاديد جامد الأحاسيس، لا بل مغلق المسامات بالمساحيق، كوجه الطفل المولود حديثاً بلا حكاية، لأنّ حكايته لم تبدأ بعد.
وكانت تعجب من فرط تأمّلي لها، كفنانٍ عاشقٍ للوحته مفتونٍ بتقاطيعها!
فقلت لها:
– أنا عاجزٌ عن قراءتك، مع أنكِ الآن بين يديّ ككتابٍ مفتوح على مصراعيه، فهل أنت مكتوبة بالحبر السرّيّ يا ترى؟
وكانت سعيدة بين يديّ، مغمَضة العينين، مفترّة الشفتين، مسترخيّة، مستسلمة لي، مع أني كنت ممسكاً بدفّتيها الطريّتين، ككتابٍ مفتوح، أقلّب صفحاتها البيض. وكلها كانت متشابهة، جديدة، غير معروكة، لم تجرّحها الأقلام ولم تلوّنها الأحبار، كدفترٍ تمّ شراؤه للتوّ من المكتبة المدرسية.
وكنت أبلل إصبعي بريقي لأستطيع قلب كل صفحة جديدة ملتصقة على ما يليها، واستمرّيت في ذلك واستمرأتُه أنا، واستمرأتْه تلك الإمرأة أيضاً، إذ أن الاستكشاف البطيء للجسد يولّد آفاقاً من الخيالات المجنّحة، كالقيثارة تدوزن أوتارها قبل أن تعزف عليها. وكانت سعيدة، ساخرة من إصراري على تقليب الصفحات كلّها، على كثرتها، واحدةً إثر واحدة. وكنت أظنّ أني لابدّ باستمهالي سأجد سطراً أو جملة أو حرفاً أو حتى إشارة على صفحة ما، ولم أجد ما يؤوف صفحاتها رغم وصولي للدفّة الأخيرة من كتابها النقيّ، الطاهر كتربةٍ لم ينقرها طير، بكثبانٍ لم تذروها الرياح ووديان لم تزُرْها الشمس اللعوب.
قلت:
– حتى أنّ صفحاتكِ الفارغة البيضاء غير مسطّرة ولا هوامش لها؟
– نعم، لا أحبُّ الالتزام بالسطور ولا الوقوف عند الهوامش، ولا فرق عندي إن بدأتَ بالكتابة عليّ من يميني أو يساري، بيدك اليمنى أو اليسرى. وكما رأيت يا صديقي، فكتابي ليس للقراءة وما هو إلا دفتر جديد للكتابة عليه فقط!
فأغلقتُ كتابَها على دفّتيه، كمن يُنهي قراءة سورةٍ من مصحف، فيقبّل غلافه الصقيل، ويضعه على رأسه. ثم احتضنْتُه إلى صدري مستمتعاً برائحة عطره المنبعثة من حواشي صفحاته وثنيّاتها.
– ولماذا يكون كتابكِ صغيراً هكذا بعديد صفحاته؟ عدم المؤاخذة فأنا لا أشير إلى عمركِ بالسنوات، وها أنت ترين كتابي كبيراً ومثقلاً بصفحاته العتيقة المبللة بالريق والبصاق والقيء والعرق والدم أحياناً، هذا مع أني لا أكبركِ بالكثير من السنين؟
لكنها لم تجب، واكتفت بابتسامتها الراضية وأنا أحتضن دفّتيها الناعمتين اللمّاعتين المصقولتين بعناية.
ثم ما لبثت أن استنفرَت كلّ فتنتها وقالت:
– انتبه، لا تقسو عليّ وأنت تحتضن كتابي الغضّ، إذ أنّ صفحاته غير مخيطة بإحكام وقد تفكفك مفاصله، قد تُسقِط منه بعض صفحاته بعنف احتضانك
– نعم، لاحظتُ أنّ خياطتَه فضفاضةٌ عليه، فما السبب؟
– ذاك لأني أمزّق كل صفحةٍ كُتِبَ عليها من كتابي، ولو كتبوا عليها حرفاً، ولو مرّوا عليها كمرور الكرام. لا أستعمل الممحاة، ولا أمحو أية أخطاء كتابية على صفحاتي، ولا أصلح أخطاء الكتابة ولا هِناتها مهما صغُرت، ولا أريد الاحتفاظ بالذاكرة الشمطاء ذات القروح الممضّة. اكتب صفحتكَ الآن، بالوطء أو بالحِرث أو بالشعر المقفّى أو بالنثر المملّ، وسأمزّقها غداً، وأرميها. وسأعطّر الصفحات البيضاء الباقية بالعطر النفّاذ لكي أزيل بقايا ريقك وبصمات أصابعك التي استطلَعَتْ واستنهبَت كل صفحاتي البيض.
فأعدتُ كتابَها إلى مجلسِه ملفوف الساقين، وقلت:
– سيدتي الجميلة، سأضيف قصتك إلى صفحاتي، ولكني أعجز من أن أكتب سطراً ولا جملة ولا حرفاً على صفحة من صفحاتك الرائعة، لماذا؟ لأني لا أريد أن أكون واحداً من أولئك الكتّاب الذين تمزّقين صفحاتهم غداً، وتتلفينها وكأنها لم تكن. وسيبقى كتابكِ الجميل في ذاكرتي مقدّساً، محرّماً، بكراً، ولا دخلَ لي بصفحاتكِ التاريخية الممزّقة.
خرجَتْ من عندي حزينة، مكسورة الوجدان، متدلّية الرقبة، ككتابٍ خجول، مخلخل الصفحات مرخيّ الدروز، ثم انعطفت نحوي بعنقها وهي تهمس باستحياء:
– قد أمزّق صفحاتي المستعملَة وأحرقها، نعم، لكني لن أنسى أنني استسلمتُ بين يديك يوماً ككتابٍ مفتوح، وأصعب موقفٍ يمرّ على كتابٍ معروض في السوق، هو أن يستطلعه الزبون القارئ ويقلّب صفحاته باستخفاف ولا ، ولا يشتريه. فهل تقبل بكتابي كهديّة أيها القارئ، والله سأكتب لك إهداءً جميلاً بصفحته الأولى، وسأذيّله بتوقيعي، بشرط واحد، أن تحتفظ به في مكتبتك ككتابٍ عزيز.
لم أحتفظ بها في مكتبتي كما أرادت، لكنها كانت بالنسبة بين الفينة والأخرى (سرج سابحٍ) كأعزّ مكان في الدنى، و كتاباً مفتوحاً كخير جليس.