ماهية الشعر في التراث النقدي
لقد شغلت الخصائص النوعية للشعر الدارسين قديماً وحديثاً من أجل الكشف عن قيمة الشعر ووظيفته ، وتتداخل لدى النقاد أبعاد وظيفية مختلفة ، منها ما يتصل بلغة الشعر بوصفها مميزاً لماهية الشعر ، وأنها تمثل أحد المكونات النوعية التي تحدد ماهية الشعر ، ومنها ما يتصل بخصائص خارجية تعنى بمجرد التراص للوحدات الصوتية إحداها جنب الأخرى ، ومنها ما يتجاوز ذلك إلى خصائص تنأى عن الأبعاد المعيارية العروضية إلى الكشف عن جوهر الشعر أو محاولة الاقتراب منه .
ويتحدد التمايز من خلال التماثل والاختلاف بين جنسي الشعر والنثر ، فهما على الرغم من التقائهما في مادة الكلام الأساسية ، أي الألفاظ والمعاني ، وكيفية توليفهما في كلام فإنهما مختلفان من حيث الخصائص الشكلية من ناحية ومكونات الإبداع الداخلي للتجربة الشعورية للشاعر من ناحية أخرى .
وقد أدرك النقاد العرب أن هناك تمايزا بين الشعر والنثر من حيث الماهيات والوظائف، إذ يتحدد الشعر بوصفه فنا أو صناعة تستقل بذاتها عن النثر ، ويتميز الشعر بخصائص يمثل الإيقاع الذي يتأسس عليه الغناء أبرزها ، ولما كان الغناء يتأسس على الشعر فإن قيمة الشعر تبدو واضحة فيما يتركه من أثر في المتلقي ، لأنه يجمع بين المتعة والفائدة ، وتتبدى المتعة في « تنبيه النفس واجتلاب الطرب » ، في حين تتبدى الفائدة في « تفريج الكرب ، وإثارة الهزة ، وإعادة العزة » .
ويتأرجح تحديد الشعر والنثر بين بعدي العقل والحس ، ويتفاوت النقاد في موقفهم من الشعر والنثر بحسب مواقفهم المعرفية فأبو حيان التوحيدي يفضل النثر لأنه يعلى من أهمية العقل ، ويقدم لذلك أسبابا يتصل بعضها بوحدة النص النثري لان « الوحدة في النثر أكثر ، والنثر إلى الوحدة أقرب ، فمرتبة النظم دون مرتبة النثر لأن الواحد أول والتابع له ثان ».ويتأتى هذا بسبب مخاطبة الشعر الحس ، لأن «ألفاظه الموزونة تتوجه إلى السمع قبل توجهها إلى العقل » .وإذا كان الشعر والنثر يمثلان صورتي الكلام ـ كما يذهب إلى ذلك التوحيدي فإن الفوارق تكمن في ملمحي الوزن والقافية ، إذ يتسم بهما الشعر ، ويفتقر إليهما النثر ، لأن مادة الشعر الأساسية فيما يرى الحاتمي « اللفظ والمعنى والوزن والتقفية » ، وهو يقترب من تعريف قدامة بن جعفر الذي يتحدد بكونه « قول موزون مقفى يدل على معنى » ولا يعني هذا إصدار حكم قيمي ، لأن جوهر الشعر لا يتحدد بهذين المكونين الشكليين ، وقد فطن إلى ذلك قدامة بن جعفر ، حين جعل هذه المكونات الأربعة مادة للشعر وتحديدا عاما له ، فقد يكون شعرا حسنا أو قبيحا أو على حد تعبيره « يحتمل أن يتعاقبه الأمران ».
وإذا كان الشعر والنثر يمثلان صورتي الكلام ـ كما يذهب إلى ذلك التوحيدي فإن الفوارق تكمن في ملمحي الوزن والقافية ، إذ يتسم بهما الشعر ، ويفتقر اليهما النثر ، لأن مادة الشعر الأساسية فيما يرى الحاتمي « اللفظ والمعنى والوزن والتقفية »، وهو يقترب من تعريف قدامة بن جعفر الذي يتحدد بكونه « قول موزون مقفى يدل على معنى »ولا يعني هذا إصدار حكم قيمي ، لأن جوهر الشعر لا يتحدد بهذين المكونين الشكليين ، وقد فطن إلى ذلك قدامة بن جعفر ، حين جعل هذه المكونات الأربعة مادة للشعر وتحديدا عاما له ، فقد يكون شعرا حسنا أو قبيحا أو على حد تعبيره « يحتمل أن يتعاقبه الأمران ».
ولا يختلف عنهما نقاد آخرون أو بلاغيون أعطوا هذين البعدين ميزة خاصة ، فالرماني ـ مثلا ـ يرى أن أحسن الشعر ناتج من « إقامة الوزن ، ومجانسة القوافي ، فلو بطل أحد الشيئين خرج من ذلك المنهاج ، وبطل ذلك الحسن الذي له في الأسماع ، ونقصت رتبته في الإفهام » ، وهذا يعني أن المعول عليه في تحديد ماهية الشعر يرجع إلى هذين المكونين الشكليين ، فإن افتقر النص اليهما تحول إلى كلام عادي ، ويماثله الباقلاني ، وإن كان بنزعة أكثر إيغالا في النقلية والتعصب ، لأن الشاعر لديه إذا خرج « عن الوزن المعهود كان مخطئاً ، وكان شعره مرذولاً ، وربما أخرجه عن كونه شعراً » ، ولم يشر الباقلاني ـ هنا ـ إلى القافية ولكنها متضمنة في الوزن فإن وُجد بعد ذلك كلام يشتمل على الحسن « بغير الوزن المعروف في الطباع ، الذي من شأنه أن يحسّن الكلام ، بما يفوق الموزون ، فهو معجز ».
ولقد شغل الباقلاني بقضية إعجاز القرآن ،ولذلك أخذ يتعسف كثيرا في تحليل معلقة امريء القيس من أجل إثبات إعجاز القرآن الكريم ، ومن أجل أن ينفي عن القرآن صفة الشعر وعن الرسول صفة الشاعرية ، ولذلك فعندما تبدو بعض الآيات القرآنية متوافقة مع أوزان شعرية ينفي الباقلاني ذلك عن القرآن لأن « أقل ما يكون منه شعراً أربعة أبيات » بعد القصد والنية ، و «كل متكلم لا ينفك من أن يعرض في جملة كلام كثير يقوله ، ما قد يتزن بوزن الشعر وينتظم انتظامه .... وما اتفق في ذلك من القرآن مختلف الروي ، ويقولون إنه متى اختلف الروي خرج عن أن يكون شعراً »، وهذا يعني أن الخصائص الشكلية لا تحدد وحدها ماهية الشعر إذ لا بد أن يصدر المبدع عن قصد.
ويتجدد الشعر عند ابن طباطبا في ضوء مكونين ، أولهما داخلي يحدد للشعر خصوصيته من خلال السمات الداخلية ، ويتمثل من خلال بعدي : الكلام الذي يتضمن التأليف ، وهو يدل على طريقة مخصوصة في الأداء ، والنظم الذي يدل على خاصية تتجاوز العروض ، وتلتقي ببعض سمات القرآن الكريم الذي كثيرا ما عبر عن إعجازه من خلال نظمه ، وهي طريقة مخصوصة في الأداء ، ومن خلال هذين البعدين ـ الكلام المؤلف والنظم ـ حدد ابن طباطبا ماهية الشعر بسماته الداخلية ، وأضاف إلى هذا تحديدا من خلال مغايرته للنثر الذي يبدو قسيما للشعر ، غير أن مفهوم النثر يتسع لديه ليشمل ما« يستعمله الناس في مخاطباتهم » ، ولذلك فالشعر « كلام منظوم بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم بما خص به من النظم الذي إن عدل عن جهته مجته الأسماع وفسد على الذوق » وإذا كان ما سلف يؤكد على دور المتلقي الذي يمايز بين الشعر وغيره ، لأن خروج الشعر عن النظم تمجه أسماع المتلقين ، فإن ابن طباطبا أكد أهمية المبدع ودور ملكته الفطرية أو المكتسبة ، لأن صحة الطبع أو اعتداله تمكن الشاعر من الإبداع دون حاجة لعلم العروض ، وهو علم معياري تعليمي ، وأن فساد الطبع واضطرابه يمنعان الشاعر من الإبداع ، وتصبح معرفة العروض لازمة لا بد منها ، بحيث «تعتبر معرفته المستفادة كالطبع الذي لا تكلف معه » .
وتتكرر بعض هذه المفاهيم عند قدامة بن جعفر وآبى حيان التوحيدي ، فالشاعر عند قدامة لا « يعول في شعر إذا أراد قوله إلا على ذوقه »، وان الذوق يسبق العروض كما يرى التوحيدي ، وفي ضوء هذا يتقدم الذوق على العروض ، لدرجة أجاز الخالديان شعرا لا يجري على قواعد الخليل العروضية ، ويستشهدان بالأبيات :
ذَاكَ وَقَدْ أَذْعُرُ الْوُحُـوشَ بِصلْـ ـتِ الخـدِّ رَحْبِ لَبَانُهُ مُجْفَرْ
طَــويِلُ خَميسٍ قَصـِيرُ أَرْبَعةٍ عَرِيضُ سـتٍّ مُقلصٍ حَشْوَرْ
حـدَّت له تسعةٌ وَقَدعَــريَتْ تِـسْعٌ فَفِيـهِ لِنَــاظِرٍ مَنْظَرْ
ثُمَّ لَهُ تِــسْعَةٌ كُسِــينَ وَقَدْ أَرْحـبَ مِنْهُ اللُّبـَانُ وَالمِنْخَرْ
إن تفعيلات هذه الأبيات تخالف القواعد العروضية لأن عروضها مفاعلتن وضربها مفاعيلن ، وحشوها متنوع ، وعلى الرغم من ذلك فإن الذوق ـ فيما يرى الخالديان « يصحح هذه الأبيات .... ولا ينبو عنها السمع لاطرادها واستقامتها ».
إن هذه التصورات تؤكد ضرورة التمرد على القيود التي تفرضها النظرية العروضية التي أشادها الخلي ، لعدم اشتمالها على كل الفاعليات الإيقاعية في الشعر ، ولذلك حاول غير واحد من النقاد تقديم بديل عن الجانب الإيقاعي ، أو مجاورته لمكونات أخرى ، فالجرجاني في وساطته يجعل الشعر علما من علوم العرب تحدد ماهيته مكونات داخلية وخارجية ، وتتمثل الخارجية في الرواية والدربة ، والداخلية في الطبع والذكاء ، ومما يلفت النظر أن الجرجاني أكد أهمية الطبع وفاعليته في الإبداع الشعري ، والطبع قوة كامنة في الإنسان يودعها الله فيه، ولكنه لا يمكن له تأدية دوره إلا بعد خضوعه لإرادة الإنسان من خلال تجربة ودربة ومكابدة ، ولذلك فالإبداع يتولد من « المهذّب الذي قد صقله الأدب ، وشحذته الرواية ، وجلته الفطنة ، وأُلهم الفصل بين الرديء والجيد ، وتصور أمثلة الحسن والقبح ».
ولا يعني هذا أ، الناقد لا يقر أهمية الإيقاع وزنا وقافية ولكنه يضيف اليهما خصائص أخرى قارة في النفس ، ويؤكد هذا المعنى أبو حيان التوحيدي الذي يؤكد إضافة إلى الوزن أهمية التجربة الشعورية وصدقها لأن منتهى الشعر « قائم في النفس من صاحبه ، ثابت في قريحته ، يجيش به صدره ، ويجود به طبعه ، ويصح عليه ذوقه » وهذا يعني أن الشعر تجربة كامنة في النفس لدرجة تذكرنا بمفهوم التعبير الذي تنادي به بعض الاتجاهات الوجدانية المعاصرة ، ويدل على ذلك توصيف العملية الإبداعية بجشيان بالصدر، وما يجود به الطبع ويصح عليه الذوق .
ويتميز ابن وهب الكاتب بتوافقه مع أبي احمد الرازي بإرجاع مفهوم الشعر إلى جذره اللغوي الذي يدل على الفطنة ، ولكنه يختلف عن بقية النقاد لدرجة يكاد يلغي دور الوزن والقافية ، إذ يرجع إبداع الشعر إلى الشعور الداخلي والمطابقة بين الاسم والمسمى وما سمي الشاعر إلا لأنه يشعر في معاني القول واصابة الوصف بما لا يشعر به غيره « وإذا كان إنما استحق اسم الشاعر لما ذكرنا ، فكل من كان خارجاً عن هذا الوصف فليس بشاعر ، وإن أتى بكلام موزون مقفى».