الأحد ٢٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٨
الومضةُ الشعريّة وسماتها

ما الفرق بين الومضة، والتوقيعة!!

دكتور حسين كياني- ودكتور سيد فضل الله مير قادري - إيران

الملخّص

(التوقيعة - الومضة الشعريّة) لحظة أو مشهدٌ أو موقفٌ أو إحساس شعريّ خاطف يمّر في المخيلة أو الذّهن يصوغُهُ الشاعرُ بألفاظٍ قليلةٍ. وهي وسيلة من وسائل التجديد الشعري، أو شكل من أشكال الحداثة التي تحاول مجاراة العصر الحديث، معبرة عن هموم الشاعر وآلامه، مناسبة في شكلها مع مبدأ الاقتصاد الذي يحكم حياة العصر المعاصر. راجت الومضة في السبعينات من القرن العشرين وباتت تستقلّ بنفسها حتّي أصبحت شكلاً شعريّاً خاصّاً. من أهم العوامل التي لعبت دوراً هاماً في نشأتها هي التحول الفكريّ والفنيّ ومتطلبات الحياة الجديدة والمؤثرات الأجنبية. (وقد كان لعزالدين المناصرة، قصب السبق في تأسيس هذا النمط الشعريّ؛ ومن روّادها بعده، أحمد مطر، مظفر النواب، تتسم (الومضة) بالسمات العامّة للقصيدة الحديثة، منها: التفرد والخصوصية، التركيب، الوحدة العضوية، والإيحاء وعدم المباشرة وتنفرد بالاقتصاد في الايقاع والصورة واللغة والفكرة. تحاول هذه المقالة بعد التعريف بالومضة وما شابهها وتاريخ نشأتها وعوامل وسمات وروّادها أن تثبت أنّ الومضة الشعرية وإن تأثرت بمؤثرات في الأدب الأوروبي ولكن ليست نسخة من الشعر الياباني أو الإنجليزي بل هي إحياء أو إعادة صياغة لما نعرفه في الشعر العربي القديم من المقطعات وامتزجت فيها الخصائص التراثية والعالمية.

الكلمات الأساسية: الومضة، التوقيعة، عزالدين المناصرة، اللمحة، الحداثة الشعرية.

مقدّمة

عرّف الشاعر الفلسطيني عزالدين المناصرة (1964) – التوقيعة التي اعتبرها ومضة كما يلي: (قصيدة قصيرة جداً من نوع (جنس الحافة)، تتناسب مع الاقتصاد، والسرعة، وتتميز بالإيجاز والتركيز وكثافة التوَتُّر. عَصَبُها (المفارقة)، الساخرة، والإيحاء، والانزياح، والترميز. ولها ختامٌ مفتوح قاطع أو حاسم، مدهش، أي أنَّ لها (قفلة) تشبه (النَقْفَة) المتقنة، ملائمة للحالة. تحكُمُها الوحدة العضوية، فهي متمركزة حول ذاتها، (مستقلة). أو تكون (مجتزأة) يمكن اقتطاعها من بناء القصيدة الطويلة. وهي في شفافيتها وسرعتها تشبه ومضة البرق، لكنها ليست مائعة الحدود كالومضة، وتستخدم التوقيعة (أحياناً) أساليب السرد. وكلُّ توقيعة هي قصيدة قصيرة جداً، لكن ليست كلُّ قصيدة قصيرة... توقيعة، وكل توقيعة تعتبر ومضة، ولكن ليس كل ومضة تعتبر توقيعة). أما الومضة – كما يضيف المناصرة - فهي: (صورة صافية منفصلة عن الذات وتفتقد إلى المفارقة التي هي عصب التوقيعة).

شهد الأدب العربي المعاصر التحوّلات الثلاث في طريقه إلى التطوّر والحداثة. التحوّل الأوّل في الانتقال من الضّعف والرّكود إلى القوّة والحركة بخاصّة مع محمود سامي البارودي. الثاني مع خليل مطران ؛ الذي فتحَ بابَ الشعر العربي على مصراعيه على الغرب ولا سيما الغرب الفرنسيّ. وكان التحوّل الشعريّ الثالث في الانتقال مِن بلاغة الشعر وتنميقه وبرج عاجيته إلى الاهتمام بالحياة والشعب وهذا كان في كثير من (شعر المهجر وشعر جماعة أبولو). وفي هذه المرحلة وبعدها «برزت الأوزان الخفيفة والإيقاعات السريعة والتناوب الايقاعي وترديداته كما برزت الايقاعات الغنائية السريعة الصافية فأفادَالشعراء مِن هندسة الموشّح وهيمنة الرّباعيات والمزدوجات والنّظام المقطعي هيمنة طاغية»(1).

إنّ ما شهدهُ القرنُ العشرون مِن تسارع في حركة تطوّر الشعر وتجديده، يتوافق وحركةَ التغيير المتسارعة التي هزّت العالم خلالَ هذا القرن وفي هذا المجال يقول يوسف الخال: «نحنُ نجدّد في الشعر، لا لأنّنا قرّرنا أن نجدّد، نحنُ نجدّد لأنَّ الحياةَ بدأت تتجدّد فينا، أو قُل تجدّدنا، فنجاحنا مؤكد ولا حاجة لنا بأي صراعٍ معَ القديم. القافية التقليدية ماتت على صخَبِ الحياة وضَجيجها والوزنُ الخليلي الرتيب ماتَ بفعلِ تشابك حياتنا وتغير سيرها. وكما أبدعَ الشاعرُ الجاهلي شكله الشعريّ للتعيير عن حياته، علينا نحنُ كذلك أن نبدع شكلنا الشعريّ للتعبير عن حياتنا التي تختلفُ عن حياته»(2).

لعبت القصائد الطويلة دوراً في ابتعاد الجمهور عن الشعر، وجاءت قصيدة الومضة لتعيد هذا الجمهور اللذين تعبوا من الإسهاب والسرد الخطابي واللذين لم يعد لديهم من الوقت ما يكفي لقراءة الأشعار الطويلة المملة إلى هذا الفن الجديد. ونحنُ في هذا البحث أمام شكلِ شعريّ المسمي بـ«الومضة» وأسئلةٍ نبحثُ عن أجوبتها بالتحليل والتمحيص وهي:

 ما الومضة الشعريّة وما هو تاريخ نشأتها؟

 ما عوامل نشأتها وسماتها وروّادها؟

 هل الومضة نسخة من الشعر الياباني «الهايكو» والشعر الإنجِليزي القصير؟

وهنا تجدر الإشارة إلى أن موضوع الومضة الشعرية من الموضوعات الجديدة في الشعر العربي المعاصر التي تطرق إليها عدد من الباحثين وبينوا جوانب خفية منها وأهمّ هذه الدّراسات هي:
1. «النثيرة والقصيدة المضادّة»، لمحمّد ياسر شرف (1981)، النادي الأدبي، رياض. وهو يدرس الومضة الشعريّة تحتَ مصطلح «النثيرة». يبدو أنّه هو من الأوائل الذين قاموا بمحاولات التنظير لفن الومضة الشعرية

2. «بنية القصيدة في شعر أدونيس»، عليّ الشرع (1987) اتّحاد الكتاب العرب، دمشق. هو يدرس فيه الومضة الشعرية تحت مصطلح «القصيدة القصيرة» ويحاول أن يكون في نقده تطبيقياً إضافة إلى محاولته التنظير لهذا الجنس الأدبي الجديد.

3. «الحداثة الشعريّة وفنّ الومضة»، «مدخلٌ إلى دراسة الومضة الشعريّة»، «قصيدة الومضة وإشكالية الشكل»، مقالات لمحمّد غازي التدمري طبعت الأولى (1991) في العدد 8590 والثانية (1992) في العدد 8768 من صحيفة البعث والثالثة (1993) طبعت في مجلة المعرفة العدد 354 في سورية.

4. مقالة «بعض من ملامح "قصيدة الومضة"» لنسرين بدور جريدة الاسبوع الأدبي، السورية، العدد 84 تاريخ 14/9/2002.

يبدو أنّ لمجلات اتحاد الكتاب العرب في سوريا دوراً ريادياً في دراسة الومضة الشعرية في الأدب العربي الحديث. وهذا، الكتب التي اهتمت بدراسة الشعر العربي المعاصر تطرق أصحابها بدراستها؛ نحو: كتاب «إشكاليات قصيدة النثر» لعزالدين المناصرة، وكتاب «بنية القصيدة القصيرة في شعر أدونيس» لعزالدين اسماعيل، تطرق الأخير بمقابلة القصيدة القصيرة بالقصيدة الطويلة في الفصل الذي أقامه بعنوان «معمارية الشعر المعاصر». اعتمد هذا البحث على المنهج المتكامل الذي لا يكتفي بمنهج واحد ويستند إلى المناهج المتعددة مع التركيز على المنهج الأساس. والنهج الأساس في هذا البحث هو المنهج الوصفي التحليلي.

ما الومضة؟ الومضة لغةً من «وَمضَ» وومضَ البرقُ: لمع خفيفاً، وأومَضَتِ المرأةُ: سارقتِ النّظر، وأومضَ فلانٌ: أشار إشارة خفية. وفي هذا المعنى شيءٌ مِن اللّمعان والتلالُؤ والتألُق والإشراق والتوهُّج وفيه شيءٌ من الإدهاش والتشويق وفيه شيءٌ آخر من الشفافية والغموض الآسر وعدم الايضاح لكلّ شيءٍ. وفيه شيءٌ آخر مِن التكثيف والاختزال والاقتصاد اللّغويّ. وقد قيل: «البلاغة هي الايجاز» كما قيل «خير الكلام ما قلَّ ودلَّ». «ويتداخلُ مع معنى الومضة، البرقية ولذلك يقال: «القصيدة البرقية، القصيدة الومضة وهي قصيدة مكثفة ومختزلة جدّاً».(3)

إذن فهي نصٌّ أشبه ما يكون ببرقٍ خاطفٍ يتسم بعفوية وبساطة تمكنه من النفاذ إلى الذاكرة للبقاء فيها معتمداً على تركيزٍ عالٍ وكثافة شديدة مردّها انطباع كامل واحد مستخلص من حالة شعورية أو تأملية أو معرفية عميقة إذن فهي تتوفّرُ على التركيز والغني الواضح بالايحاءات والرّموز وتدفقُ رقراق وانسياب عضوي بديع لوعي شعريّ عميق. فالشكل نصٌّ مختصرٌ مختزلٌ بأعلى قدرة للاختزال. يعرفها (عزالدين المناصرة) لعل أول خطوة في رسم مثل هذه الصورة، هي أن يجمع الشاعر بين المعنى الحسي، والمعنى الذهني في لمحة واحدة، فتشتمل الصور حينئذٍ على العمق والسطح معاً. المفهوم والإدراك الحسي للمفهوم على التجربة وخلاصة التجربة.(5) «... هناك الكثير مِن النصوص التي يطلقُ عليها أصحابُها اسم الومضة وهي لا تتناسَبُ مع تحديد الومضة واسمها فهي لا تشكلُ بَرقاً خاطفاً ولا تتميزُ بالاختزال وإنّما تكونُ أطول ممّا ينبغي للومضة أن تكون عليه بل هي أقربُ ما تكون للقصيدة القصيرة.» إنّ الومضة والقصيدة القصيرة تشتركان في أنّهما مقطوعتان شعريتان تعتمدان على أقلّ ما يمكن من الملفوظية وفي العاطفة والموقف الشعري ويسعيان إلى التكثيف والاختزال. الومضة الشعرية والقصيدة القصيرة تختلفان في الفكرة والشكل واللغة. أما الفكرة فالفكرة الشعرية مسيطرة على الومضة وتحقق الدهشة والكثافة الشعرية. أما القصيدة القصيرة فتقع تحت هيمنة السرد النثري ويغيب مفهوم الكثافة فيها. شكل الومضة وتوزيع النص وعلامات الترقيم فيها إحدى سماتها الأساسية وهي توحي بمعان وإيحاءات جديدة بيد أنّ القصيدة القصيرة لا يوحي الشكل فيها بمعان جديدة. الفارق الرئيسي بين الومضة والقصيدة القصيرة هو اللغة الموظّفة. «تشكل اللغة لدى شعراء الومضة هاجساً مقلقاً، يسعون من خلاله إلى تآلف بنية التركيب اللغوي، مع مستوى العلاقة الدلالية والإشارات الملفوظية التي تومض داخل النص من خلال النظام الإيقاعي الموسيقي المتجانس، المتداخل في علاقات الكلمات بأفعالها وأسمائها وحروفها ولواصقها ولواحقها في بنية النص الداخلية، باعتبارها ظاهرة تسعى إلى إثارة المتلقي في زاوية التأزّم والانفراج، بقصد الإدهاش... فالمفارقة... فالايماض... فالاهتمام... فالتوقيع»(6).

يقال أيضاً: «الومضة الشعريّة لحظة أو مشهدٌ أو موقفٌ أو إحساس شعريّ خاطف يمّر في المخيلة أو الذّهن يصوغُهُ الشاعرُ بألفاظٍ قليلةٍ جدّاً (الاقتصاد اللغوي) ولكنّها محملّة بدلالاتٍ كثيرة وتكونُ الصياغة مضغوطة إلى حدّ الانفجار.»(7)

فالقصيدةُ الومضية هي التي تتعدّد فيها الأصوات الشعريّة وتحيل إلى بنية جديدة ونسيج وعلامات وإشارات متعدّدة تنطوي ثناياها على علاقات متنوّعة فيها من الإثارة والإدهاش ما يجعلها تثير المتلقّي وتجذبُ انتباهَهُ. يشير داغر شربل إلى ملاحظة رومان جاكوبسون حيثُ يقول: «وجود علامات شعريّة عديدة لا تنتسبُ فقط إلى عالم اللّغة، ولكن إلى مجمل نظريات الدّلالة وبشكل آخر إلى علم الدّلالات العام.»(8)

فالومضة الشعرية هي نوع من الشعر الجديد الذي يعتمد على التكثيف عن طريق تقصيرها على معنى ودقة التعبير وعلى بضع كلمات وجمل ذات إيحاء ودلالية مكثفة قوية. ولا يفيض في الوصف والتشابيه ولا تسهب في مماطلة المضمون والشاعر فيها يهتم باللغة الشعرية إضافة إلى اهتمامه بالفكرة الشعرية. هناك مُصطلحات وأسماء ومصاديق، كأنّها نظائر، الومضة مِن وميض النور وقصيدة الومضة التي انفجرت كومضة لدى شعراء قصيدة النثر مُنذ منتصف السبعينات وحتى نهاية القرن العشرين قريبة مِن (التوقيعة) وهي التي وضَعَها (عزّالدين المناصرة) في منتصفِ الستينات (1964) حيثُ مارسَهُ في قصيدة بعنوان «توقيعات»؛ فمِن توقيعات المناصرة آنذاك: «وصلتُ إلى المنفى في كفي خُفُّ حُنين/ حينَ وصلتُ إلى المنفى الثاني سرقوُا منّي الخُفَّين.»(9)

ويقول غالي شكري عن الومضة: «إحدى ضرباتِ الشعر الحديثِ، الومضة وهي القصيدة القصيرة المركزّة الغنية بالإيماء والرّمز والانسيابِ والتدفُّق»(10)

وقد قيل لها قصيدة النثر وفيها جماليةٌ يمكنُ أن نُطلقَ عليها «قصيدة الخبر» حيثُ تتخذ القصيدة النبأَ، مادّةً لها؛ يضفي عليها شعريتُه الخاصّة، ومنَ المعروف أنّ الخبرَ الإعلامي أبعد ما يكونُ عنِ الشعريّة، بل إنَّ الشّعرَ كثيراً ما يقابل بخطابِ الجرائد والصحف. فالخبر والشعر، يكادان يكونان نقيضين، وجمعهما فنياً يحفز الذهن، لما فيه من تقاطع الأضداد. ومن مثل قصيدة الخبر استخدم الشاعر المصري محمّد صالح، للخبر أو النّبأ، يجعل منهُ أكثر مِن وثيقة، إنّهُ يضفي على الخَبرِ قيمة شعريّة ترفعُهُ مِن مستوى الصّحافة إلى مستوى الأدب. مع أنّ قصائد محمّد صالح تكاد تكون تلغرافية كما في نشرة الأخبار إلا أنّها على عكس الخبر لا تقدّم جوهره في المطلع بل في الخاتمة.(11)

يبدو أنّ مصطلح «الومضة» ثمّ «التوقيعة» أكثر شيوعاً من بقية المصطلحات. عندما أطلقَ (عزّالدين المناصرة) في الستينات مصطلح «التوقيعة» على بعضِ قصائده القصيرة المكثفة المركزة، ذات الختام الحاسم المفتوح، انتبَهَ الناقد المصري «علي عشري زايد» لهذه الظاهرة في شعر المناصرة ونوّهَ بها. لقد انطلقَ الشاعرُ مِن مفهوم التوقيعاتِ في العصرِ العباسي ثمَ أردفها عندما اكتشف نوعينِ مِنَ الشعر الياباني يشبه التوقيعة اسمُها «الهايكو» و«تانكا».(12) (السابق)

سمى المناصرة قصائده القصيرة «توقيعات» لاعتقاده أن ذلك الشكل الشعري، يشبه التوقيع في توخي الإيجاز واكتناز العبارة الموجزة بمعني عميق، يمكن بسطه في رسالة. وقد أشار إحسان عباس إلى ممارسة المناصرة لقصيدة التوقيعة أو الومضة واختلفَ معَهُ حول التسمية. فقد سمّاها إحسان عباس «القصيدة القصيرة» مثلما أطلقَ عليها عزّالدين اسماعيل عام 1967 نفس الاسم. «وهناك فارق جوهري بين النوعين رغم انتمائهما إلى مجال واحد. فالقصيدة القصيرة قد لا تكون مُكثفة مثل التوقيعة وهناك أمثلة شعرية، قدمها عزالدين إسماعيل، وإحسان عباس للقصيدة القصيرة، لا علاقة لها بقصيدة «التوقيعة».(13)

هناك أسماء أخرى لهذا النوع منَ الشعر كالقصيدة المضغوطة، القصيدة الكتلة والمركزة والمكثفة لأنّها في غاية الايجاز وقصيدة الدّفقة كأنّها تتدفّق مِن باطنِ الشاعر دفقةً وتنقشُ على ورقة بالقلم. وقصيدة الفقرة لأنّها لا تتجاوز مِن فقرة واحدة كفقرة نثرية. وقصيدة اللّمحة لأنّها تلمحُ على ذهن الشاعر وقصيدة المفارقة لأنّها تفارقُ القصائد المعتادة. وقصيدة الأسئلة لأنّها في جواب سؤالٍ أو أسئلةٍ أو نفسُها سؤالٌ أو أسئلةٌ. وقصيدة القصّ الشعريّ كأنّها اقتصّت مِن قصيدة طويلة. وقصيدة تأملية لأنّها نتيجُة تأمّل الشاعر في مظاهر الكائناتِ والأنفُس. والقصيدة اللّافتة لأنّها كلافتة رُسمَت بريشة فنّانٍ يقال لهُ شاعر. والقصيدة اللاقطة كأنَّ الشاعرَ يلتقطُها بينَ أفكارٍ مختلفةٍ وظواهر متعدّدة في العالم. وقصيدة الصورة كأنّها صورة مِن صُور الفكر وتصوير مِن تصاوير ظواهر العالم. وقصيدة الفكرة لأنّها نتيجةُ فكرة واحدة في ذهن الشاعر وكتابتها موجرةً لتلك الفكرة. والقصيدة الخاطرة أو الخاطرة الشعريّة لأنّها تخطُرُ ببالِ الشاعر في لحظةٍ واعية أو غير واعية. والقصيدة العنقودية كأنّها قسمٌ مِن قصيدة طويلة. والقصيدة اليومية كأنّها كلامٌ خاصٌّ لكلّ يومٍ. وشذرات شعريّة كأنّها قِطَعٌ كمالية مِن عناصر الشعر. والنصوص الفلاشية والاشراقية الشعريّة لأنّها كأشعّة تسطعُ وتشرقُ من ذهن الشاعر وقطعٌ فنية لأنّها لافتاتٌ يخلُقها الشاعرُ كفنّانٍ بريشة ذوقه على الورق. ويقال الشعر الأجدّ لأنّها شعر ممتازٌ دونَ أي حشوٍ وزوائد مصيباً لغرض الشاعر المنشود. ومهما قيل في تعدّد الأسماء فإنَّ أفضلَ التسميات، هي التي قدّمها المناصرة عام 1964 لأوّل مرّة لأنّه اشتقّها من مفهوم التوقيعات النثرية العباسية أو مِنَ الومضات التي تعتمدُ على صفاء الصورة. لا داعي هنا للبحث عن أفضل تسمية لها وكلٌ على فهمه للومضة يسميها باسم خاص.

إشكالية الومضة أنها تخلو من (المفارقة الشعرية)،بينما تشترط التوقيعة، هذه المفارقة الضرورية كما يقول الشاعر المناصرة.

تاريخ نشأة التوقيعة - الومضة:

النصوصُ الشعريّة التي عُرفت باسم الومضات راجت في السبعينات وباتت تستقلُّ بنفسها حتي أصبحت شكلاً شعرياً خاصّاً إلى جانبِ الأشكال الشعريّة المعروفة، نجد حولها مواقف متباينة تجعلُ قضيتَها غير محسومة حتى اليوم. ومنها يقال: «ليست قضيةُ الومضة غائبةً عن الشعر القديم وذهبَ مُعظمُ النّقاد القدماء إلى اكتفاء البيت بذاته، بل حكمُوا على جودة شعر الشاعر مِن خلاله، فقالوُا عن فلانٍ: إنّهُ أشعر العربِ لأنّهُ قائلُ هذا البيت، لَما حكمُوا على الجنس الشعريّ مِن خلاله، فقالوُا: هذا أمدحُ بيتٍ وهذا أهجى بيتٍ وهذا أغزل بيتٍ...»(14).
وبالفعل نري في (دواوينِ بشّار بن برد وأبي العتاهية والمعرّي) مقطّعات بينَ البيت وخمسة أبيات، وهذا كثيرٌ أيضاً في دواوين بعض الشعراء العرب في العصر الحديث ومنهُم محمود سامي البارودي والرباعيات في شعر عمر الخيام التي ترجمت إلى اللّغة العربية غير مرّة شعراً ونثراً. يمكننا القول إنّ قصيدة الومضة هي إحياء أو إعادة صياغة لما نعرفُهُ في الشعر العربي القديم مِن المقطّعات، ذلك الشكل من الصياغة الشعريّة الذي عرفتهُ العربُ منذ نشأة الشعر عندهم. ويرفض قويدر العبادي نظرية مَن يظنّ أنّ هذا النوع من الشعر مجرّد ردّ فعل على متغيرات سياسية أو اجتماعية و... حيثُ يقول: «لم يأتِ الشعر الحُرّ وشعرُ التفعيلة كما يسمّى أحياناً مِن فراغ، لم يكن مجرّد ردّ فعل على متغيرات سياسية واجتماعية وثقافية وفكرية شهدتها حقبة الأربعِينات مِن القرن العشرين، ولم يكن أيضاً تعبيراً عَن تأثُّر بالشعر الأوروبي الحديث كما يعتقدُ الكثيرون ممّن يعانونَ عقدةَ الدونية إزاءَ كلّ ما هو أعجمي، معَ أنّنا لا ننكرُ استفادة الشعر الحُرّ مِن بعضِ الجوانب الشكلية والفنية والتقنية الأوروبية لكنّنا لا نصلُ إلى حدّ التسليم بأنّ شعرنا تقليد للآخر، وأنّ ثقافتنا العربية العريضة وأدبنا وشعرنا العربي العريق عاجز عنِ التطوّر»(15)

وممّا يؤيدُ هذا الرأي النظر إلى التراث الأدبي العريق الذي يطمئننا إلى مرونة الشعر العربي القديم حركته وقدرته على التغيير حتى في الشكل ولعلّ في المقطّعات والرّباعيات والموشحات والقوما والكان كان والدوبيت وغير ذلك مِن الأشكال الشعريّة العربية القديمة ما يؤكدُ قدرة الشعر العربي على الحركة. وإنّ الفتح الجديد في العصر العباسّي المتمثّل في المزدوجات مهّدَ أرضية لظهور أنماط جديدة من الصياغة الشعريّة تعدّدت مسمياتها كالمثلثات والمربّعات والمخمّسات والمسمّطات وأخيراً الموشّحات. وإذا شئنا أن نبحثَ عَن جذور هذه الظاهرة في الذّاكرة العربية فإنّنا سنقف في مواجهة نظائر لها في الأبيات المفردة التي تنهضُ برأسها وتؤصّل معنى تامّاً وفكرة متعدّدة وهو ما ينضوي تحتَ الاستعارة التمثيلية في العُرفِ البلاغيّ. بجانب هذا الموقف، موقف آخر يعتقد أن شعر الومضة تأثر بمؤثرات أجنبية معاصرة؛ منها الشعر الانجليزي القصير والقصة القصيرة وقصيدة «الهايكو» اليابانية التي اهتمّ بها الدكتور شاكر مطلق ترجمةً وتنظيراً وتطبيقاً فنسَج على منوالها وغير ذلك.(16)

الوَمضات والمقطّعات

سِماتُ المقطّعاتِ تتطابقُ معَ سِماتِ قصيدة الومضة إلى حدٍّما؛ إذ كانَ كلٌّ منهما يقومُ على وحدة الموضوع (الايماضية المعنوية) وكذلك قصر النصّ واختزال مفرداته وتكثيف دلالاتها. وإذ كانت الوحدة الموضوعية والايجاز وقصر النصّ وصغر الحجم هي سمات عليا تميز قصيدة الومضة فإنّها – غالباً – هي السّمات ذاتها التي تميز المقطعات وهو الأمر الذي ساقنا بالقول بتشابه هذين إلى حدّ كبير. بما أنّ عدداً كبيراً جدّاً مِنَ المقطّعات التي أطلَقَ عليها بعضُ النّقاد المعاصرين مُصطلح « القصيدة القصيرة» يتألّفُ مِن بيتٍ أو بيتينِ أو ثلاثة أبيات أو ستة أبيات وهي شبيهة في صياغتها مضموناً وشكلاً بصياغة البيت مِن حيث اكتمالها فإنّ الأدباء يرون أن يطلقُوا على هذا الجنس مصطلح «الومضة الشعريّة» وهو مصطلحٌ أقربُ مِنَ المقطّعة أو الرباعية أو المنمنمة أو القصيدة البرقية أو سوي ذلك. على سبيل المثال يقول القصيبي: تصرّ متِ السنونُ ولا سبيلٌ إليك وأنت واضحة السّبيل(17).

يمكننا أن نقرأ البيت في قالب جديد: (تصرّمتِ السنون وهل سبيلٌ إليك وأنت واضحةُ السبيلِ)
عوامل نشأتها:

الومضة الشعرية وسيلة من وسائل التجديد الشعري، أو شكل من أشكال الحداثة التي تحاول مجاراة العصر الحديث، ومسايرة مع التطورات الأدبية المعاصرة، مناسبة في شكلها مع مبدأ الاقتصاد الذي يحكم حياة العصر المعاصر.

أ: تحولات فنية وفكرية معاصرة: عرفَت حركة الشعر الجديد انعطافاً تاريخياً جديداً وشَهِدت تحوّلات فنية وفكرية تتوافقُ والتحوّلَ الفكري الحضاري للعالم المعاصر، قامَ بها عددٌ من الشعراء الجُدُد وعدد مّمن قادوُا الحركة الشعريّة. وساعدت الظروف السياسية التي تمرّ بها البلدان العربية؛ حيثُ الإرهابُ الفكري وانعدام الحرية على اللّجوء إلى الرّمز والومضات النّاقذة السريعة الخاطفة. « يعبّر الشعراء العرب بواسطة الومضة الشعريّة عَن تذمّرهم مِن أوضاع بلادهم وعن أملهم في بعث جديد ينتشلها مِن الموتِ».(18)

لا يمكن أن يكون سبب قصيدة الومضة الميل إلى الراحة أو الإفلاس، لكن الضّغط النفسي الرهيب الذي يعيشُهُ الفنّانُ والمثقّف والانسانُ العربي هو السبب الأساس، فربّما كانت هذه الدبابيس والقنابل القصيرة المتفجّرة وسيلة جديدة توصل إليه الرّسالة وتهزّ فيه مناطق الاستنقاع وأصقاع البرودة والترّهل والتيه.(19)

كأنّنا حين ذكرنا (الومضة أو التوقيعة) لا يمكننا أن نكون بمنأى عن متطلّبات الحياة الجديدة وكأنّ الومضة الشعريّة ظهرت كتعبيرٍ عن روح العصرِ الذي صار كلّ شيء فيه يمرّ مُسرعاً مُستعجلاً وكأنّهُ ومضة خاطفة لا تدومُ طويلاً ولكن أثرها يبقي مشعاً؛ لأنّها تعبّر عن رؤى الشاعر وعالمه مهما تعقّدت تلك الرؤى ومهما تعدّدت وتلوّنَت. «ومع تطوّر الحياة وتعقّدها انطلقَ الشعراءُ في رحلة البحث، مرّة أخرى في محاولة للتجديد الشعريّ؛ هذا التجديد الذي لم يأتِ تلبيةً لمجرد الرّغبة في التجديد بل لأنّ الحياة الجديدة التي تكرّس مبدأ الاقتصاد في كلّ شيءٍ تطلُب شعراً جديداً... شعراً مختلفاً...»(20)

ونقرأ في مقالة «التجريب الفني في النص الشعري الجزائري المعاصر- الممكن والمستحيل» التي تشيرُ إلى ظروف الحياة الجديدة: «والقصيدة الومضة أو اللّمحة أو التلكس الشعريّ في القصيدة المبالغة في القصر، حتى لتكون الجملة الواحدة قصيدة وهذا النوع فرضته الحياة الجديدة المتّسمة بالسرعة والتكثيف اللغوي والاقتصاد في التعبير لتوصيل الرّسالة الشعريّة بأقلّ عددٍ ممكنٍ مِن الكلماتِ.» فقصيدة الومضة تجربة تستجيب لحال مجتمع مشغول بهمومه الكثار، وكأنّ الشاعر وجد ضآلته في قصيدة الومضة التي من شأنها ألا تأخذ من وقته ووقت القارئ سوى أقل القليل.

ب: المؤثرات الأجنبية: استطاع الأدب العربي أن يتواصل مع الآداب الغربية والشرقية على مرّ العصور مؤثراً أحيانا ومتأثراً غالباً رغم اختلاف المرجعيات الفكرية والاجتماعية والسياسية لكلا الأدبين. تأثر شعراء الومضة الشعرية بمؤثرات في الأدب الأوروبي شعره ونثره، ففي شعره تأثروا (بالمقطعات الشعرية الانكليزية القصيرة جداً) خاصة باستخدامات إليوت الشعرية وفي نثره تأثروا بـ«حركة الأدني «Minmalism» التي برزت في الولايات المتحدة، ونادت «بكتابة مختصرة لحياة مختصرة» ورأت أن القصة القصيرة أو الأقصوصة هي خير تطبيق لهذا المبدأ وهي الأكثر ملاءمة لروح هذا العصر الذي يوصف بعصر السرعة، فإن الومضة الشعريّة بالمقابل هي وليدة هذا العصر، وإنّ ما يقال عن القصة القصيرة يقال عن الومضة تقريباً، وكأنّها توأمان تخلّقتا في رحم واحد ولدتا في وقت متقارب، وتجمعهما خصائص مشتركة وملامح متقاربة و... وكثيراً ما تقراً نصاً وتقول عنه قصة قصيرة جداً، وفي الوقت نفسه بإمكانك أن تقول عنه إنه ومضة شعرية.»(21) (حجو، 2002)

يرى بعض الباحثين أن قصيدة الومضة متأثرة بنمط من الشعر الياباني المعروف بـ«الهايكو» الذي يقوم على التركيز والتكثيف والاقتصاد اللغوي. «تمثل قصيدة الهايكو بضربٍ من الشعر المقتضب الدقيق الذي ينظمه الشعراء اليابانيون منذ القديم، وتتألف قصيدة الهايكو من سبع قطع موزعة (5-7-5) تنطوي على فصل من فصول السنة لتستحضر الطقس والنبات والطيور والحشرات»(22). فقصيدة «الهايكو» عبارة عن مقطعة شعرية قصيرة، تتكون من ثلاث أبيات، أولها وآخرها من خمسة مقاطع، ووسطها من سبعة، إن هذا لا يعني التزام مقلدي هذه الكتابة عندنا حرفياً بهده الشروط، ولكنهم ربما اهتموا بغنائية الموضوع، أكثر من احتفالهم بمعيارية الشكل، بسبب أن إيقاعية شعرنا ذاتية، لا إنشادية، قائمة على المقطعية(23).
 يعمل الشاعر عزّالدين المناصرة في فتوحاته (1964) على مشابهة بعضِ الأنماط الشعريّة في الحِداثة الغربية، وإعادة تمثّلها عربياً ومِن ثمَّ إعادة انتاجها شعراً، كما هو الحال في قصيدته «هايكو» المبنية على نظام قصيدة «هايكو» اليابانية التي تعتمدُ على الأبيات الثلاثة وكذلك قصيدة «تانكا» المبنية على نظام قصيدة «تانكا» اليابانية والتي تعتمدُ على نظام الأبيات الخمسة. وتقدّم نموذجاً لتوظيف ثقافات الشعوب الأخرى وتقاليدها في كتابة القصيدة:
أ: هايكو: يا بابُ ديرنا السميك / الهاربونَ خلفَ صخرك السّميك/ افتح لنا ناقدةً في الروح.
ب: تانكا: أجابَ شيخٌ يحملُ الفانوسَ في يديه/ يوزّعُ الشمعات/ على أطراف روحنا البوار/ وحينَ سلّمنا عليه /بكى... واصفرّ لونُه... ومات(24) (المناصرة، (لا. ت)، ص 104)

حاول بعض الشعراء محاكاة «الهايكو» الياباني، ولكن هناك معوقات حالت دون نجاحهم في محاكاتهم هذا النمط من الأدب العالمي:

1- إن المترجمين العرب الذين نقلوا بعض نماذج الهايكو إلى اللغة العربية لم يدركوا شروط الهايكو في لغتها، مثل رفضها الاستعارة والتشبيه وتحريها الموضوعية وبعدها عن تصوير المشاعر الذاتية.

2- إن المترجمين العرب نقلوا النصوص المتعلقة بالهايكو، وحتى ما يتصل بالدراسات النقدية، عن اللغات الأخرى، وخصوصاً الانجليزية، ثم إن معظم المترجمين كانوا باحثين وليسوا شعراء، هؤلاء أهملوا التركيب الايقاعي في ترجماتهم، إضافة إلى ذلك أدخلوا تفسيرات غريبة على ما نقلوه من نماذج الهايكو.

3- نقل المترجمون الهايكو إلى اللغة العربية دون معرفة بسياق هذا الفن الثقافي والفكري، برويته الجمالية فلسفته القائمة على وحدة الكون.(25)

إنّ الومضة الشعرية وإن تأثرت بمؤثرات في الأدب الأجنبية ولكن ليست نسخة من الشعر الياباني أو الإنجليزي بل هي إحياء أو إعادة صياغة لما نعرفه في الشعر العربي القديم من المقطعات وامتزجت فيها الخصائص التراثية والعالمية.

روّادها

ظهرت حركة «الشعر المنثور» على يد أمين الريحاني، سنة (1910م) و«النثر الشعري» على يد جبران خليل جبران ابتداءً من كتابه «دمعة وابتسامة» سنة 1914 واستمرت في كتابات آخرين من امثال مصطفي صادق الرافعي، أورخان ميسر، حسين مردان، وغيرهم. حتى ظهرت قصيدة النثر عام 1954، متأثرة بالآداب الأجنبية والموروث الشعري. شهدت قصيدة النثر تحولات فنية وفكرية، تتوافق والتحول الفكري والحضاري للعالم المعاصر، حيث مال كتاب قصيدة النثر إلى اللجوء إلى التوقيعات والومضات الشعريّة الخاطفة التي كانت نصاً مكثفاً يميل إلى الإدهاش والمفارقة. «كان للمناصرة، قصب السبق في التأسيس لهذا النمط من القصيدة «المفرقعة»، «القنبلة الموقوتة» كما أثّر بوقائعه الغريبة وتوقيعاته في جيل كامل من الشعراء مشرقاً مغرباً: أحمد مطر ومظفر النواب من العراق، سيف الرحبي من عُمّان ومحمد لافي من فلسطين وعبدالله راجع ومحمد بن طلحة من الغرب مثلما سبق له، أن أثّر في قصيدته الطويلة (مذكرات البحرالميت 1969) في (قصيدة صور) لعباس بيضون عام 1974. ومنذ أوائل الثمانيات استطاع المناصرة أن يجذب زميله محمود درويش إلى حقله الكنعاني الخاصّ، فقد انتقل إليه درويش في التسعينات.»(26)

بدأ (عزالدين المناصرة) في منتصف الستينات 1964، كتابة هذا النوع الجديد من القصيدة القصيرة، مستفيداً من نمط الشعر الياباني «الهايكو» ومزج بين بناء الموروث (التوقيعات النثرية العباسية) ولغة الحياة اليومية الهامشية وشعرية التفاصيل. «يشكل عزالدين المناصرة إلى جانب نزار قباني، مظفر النّواب، أمل دنقل وأدونيس، شعراء الرفض الوجودي، بعد هزيمة 1967، والهزائم التي توالت على العرب، وأغلبهم يملكون تجربة عميقة وتمرساً وفهماً للحداثة؛ سواءً في التشكيل الموسيقي أو التصوير كما استطاعوا في محاولتهم التوفيق في إيجاد معادل موضوعي شعري عبر عنصر المفارقة والسخرية الحادة»(27)

ملخص القول إن المناصرة هو أول من استخدم مصطلح التوقيعة (1964م) منذ النصف الثاني من الستينات، ونجد نزار قباني يستخدم عام 1967 أي منذ قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» مصطلح (البرقية- التلكس) وهو مفهوم قريب من مصطلح المناصرة. الشعراء الذين اهتموا بالومضة الشعرية في دواوينهم زادوا في التسعينات وما بعدها ومن أشهرهم، سامي مهدي، يوسف الصائغ، شوقي بغدادي وغيرهم من الشعراء. يقول المناصرة: (قصيدة التوقيعة ومضة تحكمها المفارقة / بينما قصيدة الومضة ليست توقيعة لأنها تخلو من (المفارقة) فكل توقيعة هي ومضة وليست كل ومضة توقيعة)

سماتها

تتميز القصيدة الحديثة بمجموعة من السمات والخصائص العامة التي اكتسبت من الطبيعة الشعرية الحديثة ومن طبيعة التكنيكات المستخدمة في بنائها، ولعل من المفيد في تحديد سمات «الومضة الشعريّة» أن نتعرف على هذه السمات قبل ان نعرض بالتفصيل لسمات الومضة الشعريّة، من أبرز هذه السمات هي:

أ: التفرد والخصوصية؛ أي لا يمكن تصنيف القصيدة الحديثة تحت أي غرض من الأغراض الشعرية العامة التي انحصر فيها التراث الشعري القديم من مدح وفخر وهجاء ورثاء ووصف وغزل و... إن الشاعر الحديث يهدف إلى أن تكون قصيدته إبداعاً بكراً ومن ثم فهو شديد الحرص على أن ينظر إلى الوجود من زاوية لم يسبق لأحدٍ قبله أن ينظر إليه منها، وأن يعالج هذه الرؤية الخاصة بطريقة فنية متفردة.(28) من هنا تكتسب القصيدة الحديثة خصوصيتها وتفردها، ولا تكون مجرد تكرار لما سبق قوله مئات المرات بطريقة أخرى.

ب: التركيب؛ لتنوع الأداوت الفنية التي يستخدمها الشاعر وطريقة استخدامه لها، ولميل القصيدة الحديثة إلى أن تكون كياناً متفرداً خاصاً، أصبح بناء هذه القصيدة على قدر من التركيب والتعقيد يقتضي من قارئها نوعاً من الثقافة الأدبية والفنية الواسعة(29).

ج: الوحدة؛ على الرغم من أن القصيدة الحديثة تتركب من مجموعة من العناصر والمكونات المتنوعة، والمتنافرة في بعض الأحيان، فإن ثمة وحدة عميقة تؤلف بين هذه العناصر، وتنحصر فيها هذه المكونات المتناثرة المتنافرة لتصبح كياناً واحداً متجانساً، لا تفكك فيه ولاتنافر.
د: الإيحاء وعدم المباشرة؛ من السمات البارزة في القصيدة الحديثة أنها لا تعبر تعبيراً مباشراً عن مضمون محدد واضح، وإنما تقدم مضمونها الشعري بطريقة إيحائية توحي بالمشاعر والأحاسيس والأفكار ولا تحددها أو تسميها، ونتيجة هذا، فإنّ القصيدة الحديثة لا تحمل معنى واحداً متفقاً عليه، ومن الخطأ أن نتطلب من كل قصيدة أن يكون لها معنى واقعي وحيد، لأن الشاعر لو كانت لديه فكرة محددة واضحة المعالم يريد إيصالها إلى القاريء لما لجأ إلى الشعر أسلوباً لنقلها، ولآثر عليه النثر الذي هو أكثر قدرة على تحديد المعاني والأفكار وتوضيحها.(30)
(الإيحاء)الذي يهدف إليه بناء القصيدة الحديثة يتطلب من الشاعر ألا يصرح بكل شيءٍ لأنّه يلجأ إلى إسقاط بعض عناصر البناء اللغوي مما يثري الايحاء ويقويه من ناحية وينشط خيال المتلقي من ناحية أخرى لتأويل هذه الجوانب المضمرة. أما فيما يتعلق بالبنية المتميزة لقصيدة النثر والومضة الشعريّة وليدة ظهورها «فلا بد أن نلاحظ اعتمادها على الجمع بين الإجراءات المتناقضة؛ أي أنها تعتمد على فكرة التضاد، وتقوم على قانون التعويض الشعري، إذ إنّها تتألف من ثلاثة عوامل متزامنة تنصبّ كلّها في بؤرة واحدة لإحداث فعاليتها الجمالية، وهي بالترتيب:

أ – تعطيل الأوزان العروضية المتداولة.

ب- تفعيل أقصي الطاقات الشعرية الممكنة.

ج- إبراز الاختلاف الدلالي الحادّ.»(31).

لكي يحقق الشاعر المعاصر لقصيدته سمة الإيحاء فإنه يلجأ إلى استخدام مجموعة من الأدوات والتكنيكات الفنية بعضها مستمد من التقاليد الموروثة للشعر منذ أقدم عصوره، كاللغة الشعريّة، والصورة الشعرية، والموسيقي الشعريّة، المتمثلة في الوزن والقافية وبعضها الآخر من التقاليد الشعريّة الحديثة؛ كالرمز، والمفارقة التصويرية، وغير ذلك من الأدوات الفنية التي ابتكرها الشاعر الحديث، وبعضها الثالث استعاره الشاعر من الفنون الأدبية الأخرى، تراثية كانت، أو حديثة، حيث استمدّ من الفنون الأدبية العربية التراثية بعض قوالبها الفنية كقالب المقامة، والتوقيع مثلاً، كما استمد من الرواية الحديثة والمسرحية الحديثة بعض تكنيكاتها أيضاً؛ فقد استعار من الرواية الحديثة أسلوب الارتداد (الفلاش – باك)، والمونولوج الداخلي، وغير ذلك من تكنيكات الرواية الحديثة، كما استعار من المسرحية أخص تكنيكاتها بها مثل تعدد الأصوات، والحوار، والصراع، بل إن بعض القصائد الحديثة استعارت القالب المسرحي بكل مكوناته وعناصره.(32)

يبدو أنّ الومضة الشعرية لم تصبح حتى الآن في الشعر العربي المعاصر، نوعاً أدبياً مستقلاً قد استقرّت أعرافه وتأصّلت تقاليده، بالرغم من اندفاع شعراء المبدعين اليوم نحوها، ولكن لها مكان متميزٌ باعتبارها أحد التنويعات البارزة في الحداثة الشعريّة؛ بما أنّ الومضة الشعريّة تحاول إلغاء الشكل القديم للقصيدة العروضية، لابد أن تتسم بسمات وأشكال جديدة. فما هي سمات هذا الشكل وخواصه الجمالية؟

الوحدة العضوية

اتسمت قصيدة الومضة بالصفات العامة للقصيدة الحديثة، لقد تأثرت قصيدة الومضة بالوحدة العضوية الموجودة في القصيدة الحديثة، بحيث لم يعد نادراً أن نجد القصيدة تجمع بين أشياء بينها من التباعد والتنافر الظاهريين أكثر مما بينها من الترابط، ومبالغة في هذا الاتجاه فإننا كثيراً ما نجد شاعر الومضة يسقط أدوات الربط اللغوي بين أجزاء القصيدة، حتى لتبدو القصيدة في بعض الأحيان أشبه ما تكون بمجموعة من العبارات والجمل المفككة المستقلة الواقعة بذاتها في الفراغ، ولكن يكون هناك رباط وثيق خفي يضم شتات هذه الأجزاء المتنافرة في كيان واحد شديد التمسّك. فالوحدة العضوية هي شرط أساسي في بناء الومضة الشعريّة، «فهي وحدة متكاملة متداخلة في الفعل الشعري والاستدلالي، وبالتالي الانفعالي الشعوري وليس لها أي ارتباط عضوي مسبق بأي شكل من أشكال القصيدة التي لا تحقق مثل هذه الوحدة العضوية المتكاملة».(33) ينبغي أن تكون للومضة الشعريّة وحدة عضوية مستقلة لأنها تقدم عالماً مكتملاً يتمثل في تنسيق جمالي متميز يختلف عن الأشكال الفنية الأخرى من قصة قصيرة، أو مقالة أو رواية.

بناء الومضة

اللافت للنظر في شكل جميع الومضات الشعريّة أنها تكتب تارة على شكل قصيدة التفعلة، وتارة على شكل قصيدة النثر وأن منها ما يجمع بين التفعله وقصيدة النثر. توقف خليل الموسى في مقالته بعنوان «الأبنية الفنية في تجربة الحداثة الشعريّة في سورية»، عند أشكال الومضة الشعريّة وهيكليتها، في أعمال الشاعرين، وهما نزار قباني وأدونيس، وذهب إلى أن أشكال الومضة الشعريّة التي استخدمها الشاعران خمسة هي:

1- الومضة ذات البنية المركزة التعريفية؛ التي تعدّ بمنزلة العنوان من المجموعة فهي تقول كل شيء عن المجموعة أو هي تختصرها بعدد قليل من الأبيات. نحو قول نزار قباني في مجموعته «قالت لي السمراء»: قَلبي كمنفَضة الرمادِ... أنا أن تنبشي ما فيه تحترقي شعري أنا قلبي... ويظلمُني من لا يري قلبي على الورق(34)

2- الومضة ذات البنية المركزة التقابلية؛ وهي صورة مقابل صورة ضدية أو حاله مقابل حالة مختلفة، نحو قول نزار قباني في قصيدته «هوامش على دفتر النكسة»: جلودنا ميتة الإحساس أرواحنا تشكو من الإفلاس أيامُنا تدور بين الزّار والشطرنج والنعاس هل «نحن خير أمة أخرجت للناس»(35)

3-ومضة البيت المفرد ذات البنية المغلقة؛ تعتمد هذه الومضة على البيت الواحد هذا النوع يؤكد على وحدة البيت الذي كانت سائدة في الاحكام النقدية عند القدماء. نحو: بالناي والمزمار... لا تحدث انتصار(36) الومضة في هذا النوع تقوم أولاً وأخيراً على الفكرة فهي بنت الفكرة أكثر مما هي بنت الاحساس، وهي بنت العمل الجاد المضني أكثر مما هي بنت العفوية والاحساس: يوجعني أن أسمع الأنباء في الصباح يوجعني أن أسمع النباح(37)
4- الومضة ذات البنية المفتوحة؛ وهي ومضة تننهي نهاية مفتوحة على التأويل، أو هي مفتوحة على نصوص سابقة أو معاصرة «تناص»: وما كنت أعلمُ ... حين شَطبتُك من دفتر الذكريات بأنّني سأشطُبُ نصفَ حياتي(38)

5- الومضة ذات البنية الحلزونية؛ وهي مجموعة دفقات أو موجات تنطلق من نقطة واحدة، حتي تكتمل دورة القصيدة، ويشبه عزالدين اسماعيل هذه البنية بالسلك الحلزوني الذي يبدو في النظرة الأفقية إليه مجموعة من الحلقات المستقلة، ولكنها في الحقيقة مترابطة يربط بينها الموقف الشعوري الأول، وهي مجموعة من الدوائر التي تنتهي عند نهاية واحدة(39) (1972 /261) من أمثلة هذه البنية لنزار: في البدء كان الشّعرُ والنثرُ هو استثناء في البدء كان البحرُ والبرُّ هو استثناء في البدء كنتِ أنتِ... ثم كانتِ النساءُ(40)

علامات الترقيم

تأثرت القصيدة العربية الحديثة بالمدرسة الرمزية في تحرر لغتها الشعرية من الروابط والصلات المنطقية التي تربط الجمل والألفاظ بعضها إلى بعض، حتى إن بعض قصائدها كانت تتألف من مجموعة من الجمل المتجاورة بدون ترابط، لقد تأثرت الومضة الشعرية بمثل هذا الاتجاه فشاع في الكثير من نماذجها توالي الجمل بدون أدوات ربط لغوي تصل ما بينها. «إن علامات الترقيم والفصل، تمثل عنصراً هاماً في النظام الطباعي للقصيدة الحديثة، تتحول من مجرد محدد لعلاقات المفردات في الجملة إلى محدد للعلاقات بين أجزاء النص ككل»(41)

إلا أن هذا المحدد الذي يوجب نمطاً معيناً من العلاقات بين المقاطع لا يتداخل تداخلاً جوهرياً في باطنية التجربة الشعريّة في القصيدة، إذا تظل القصيدة المقطعية، خاضعة لخصوصية تجربتها المفردة التي ينظر إليها بعض النقاد، بوصفها ظاهرة شعرية موجودة بشكل فعلي ميداني في النسق النصي اللغوي، بحيث يصعب فصل عناصرها.(42)

شاعر الومضة تارة يمتنع عن وضع إشارات الترقيم اللازمة للتحديد البنائي والمنطقي ونحو قول نبيلة الخطيب: كم هو عارٌ من يخلَع جلدَه ليرقّعَ ثوبه(43) أو: حين رأيت الندي على الأزهار أدركتُ سرَّ غيابك كلَّ صباح(44)

وتارة يستعين بأشكال عدة للتنقيط والفصل من أجل تمزيق وحدة الجمله وتقطيعها في أجزاء مبعثرة كذاته، وهذا نموذج من شعر أدونيس، يقول: لا، لا. أحبّ، أن أثِقا وبسطتُ أجنحتي، ومنحتها الأفقا فتناثرت مِزَقا...(45) أو: (أنت أمير!!! أنا أمير! فمن ترى يقود هذا الفيلق الكبير)!!(46)

شكل الكتابة وتوزيع النص

إلى جانب تقنيات التنقيط والترقيم يلعب شكل الكتابة وتوزيع النص، نصاً أو كل على حدة، دوراً فعالاً في تفكيك الجملة، وإعادة تقييم مكوناتها، نحو قول نزيه أبي عفش الذي لم يجعل عنواناً وأنما بدأت بمجموعة من النقط: هذه الجثة هي أنا متربصاً خلف قناع موت أما أنت... فلا تكثرت ربما: القناع وجهك.(47)

أبو عفش في ومضته السابقة عمد إلى تقطيع العبارة إلى أجزاء موزعة بشكل غير منتظم على أسطر متعددة، تاركاً مِن كل سطر وآخر مسافة من البياض العازل. تعرف قصيدة الومضة بأنّها «مجموعة من المشاهد المنفصل بعضها عن بعض كل الانفصال، يكاد كلّ مشهد فيها أن يقوم بذاته، ولكننا ما نلبث أن ندرك إدراكاً مبهماً أنّ شيئاً ما يصادفنا في كل مشهد، كأنّه يتخذ في كل مرة قناعاً جديداً حتى إذا ما انتهت القصيدة أدركنا أن هذه المشاهد لم تكن أقنعة بل مظاهر مختلفة لحقيقة واحدة»(48) وبذلك يقوم بناء القصيدة على مجموعة من المقطعات ولكل مقطعة عنوان مستقل، وتتخذ في بعض الأحيان أرقاماً أيضاً.

قافية الومضة

رتكز قصيدة الومضة على تعطيل المُعامل الاساسي في التعبير الشعري، وهو الاوزان العروضية والقافية، دون أن تشلّ بقية امكانات التعبير في أبنيتها التخيلية والرمزية، فقصيدة الومضة تجعل القاريء قادراً على إغفال الوزن والقافية والتحرر منهما مع إبقائه على الإيقاع الداخلي فهي التي تبرهن على أن الايقاع لا يقتصر على الشكل العروضي الجاهز بل يتداخل في نسج اللغة الشعريّة بمستوياتها المختلفة. أما قافية الومضة، فيسعي شاعر الومضة إلى تحريرها من القافية التقليدية وهو يميل إلى أشكال ثلاثة وفقاً لشكل القافية:

1- قصيدة تبني على سطور تتبع قوافي محددة كقول نزار قباني: السرُّ في مأساتنا صراخنا أضخم من أصواتنا وسيفنا أطول من قامتنا(49)

2- قصيدة تبني على سطور تتبع القوافي المتداخلة، كما في قول أدونيس: قال الغد الحائرْ: «إن طفر اللحنُ من شفتيْ طائرْ لا يطربُ الغصنُ».(50)

3- قصيدة تبني على سطور تتبع القوافي المتعانقة، كقول شاكر مطلق في ومضته التي حملت عنوان «محطة»: تحت ضوء القمر الفضي ظل الزيزفون يتلاشي في العيون ومياه النهر تمضي في سكون(51)

بعد دراسة قافية الومضة في ديوان أشهر شعراء الومضة من أمثال سعدي يوسف، أدونيس، عزالدين المناصرة، ونزار قباني، و... تبين أنّ القافية ليست واحدة عند شعرائها ولا عند شاعر واحد، ولذلك يتعذر أن تنحصر في تقسيم محدد لا تتجاوزه، لأنّ قصيدة الومضة لا تلتزم بالقافية والأوزان بل الفكرة الشعرية هي الغالبة فيها.

لغة الومضة

إن نتأمل في الجذر اللغوي لكلمة «القصيدة» مضافة إلى «الومضة» فسوف نجده يشير إلى فكرتين متلازمين: إحداهما هي القصد والتعمد أي أنّ القصيدة هي «الكلام المقصود في ذاته» أي هي لغة فنية وليست مجرد وسيلة للتواصل، أما المعني الثاني فهو «الاقتصاد اللغوي» أي أن اللغة التي تنظم في قصيدة الومضة لا بد لها أن تتسم بالقصد والتركيز والتكثيف، لأنَّ الومضة من سماتها لغوياً السرعة واللمعان فهي تتسم بالاقتصاد وهذا الاقتصاد جوهري في قصيدة الومضة لأنه مظهر الشعريّة فيها، فهي عندما تحذف فيها حروف العطف أو الوصل مثلاً تتحقق اقتصادها الخاص الذي لا بدَّ أن يختلف عن بقية أنواع الشعر. اللغة هي المادة الأولى الّتي يشكل منها وبها البناء الشعري أي انها الأداة الأمّ التي تخرج كل الأدوات الشعريّة الاخرى من تحت عباءتها. الومضة الشعريّة هي شكل من أشكال الحداثة التي تتناسب مع مقتضيات العصر الحديث ومتطلباته، ولهذا لغتها خالية من الكلمات الميتة أو الوعرة، وهي تعبّر عن المألوف بكلمات مألوفة مستقاة من واقع الحياة المعيشية، وهي خالية من الكلمات الرنانة الفخمة التي يراد منها إثارة الاحتدام العاطفي رغبة في التحرر من القيود الخارجية. نلاحظ في قصيدة الومضة وجوداً مميزاً للمفردات الدارجة أو الواقعية على أساس مبدأ ينطلق من أن لغة الناس يجب أن تكون لغة الشاعر. وليس المقصود بلغة الناس تلك اللغة المتداولة في الحياة اليومية؛ إنما المقصود استخدام تلك اللغة التي تعمل على استبدال التعابير والمفردات القديمة بتعابير ومفردات جديدة مستمدة من صميم التجربة... من حياة الشعب. «ولا بد من الإشارة إلى أن قصيدة الومضة لا تستخدم اللغة بمعناها القاموسي التعييني، إنها كتابة تري في اللغة شفافيتها وتواصليتها القائمة على تأويلاتها، لذا فهي تعبير شكلي تغلب عليه المعاناة والتمرد والرفض، تستمد منابعها من قوة اليأس والحاجة إلى التعبير الذاتي باللغة الذاتية. وصارت وظيفة اللغة أن تساير تجربة الشاعر بكل ما فيها من الغني والتواتر والتناقض والحساسية» (52)

المفاجأة

إنّ الومضه الشعرية عالم خيالي مركب على نحو خاص، يهدف إلى تحقيق ذات الشاعر في تكوين موضوعي قائم بذاته وبهذا تكون الومضة تغييراً في نظام التعبير عن الأشياء، يقول أدونيس:( بَكَتِ المئذنة حين جاء الغريب – اشتراها وبنى فوقها مدخنة) إيحاء المئذنة في تجربة القارئ بعيد عن البكاء، قد يكون السكينة، الأمن، السلام، الجلال، السلام، الخشوع لله، لكنه ليس البكاء!! ثم يأتي الغريب ليشتري ما لا يباع ويبني فوقها ما يناقض رموزها جميعاً.
النتائج:

1- الومضة إحدى ضربات الشعر الحديث وهي القصيدة القصيرة المركّزة الغنية بالإيماء والرمز والإنسياب والتدفّق. وهي عبارة عن دفقة شعورية سريعة تتناسب مع تسارع الأشياء المذهل في هذه الحقبة الزمنية التي تحاصرنا حالياً؛ إنّها إشبه ببرقية شعرية صار لها أنصار وأعلام، وتتميز بالكثافة والتركيز حيث إنّ الشاعر يقول بوساطتها أشياء كثيرة، بعبارات موجزة. عرف هذا النوع من الشعر في السبعينات من القرن العشرين.

2- من عوامل نشأة الومضة هي: التحولات الفنية والفكرية، والحاجة إلى التعبير عن روح العصر وهو عصر السرعة والاختصار.

3- ومن روّادها عزّالدين المناصرة وكان له قصب السبق وبعده، أحمد مطر، مظفّر النواب، نزار قبّاني.

4- راج بين الباحثين أنّ قصيدة الومضة متأثرة بالمؤثرات الأوروبية والشعر الياباني الذي يقوم على التركيز والتكثيف والاقتصاد اللّغويّ. هذه الدراسة لا تنكر هذا التأثير ولا تذهب إلى أنّ الومضة محاكاة بحتة للآخر بل تعتقد أنّها وإن تأثرت بمؤثرات في الأدب الأوروبي ولكن ليست نسخة من الشعر الياباني أو الإنجليزي بل هي إحياء أو إعادة صياغة لما نعرفه في الشعر العربي القديم من المقطعات وامتزجت فيها الخصائص التراثية والعالمية.
5-أهم ميزات (الومضة) هي: الخيال المتوقد، الحساسية المرهفة، الابتعاد عن الحشو والزيادات، الاتصاف بانتقائية اللفظ وتميّز الصورة، القدرة على التأثير في المتلقي، السيطرة على توجيه انتباه المستمع، المفاجأة، الوحدة العضوية والتركيز على الجمل القصيرة المكثفة جداً.لكن الومضة تخلو من (المفارقة)، عكس شقيقتها (التوقيعة)، التي هي ومضة تشترط وجود (المفارقة).

المراجع

أدونيس؛ (1988) أوراق في الريح؛ طبعة جديدة، بيروت: منشورات دار الآداب.

إسماعيل، عزالدين؛ (1972) الشعر العربي المعاصر "قضاياه ظواهره الفنية والمعنوية؛ ط3، بيروت: دارالعودة ودار الثقافة

البحراوي، سيد؛ (1996) البحث عن لؤلؤة المستحيل، ط 1، القاهرة: دار الشرقيات للنشر والتوزيع

حشلاف، عثمان؛ (1986) التراث والتجديد في شعر السياب؛ الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية

حلوم، أحلام؛ (2001) النقد المعاصر وحرکة الشعر الحر؛ ط 1؛ حلب: مرکز الإنماء الحضاري
الخطيب، نبيلة؛ (2004) ومض الخاطر؛ الأردن: دارالأعلام.

داغر، شربل؛ (لا.ت) الشعرية العربية الحديثة؛ ط 1، بيروت: دار المعرفة الأدبية.

الصمادي، امتنان عثمان؛ (2001) شعر سعدي يوسف؛ ط 1، ييروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

عشري زايد، علي؛ (2008) عن بناء القصيدة العربية الحديثة؛ ط 5، القاهرة: مكتبة الآداب.
فضل، صلاح؛ (1995) أساليب الشعرية المعاصرة، ط 1، بيروت: دار الآداب.

قباني، نزار؛ (1993) الأعمال السياسية الكاملة؛ ط 5، بيروت: منشورات نزار قباني.

....،.....؛ (1993) الأعمال السياسية الكاملة؛ ط 12، بيروت: منشورات نزار قباني.

القصيبي، غازي عبدالرحمن؛ (2006) مائة ورقة ياسمين؛ جدة: مكتبات تهامة.

القصيري، فيصل صلاح؛ (2005) بنية القصيدة في شعر عزالدين المناصرة، الأردن: دار مجدلاوي للنشر والتوزيع.

کمال الدين، جليل؛ (1974) الشعر العربي الحديث وروح العصر؛ ط 1، بيروت: دار العلم للملايين.

مطلق، شاکر؛ (1984) معلقة كلكامش على أبواب أوروک، حمص: دارالأرشاد.

المناصرة، عزالين؛ الأعمال الشعرية، (قصيدة هايكو – تانکا)، من ديوان يا عنب الخليل، ط5، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر

المناصرة، عزالدين؛ إشكاليات قصيدة النثر، ط3، دار الراية، عمّان، 2013

المجلات والمواقع

الموسی، خليل؛ (2005) قصيدة الومضة في يمامة الكلام، الأسبوع الأدبي، العدد 956، دمشق: اتحاد الكتاب العرب

.....،.....؛ (2005) الأبنية الفنية في تجربة الحداثة الشعرية في سورية، مجلة الموقف الأدبي، العدد 405، السنة الخامسة والثلاثون، دمشف: اتحاد الكتاب العرب

بدور، نسرين؛ (2002) بعض من ملامح "قصيدة الومضة"؛ الأسبوع الأدبي، العدد 824، دمشق: اتحاد الكتاب العرب.

بعلي، حفناوي؛ (2005) شعرية التوقيعة؛ الموقف الأدبي، العدد 413، دمشق: اتحاد الكتاب العرب.

حجو، فواز؛ (2002) الومضة الشعرية؛ الموقف الأدبي العدد 373، السنة الواحدة الثلاثون، دمشق: اتحاد الکتاب العرب.

الخال، يوسف؛ مجلة الشعر، (أخبار وقضايا)، العدد الثالث، ط5، بيروت: 1978.
خرفي، محمد الصالح؛ التجريب الفني في النص الشعري الجزائري المعاصر، الممكن والمستحيل؛ مأخوذة من الموقع التالي المؤرخ 10/1/2010
http://www.difaf.net/modules.php?name=News&file=print&sid=556

علوش، سلاف؛ الومضة الشعرية، جريدة الأسبوع الأدبي، العدد 830، دمشق: اتحاد الكتاب العرب.

علي محمد، أحمد؛ (2001) التفاتة نقدية إلی قصيدة الهايكو في اللغة العربية، هايكو صحاري الجنون لعبداللطيف خطاب نموذجاً، الأسبوع الأدبي، العدد 788، دمشق: اتحاد الكتاب العرب.

غزول، فريال جبوري؛ (1997) شعرية الخبر، مجلة الفصول، العدد الأول، المجلد السادس عشر.

قويدر العبادي، عيسی؛ قصيدة الومضة؛ مجلة الموقف الأدبي، العدد 377، السنة الثانية والثلاثون، دمشق: اتحاد الكتاب العرب.

هيوي، موراکاي؛ (1984) دراسة تاريخ الأدب الياباني، (مترجم)،، مجلة الآداب الأجنبية، العدد 34، دمشق: اتحاد الكتاب العرب.

عزالدين المناصرة: (توقيعات)، ط 2، دار الصايل، عمان، 2013.

حسين كياني، وسيد فضل الله مير قادري: سمات الومضة الشعرية، والتوقيعة – مجلة الغة العربية وآدابها، العدد 9 – جامعة الكوفة، العراق 2010.

دكتور حسين كياني- ودكتور سيد فضل الله مير قادري - إيران


مشاركة منتدى

  • يضيف الشاعر المناصرة بأن الومضة هي ( انطباع لحظة أو مشهد في الذاكرة الحاضرة أو برق خاطف سريع ليس له حدود ومشكلته أنه ضبابي- ويثير الدهشة.. وبالتالي فإن جمالية الادهاش والبساطة هي تعويض عن المفارقةفي التوقيعة.

     أما الدهشة فهي مشتركة بين الومضة والمفارقة.
     ويصر المناصرة على أن ( التوقيعة ) أكثر تحديدا وكثافة بينما يسيطر الضباب على الومضة السريعة.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى