الثلاثاء ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٣
بقلم محمد الورداشي

لماذا سجنتموني؟

تتنكر للآيات المسطورة على جبينك، وتتحايل على المعرفة المحفورة في صدرك، وتتغافل عن القيم النبيلة التي نقشتُها على صفحة مسيرتك، وتسألني يا سيدي مفتخرا بكرسيك، ومزهوا بعباءتك السوداء الموشاة بالحزام الأخضر:

 من تكون أيها الماثل أمامي؟

فأجيبك والدمع البلوريُّ يتلألأ في عينيّ:

 أنا مواطن مغربي من الدرجة الثانية.. عفوا سيدي؛ ما أنا إلا متهم.

تحك رأسك الصلعاء وتتمايل في كرسيك، ثم..ثم تسترسل في بسط أسئلتك المسكوكة المكرورة:

 أنت متهم بإهانة موظف أثناء مزاولة عمله و..

 عفوا سيدي القاضي، كيف تتهمني بالإهانة وأنت تعلم، والله أعلم إن كنت تعلم فنسيت، أني منذ ولدت وأنا أرتع في الإهانة.. بل في الإهانات.

تنظر إلى زملائك الرابضين جانبيك، فتسألني مستوضحا:

 فصّل كلامك على قدر المقاسات المتاحة لك.
وأجيبك مفصلا:
 أهنت منذ ولدتُ في بقعة هامشية معدومة من كل شيء: أهنت في كرامتي لأن لا بيت يأويني، وفي المدرسة لأن البرد القارس والمطر الموجع يفترسانني، وفي الشارع لأن إسفلته أكل قدميّ الحافيتين، وفي المقاطعة والجماعة والمستشفى.. لأني لم أجد من يعطيني هوية محددة، ولا اسما يليق بي؛ فسميتُ نفسي، منذ نعومة أظافري، مواطنا من الدرجة الثانية..
 ولكنك درست ونجحت، والآن صرت أستاذا..!
 وهذه خطيئتي يا سيدي؛ لأني اخترت أن أكون أستاذا مربيا للأجيال..
 وما يضيرك في هذه المهنة الشريفة.. مهنة الأنبياء والرسل؟
تذرف عيناي مجددا، وأجيب بحيرة:
 كانت مهنة شريفة حين كان المجتمع يشرف صاحبها، ومهنة الأنبياء والرسل حينما كان صاحبها يحترفها دون خوف من الرفس والسحل والسباب والسجن..
 لا أحد حملك على ارتكاب هذه الأفعال والسلوكيات المنسوبة إليك..
 كلا سيدي القاضي؛ بل حملتني الكرامة على الخروج إلى الشارع، وعبوره طولا وعرضا في سبيل كرامتي..
 نحن هنا لسنا في مقام سماع تأوهاتك وشكواك..
 نعم سيدي، لا وقت لديكم ولا سعة صدر لتسمعوا شكواي، ولكنّ ورائي قوما آخرين يتعذبون كما أتعذب، ويقاسمونني همومي وتوجعاتي..
 لا شأن لنا بهم.. قل لنا رأيك في ما نسب إليك.
 إني حزين سيدي: حزين على نكرانك جميل من علمك وثقفك حتى بلغت ذاك المقام.. حزين على وقوفي أعزل ذليلا أمامكم.. حزين على أن حبي لهذا الوطن انقلب إلى معاناة أبدية.. حزين على أني أعلم وأربي أجيالا تحاكمني..
 أنت قمت بواجبك، وأنا سأقوم بواجبي تجاهك خدمة لهذا الوطن؛ ألست أنت من ربيتنا على القيام بالواجب مهما كانت الظروف التي قد تمنعنا من تأدية الأمانة؟
لما تجرعت مسامعي هذه الكلمات قلت في خلدي سأحتج، سأثور، سأتمرد؛ وسأتوج، أخيرا، احتجاجي وثورتي وتمردي بالصمت. لذلك ألزمت الصمت مدة طويلة ظل خلالها القاضي يدق المائدة المستطيلة بقلمه، ولما استبد به الانتظار أخذ يمج كلماته كالشهب:
 خلصت المحكمة الموقرة، محكمة الأرض، أن المتهم لم يستطع الدفاع عن نفسه أمام التهم الموجهة إليه، ومن ثم، سنخوض في المداولات..
لم أسطع الصمت أمام عجلة هذا القاضي، لهذا سأتحدث وسأقول ما يتلظى به قلبي:
 سيدي القاضي، قبل أن تخوضوا مداولاتكم فإني أعرف أحكامكم يا أهل الفناء.. فلئن كان حكمكم قاسيا فإني سأضعه إكليلا على رأسي ليبقى شهادة للأجيال الآتية على أني حكمت ظلما، وأن تهمتي هي أني اخترت الأستاذية، ومحاربة الجهل والظلم والإهانة، وغرس العلم والعدل والكرامة..
توقفت حتى ألملم شتات كلماتي، ثم تابعت:
 وليعلم الجميع أن لي في الأنبياء والرسل، وفي سقراط أسوةً حسنةً؛ لذلك، فلتسمعوا وتعوا، وإن وعيتم فانتفعوا: فالمحن والإحن التي تنزل على رؤوس الحكماء والأنبياء هي الإكليل الذي يتوج مسيرتهم..
جمع القاضي أوراقه متعجلا، وتوجه نحو باب خلفي ورفاقه خلفه يجرون ذيول أثوابهم الفضفاضة. أما أنا ومن آزرني من المعذبين في الأرض، فإني بقيت أعد الدقائق التي قضتها الهيئة في مداولاتها، وبعد كل دقيقة تمر أخمن في مصيري.
ها هي الهيئة الموقرة تخرج، وها هم أعضاؤها يطلون علينا بوجوه مقطبة واجمة، وكل واحد منهم يتأبط أوراقا مبللة بحيرته، وبعدما جلسوا ووقفتُ، وبسطوا أوراقهم أمامهم وبسطتُ يدي على قفص الاتهام، قال القاضي:
 بعدما تداولت هيئة المحكمة الموقرة التهم الموجهة إلى المتهم "مربي الأجيال" أو "مواطن من الدرجة الثانية" كما سمى نفسه، خلصتْ إلى الحكم النهائي: سنة سجنا موقوفة التنفيذ.
بلغت صدمتي منتهاها، وأخذت أنظر إلى الحاضرين نظرات الاستغراب والضعف، فعلمت أني ضعيف أمام الجلاد، وأن في نفسي كلاما كثيرا لم ولن أقوله، ولكني رددت بصوت مرتفع:
 عند محكمة الله تلتقي الخصوم، و"يا ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء".. ثم غادرت المكان منكسرا لا أدري الوجهة التي أقصدها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى