لِمَ أحب الكتابة؟
أحب الكتابة لأنني أشعر، وأنا أكتب، بأنني مرتبط بأعماق إنسانيتي. فالكتابة مجال مترامي الأطراف في حياتي حيث أشعر بالسيطرة التي تكاد أن تكون مطلقة. يمكنني، وأنا أكتب، أن أكون أي شيء وأن أفعل أي شيء. لا يوجد شيء مغرِق في التخيل أو التوهم. يمكنني أن أضيّف حفلة عشاء فاخرة، أو أن أخترق النفق المفضي إلى مركز الأرض أو أن أشيد مدينة من الذهب والماس ومن الفضيلة والإنسانية.
تتيح لي الكتابة فرصة كل يوم أو ليلة لأن أجلس أو أن أستلقي مع أفكاري وبنات خاطري وأنا هادئ. أعتقد بأن من المهم أن أجلس بينما تكون نفسي هادئة. الكتابة تهدئني. وتجعلني متأملا وتساعد في إبقائي ساكنا وسلميا في عالم مسعور جدا؛ عالم تقل فيه القيم الرفيعة الفاضلة السامية تدريجيا وأحيانا دفعة واحدة، رهنا بالمكان وطبيعة الأحداث.
أحب أن أكتب لأن الكتابة تذكرة لي بمدى الحرية التي أمتلكها. ومن المحزن أنه توجد حكومات ذات نظم سياسية مختلفة في جميع أنحاء العالم تشعر بأن الكلمة المكتوبة تهددها. والكُتاب الذين يعيشون في تلك البلدان يعانون من التمييز ضدهم ومن الاضطهاد ويودعون خلف القضبان الحديدية، وتخضع كتاباتهم للمراقبة، وتتعرض حياتهم للتهديد يوميا – كل ذلك لأنهم ببساطة يحبون أن يفعلوا ما أحب أنا أن أفعله: أن أكتب. ومن ثَمّ تصبح الكتابة تحديا لكَ ولكِ ولي؛ لجميعنا، لمواجهة الحقيقة أنه ليس الناس جميعا أحرارا ولبذل الجهود لتغيير تلك الحالة.
تجعلني الكتابة أشعر بأنني سيد نفسي ووقتي في حماي وحديقتي التي يمتزج فيها النرجس الأصفر والورد الأحمر وخضرة التمنيات الإنسانية.
يتأثر كل كاتب بأي شيء قرأه في يوم من الأيام. ويكون هذا التأثر مستترا أو مكشوفا. إن مختلف القصص والكتب والدراسات والمقالات التي قرأها الكاتب أو سمعها تكون قد تسللت على نحو من الأنحاء إلى أفكار الكاتب وموقفه سواء أكان واعيا أو غير واع بذلك.
إنني أحب فكرة أنني أجلس على شكل من الأشكال، حينما أكتب، مع جميع الكتابات التي قرأتها في وقت من الأوقات، وأجلس أيضا على شكل من الأشكال مع الكُتاب الذين كتبوها. وقد أجالس هذه الكتابات، فينشأ بيننا تعارف. وقد تنشأ بيننا صداقة وقد تتعزز أواصر تلك الصداقة. وقد يدور بيننا تحاور نتبادل عن طريقه الأفكار والخواطر. أحب أن أعتقد بأنني مرتبط بأناس مثلي أحبوا أيضا ما سالت به أقلامهم، وانهمرت به عواطف نفوسهم شعلة من الكتابة.
أحب الكتابة في مختلف الأزمنة، ومنها في هذا الزمن الذي يمكن فيه الوصول إلى والتواصل مع كثير من الناس.
أشعر بأنني ذو حظ بحبي للكتابة لأن محبتها تزيد من إنتاج وصياغة العبارات الحاملة للمعاني والأفكار الإنسانية والواقعية.
أحب الكتابة الحرة لأنها أداة للإعراب الحقيقي عما يدور في الخاطر ويعتمل في النفس ويتحاور مع ما نعرفه عن العالَم الخارجي والداخلي.
أحب الكتابة لأن المواضيع والمسائل التي من الممكن تناولها بالكتابة كثيرة ومن الممكن أنه لا حصر لها. ولعل الكاتب لا يستطيع أن يتناول جميع تلك المواضيع والمسائل. والكتابة وسيلة طيعة لإرساء الاتصال بيني وبين المواضيع والمسائل التي لعلها لم تحظ بقدر واف من التقليب والتناول.
عن طريق الكتابة أعرب عن الروابط بيني وبين البشر والكون. وتتيح لي الكتابة فرصة للتعليق على المواد المكتوبة ونقدها وتتيح لي الكتابة أن أشاطر الناس تجاربهم وأن يشاطروني تجاربهم في العلاقات الاجتماعية وحياتهم الفكرية ومعضلاتهم الحياتية. وتولّد الكتابة المناقشات الشيقة والشائكة، وتساعد الكتابة على تحقيق نمو البشر ونضجهم.
وأرى أنه يجب أن تكون الكتابة صريحة ونزيهة، ومستحقة للثقة ومعولا عليها. الكتابة بهذه الصفات تعلمنا الصراحة والنزاهة.
وتساعدنا الكتابة على الاطلاع على أسرار الفرد والكون والروح والعاطفة. والكتابة، لأنها صريحة ونزيهة ومتعمقة، خلاقة. بها يعرب الإنسان عن نفسه. وتنقلني الكتابة عبر عتبات الطهر والنزاهة إلى الطبقات العليا للذات. عن طريق الكتابة تنشأ الصداقات، وبالتالي تسهم في نشوء وتعزيز التماسك القيمي والاجتماعي.
وأحب الكتابة لأنها انعكاس لنفسي. أرى فيها نفسي وموقفي وشخصيتي وفرديتي. أرى كتابتي فأرى فيها صورة ليست غريبة، مألوفة، ونفسا تحلق في الأعالي بعيدة عن البشر وقريبة منهم.
وأكتب لأنه يحلو للكاتب عادة أن يكون لكتاباته قراء كثيرون، فلكثرة القراء والناقدين دور المحفز له على مواصلة التواصل الفكري المكتوب. ولا يُقصد بالكتابة الإعراب كتابيا عن الفكر فقط ولكن نشرها وتحقيقها أيضا. ومما يدعو إلى سرور الكاتب مشاهدته الناس يتبنون تلك الأفكار وينفذونها. ويسر الكاتب أيضا أن يرى الناس يحصلون على نتائج إيجابية من تحقيق أفكار الكاتب ومواقفه ورؤاه. فهو يُسرّ ليس فقط بذلك ولكن أيضا برؤيته اغتباط الناس بتبني أو قبول فكره وشعورهم بإنجاز المنجزات نتيجة عن ذلك.
ويشكو الكاتب من جهل الناس، وهو منهم، أو بعضهم بحقائق الدنيا وبقسوتها ويتألم لألمهم ويتحسر لمعاناتهم ولذلك يطيب له نشوء الوعي لدى الناس بالحقائق المؤلمة في واقع الحياة وبانتشار النفاق واستفحال المادية واستعصاء الفقر والجهل والمرض والمذلة لدى الشعوب وعدم اليقين والافتقار إلى الاستقرار النفسي.
والكتابة عملية مستمرة، بمعنى أن الكتابات لا تشمل جميع جوانب الموضوع الذي يجري تناوله ولا تشمل كل الجوانب التأملية أو الفلسفية أو الفكرية أو النفسية أو الروحية أو العاطفية للموضوع أو المجال الذي يجري تناوله. الكتابة أتصورها أنها تناول أو تصدّ مستمر لكل كاتب أو امرئ أن يشارك فيه أو أن يدلي بدلوه فيه. خلال هذه العملية المستمرة المنطوية على التواصل والتنسيق والتنظيم والبناء والهدم والفتق والرتق تجري زيادة التناول تعمقا، ويجري توليد وتوفير مزيد من الخيارات والبدائل والرؤى لمختلف الجوانب الثقافية والفكرية والنفسية والإنسانية.