الثلاثاء ٢١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٣
بقلم عماد عبيد

ما لم يقلهُ الجرحُ

منْ غفلةِ ورعِ التكوينِ تسطعُ مأساتك
بذَرتكَ أقانيمُ الحربِ في الوعرِ المنسيِّ
يا غطرفةَ الدمِّ السامي عنْ ذكرِ الشكوى
يا عبقاً يتشذّى منْ خشبِ التابوتِ وجرحِ النارِ
زفّتكَ مآقي الناجينَ إلى عرسِ الأرضِ
مرثاتكَ مرّتْ منْ قبلكَ في وادي الصمتِ
شيّعكَ الخرَسُ الوطني إلى نادي الموتى
ترجمكَ الموجُ إلى أصدافٍ غطّتْ عوراتِ الرملِ
يتقاطرُ وهجكَ مأخوذاً بجريرةِ لونكَ
يغمرُ ياقاتِ الزهرِ وسيقانَ الحنطةِ
وشميمكَ رعدٌ يتضوّرُ خلفَ الأجفانِ
يهتفُ للنبضِ الصاعدِ منْ جوفِ النّاي
تتمردُ أغصانُ العشقِ على الشجرِ العاقرْ
تفتحُ أعبابَ الصدرِ لرحيقِ الصّبواتِ
الطقسُ مواتٍ كي تهطلَ غزلانُ الضوءِ
افردْ قاموسكَ وادخلْ في اللغةِ الأولى
أنتَ المتروكُ وحيداً لرعافِ الغيمِ
ترقيكَ مدائحُ من عادوا إلى بكرِ الفكرةِ

وهذا دمي،
نبضُ جمرٍ تحتَ قِدرِ الانتظارِ، صرخةٌ تزربُ منْ ضرعِ السغبْ، خيمةٌ تأوي سبايا الجائعينَ، ديمةٌ زخّت هواها للحفاةِ، لغةٌ تتبعُ أظلالَ الحيارى.
وهذا دمي،
غربةُ الأشجارِ في غابةِ حربٍ، لعنةُ النعشِ لأسرارِ الهلاكِ، هدنةُ البسّامِ للحزنِ الطريِّ، رنّةُ الخلخالِ في رسغِ الردى، صولةُ الآهاتِ في حمّى الوطيسِ.
وهذا دمي،
كلُّ هذا النزفُ من جرحٍ كليلٍ، نصفُ عيشٍ يتلظّى بالكفافِ، عدمٌ يجمعُ أشلاءَ الوجودِ، شمعةٌ تطفئ شمساً عارمةْ. سكنةٌ تصرعُ سلطان الضجيجِ.
وهذا دمي،
صبغةُ الدحنونِ للأرضِ البياضِ، خيلةُ النرجسِ في الماءِ الزلالِ، رقصةُ الفولاذِ في عرسِ اللهبْ، رجفةُ التاريخِ منْ بسمةِ طفلٍ.

وهذا دمي،
نبوةُ السيفِ واحتضارُ الحصانِ، يسرةُ العُسرِ وانكفاءُ الفرجِ، ميعةُ العمرِ في هباءِ الرغائبِ، شدوةُ الكأسِ في نحيبِ الجنازةِ، لعبةُ القنديلِ معْ خفرِ الفراشةِ، خرخراتُ السحرِ في الوادي الرهيبِ،
وهذا دمي،
سفنٌ تمخرُ أعبابَ المشيئةِ، طائرٌ يُرضي غرورَ الأجنحةِ، أرجلٌ شقّتْ مناحاتِ الزحامِ، جسدٌ يسردُ أهوالَ الفؤادِ، شاعرٌ يبني فضاءَ الأخيلةِ، فارسٌ يرتَدُّ عن دينِ الطعانِ.
وهذا دمي،
كلُّ رايةٍ،
لمْ يلوثها غبارُ العسسِ،
لمْ يواريها زمانُ المارقينَ،
لمْ يدنّسها قساةُ الأفئدةِ،
لمْ تجافيها أهازيجُ النُدامى،
لمْ تُمالقها رباباتُ الغجرْ.

وهذا دمي:
كلُ هذا الوقدُ للنّارِ العظيمةِ، كلُّ هذا الثأرُ للخوفِ العتيقِ، كلَّ هذا البوحُ من ثغرٍ حبيسٍ، كلُّ هذا النحرُ للعنقِ المزججِ، كلُّ هذا الشوقُ للغدِّ الملثّمِ، كلُّ هذا النصرُ للحبرِ المراقِ.

هذا الفلكُ المعوّجُ لنْ تنجيهِ أبخرةُ السّحرِ
تنهارُ مداميكُ الليلِ وتقوّضُ أبراجَ الغابةِ
العوسجُ مصلوبٌ فوقَ زجاجِ الأحداقِ الطاعنةِ في شبقِ الرؤيةِ
ونداءُ النعناعِ يدوّي في الحلكِ الموحشْ
لمْ يبقَ للعشبِ طلُّ يسقيهِ ويدللُ وبره
من ينحرُ هذا الخرتيتَ الماضي في ضجتهِ
منْ يحمي قمرَ السّمارِ منْ ذئبِ الوقتِ
منْ يشعلُ مجمرةً الدفءِ في نونِ النسوةِ
منْ يزرعُ سنبلةَ الغبطةِ فوقَ رخامِ الروحِ
تصطفقُ عروشُ البارودِ لترفرفَ راياتُ الزنبقِ
تنقصفُ أعناقُ الشوكِ إنْ هبّتْ رائحةُ الوعدِ
يا جرحَ الكونِ تجاسرْ، فضمادكَ من ثمرِ الدنيا
عرّيتَ مؤخرةَ الفرسانِ وأصنامَ المعبدِ
انزفْ يا جرحُ ولوّثْ أرديةَ الشرفِ الفاجرِ
حبّرْ مكحلةَ الدمعِ بشرابٍ منْ خمرِ العندم
واذرفْ حسرتكَ فوقً ضريحِ الأسماءِ العظمى


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى