الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم سعيدي مصطفى

مجرد حلم

محيط أصفر من إبريز مسجور يغشي كل أراضيها الفضفاضة ... فكرة تسبح في رأسه، ليست فكرة واحدة بل حشد من الأفكار والأحاسيس تضطرم في لواعجه ... أمواجها هادئة لا تتحرك في سكون متناه، صفرتها تزداد اصفرارا إلى أن يستحيل لونها ذهبيا بانعكاس خيوط هذه الشمس التي تزين زرقة سماءها الشبيهة ببحر معلق في الفضاء الممتد على طول المدى الفسيح... نسمات هواء دافئة رقيقة تقبل خذه الأيسر، تداعب شعر رأسه الأسود...

هذا الجو البهيج الذي يرتدي ملابس بيضاء اللون يحمل عصا صغيرة يتقمص دور قائد الجوقة، وكأنه يريد عزف سيمفونية نصر مبكر، يجعله يرفرف كفراشة صغيرة، يطير كعصفور يزقزق هنا وهناك معلنا لكل هذا الكون الشاسع ميلاد عروبة عربية الأب والأم عربية التربة والأجداد ...

جندي عربي هو، وهي صحراء أرض الكنانة؛ حيث يعسكر الآن آلاف الآلاف من الجنود العرب كما يفعل إخوانهم في جنوب لبنان وعلى الحدود في سوريا والأردن، وحتى في الأرض التي أصبحت فيها الحجارة جزءا من الهوية، جزءا من الحرية نفسها، في الأرض التي تجري ينابيعها الحمراء بدماء الشهداء، في أرض الأجساد المثخنة بالجراح، في أرض أصبح فيها الموت هو الحياة ... في أرض تولد ألف مرة في اليوم الواحد، يشهد الفجر ميلادها الأول ويتأمل البدر السعيد بألقه الفضي وعيونه الساحرة ولادتها الأخيرة، وما بين الولادتين يتوقف الزمن قليلا ليشرب من عذب مائها المقدس وليثمل من عبق فلها وأريج زنابقها، ثم يعاود الرحيل مرة أخرى برفقة أسراب الحمام والسنونو وهو يرقب بعينين مفجوعتين ملؤهما الحزن والأسى، أشجار الزيتون وشتائل البرتقال تشنق نفسها، وشموع الاحتفال تبكي هذه الأرض الحزينة... فمنذ أن اجتاحها العدو كالموت الأسود، اجتثت أشجارها فنبت الشوك مكانها ورحلت طيورها بعيدا بدون أي أمل في العودة، فغدت الغربان تملأ أعشاشها، ولم تعد أية رائحة أو عبق للأزهار تفوح بين جنباتها بعد أن حلت نتانة الموت تتسكع في أرجائها... فكيف لا تكون فيها معسكرات ضد العدو ؟ وإلى متى سيستمر الموت يبتلع الحياة فيها؟

... أفلت الشمس في أفقها الساحر بعد أن همس البدر في أذنها مخبرا إياها بانتهاء دورها في هذا اليوم العظيم ... حينها غادر الجندي مكانه بعد أن جاء من أخبره بأنهم سينطلقون باتجاه النصر، وصل إلى المعسكر وعيناه تعرضان فيلما بدون عنوان ولا قصة ولا حتى مخرج أو كاتب سيناريو، ممثلوه قد ماتوا قبل أن يقوموا بأدوارهم، مشاهده في جزئه الأول: أطفال فلسطين يسبحون في برك الدماء والدموع، يودعون الحزن مساء ليستقبلوه صباحا وقد ظل يلاحقهم في كل وقت وحين ... أجساد مفحمة وأخرى بدون رؤوس أو مجرد أشلاء مبعثرة لا معالم لها، أرجل متطايرة في الهواء كأنها طيور بلا أعناق وبلا أجنحة ولا حتى ريش أو أرجل، جاءت تبحث لها وسط الدخان والدمار والألم عن جثث تناسبها ...

في آخر الفيلم: أطفال بحلل بيضاء يبتسمون بعد أن تذوقوا لأول مرة طعم الحرية، حمائم ناصعة البياض تبني قصورا لها فوق القبة الصفراء، قطرات من الندى تقبل أزهار الأقحوان لتتفتق بكل حنان، أناس يكتبون رسائل السلام ليبعثوها مع بريد الموتى، ليخبروا جميع الشهداء بأن ما قدموه لم يذهب سدى... انتهى الفيلم بنهاية سعيدة.

أسدل الستار عليه، ليشاهد الليل يؤدي لهم قسم البيعة والولاء قبل أن يرحل ليعلن عن بدء حرب زمنها سويعات فقط، في طريقه أيقظ الليل الفجر ليتراءى لهم متسربلا بضوء خافت، وهو يتمطى بردائه الرمادي محتضنا بين طياته كل الكتائب المرابطة هناك، مضى معهم إلى حيث هم ماضون، حرك عصاه السحرية وجعل من كل جندي أربعة جنود وهميين تحيط بهم هالة من نور وردي لا تظهرهم بقدر ما تخفيهم، بعدها توارى مخلفا وراءه جنودا جيش عرمرم لا نهاية لعدده، شرعوا بالاقتراب بكل أمل وعزيمة من النصر، اصطف الجنود فتقدم قائدهم إلى الأمام ثم أطلق رصاصة البدء لتتوالى بعدها الطلقات ليختلط دويها بالزغاريد، بموسيقى العيد بهذيل الحمام، يتكاثف الرصاص في السماء مشكلا غيوما عربية سوداء متوهجة، لم تستطع أن تحجب أشعة الشمس الدقيقة التي بزغت لتوها لتمد الجنود بطاقة خارقة، بينما استطاعت أن تلقي بكل حرارتها فوق رؤوس العدو الذي شرعت دفاعته تتهاوى وجنوده يتساقطون بالمئات ويندحرون، في كل هذا الخضم كان الجندي يحمل بندقيته وبكل شجاعة كان يتوغل ويتوغل بين جنود الاحتلال يرميهم برصاصه يمينا وشمالا، يطرحهم أرضا انتصارا لكل من ماتوا غدرا من الأطفال والنساء والشيوخ، فجأة اخترقت رصاصة كتفه فسقط أرضا فاقدا وعيه.

صرخ صرخة مدوية ،استعاد وعيه ليجد نفسه فوق سريره وعلى رأسه ضمادة وضعتها أمه له بعد أن ضربه أخوه بصحن على رأسه بسبب صراع بينهما حول كأس عصير مشؤوم.

سألته أمه عن صحته فتمتم بكلام غير مفهوم مفاده أنه كان في حلم جميل فكرته العامة: إن القضية كبيرة وما يشغلنا عنها أشياء تافهة ... أغمض عينيه عله يستفيق هناك ليحتفل بالنصر مع المنتصرين...!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى