السبت ١٦ أيار (مايو) ٢٠٢٠
بقلم فراس حج محمد

مجرّدُ سرد أعتقد أنّني كنت على حقّ

كان بيني وبين ابنة الجيران صفّان دراسيّان أو ثلاثة. لا أتذكر الآن. كانت فتاة جميلة، قصيرة القامة، مكتنزة، وبشرتها بيضاء، وعلى ما يبدو كانت ناعمة، فذوو البشرات البيضاء ناعمون، هكذا كنت أفكر. في الحقيقة لقد صاحبني هذا الاعتقاد مدة طويلة. لم ألمس شيئا منها ونحن فتيان صغار، تجمعنا بعض الألعاب الشعبية. ولذلك لا خبرةَ عملية لي في هذا الجانب مع الفتيات الصغيرات. لم نكن جميعا نفكّر أن يلمس أحدنا صاحبه، مع أننا كنا نلعب ألعابا تستدعي ذلك ولو من باب الصدفة. لا أتذكر من ذلك شيئا على الإطلاق.

من المؤكد أنني لم أحب ابنة الجيران، وهي لم تحبَّني. في تلك الفترة التي كنا فيها أطفالا لم يكن لدينا جيران كثيرون، ما يعني أنه لا يوجد فتيات صغيرات في حينا يصلحنَ للحب، فهنّ لم يكنّ قارئات لأي نوع من الروايات. كانت تنشب بيننا خلافات تافهة تتطور إلى عراك بالأيدي وصراخ، في لحظة العراك تلك لم نكن ننتبه لنعومة البشرة. يتطور الخلاف سريعا ليصبح خصاما طويل الأمد. ما يعني أيضا أننا لن نلتقي ولن نلعب معاً لبضعة أسابيع، لم أكن أتلصص على بيتهم خلال تلك المدة، ولم أكن أراقب تحركات تلك الفتاة. نتوقف فقط عن ممارسة الألعاب الشعبية والثرثرة، ينكفئ كل واحد منا داخل حدود بيته، بيتنا لم يكن مسوّرا وأظن أيضا أن بيت جيراننا لم يكن كذلك. وهكذا ظلت العلاقة بيننا وبين الجيران علاقة متوترة لم تسمح لنا بتوفير ظروف مناسبة لندخل في علاقات غرامية.

لم يخطر في بالي يوما أن أحب ابنة من بنات الجيران، حتى عندما كبرت، وتنقلت في بيوت مختلفة، كانت فكرة عقيمة أن تحب ابنة الجيران. أيّ غباء هذا الذي يجعلك تحب ابنة الجيران؟ لم يكن الأمر متوقفاً على بنت الجيران ذات البشرة البيضاء القصيرة المكتنزة، بل أيضا لم أفكر بأن أحب زميلة على مقاعد الدراسة. كانت الفكرة أيضا أكثر عقما وسوءا مما يظن امرؤ تستهويه مثل تلك السذاجات البائسة.

عندما أصبحت في سن الزواج، من الطبيعي أيضا ألا أفكر في أية بنت من بنات الحي الذي أسكن فيه. ولا في أية زميلة من زميلات الدراسة في المدرسة. الألفة والاعتياد لا تصنع حبا بالضرورة. هذا ما حدث بالضبط، اعتدت فقط على وجود زميلات المدرسة وعلى وجود فتيات الجيران في حياتي، وهذا يكفي لئلا يولّد حبا من أي نوع كان. حتى مشاعر الإعجاب لم تكن متولّدة بيننا، كنت أنظر إليهنّ بحياد غريب. وإلى الآن كلما رأيت بنتا من بنات الجيران أجد ذاكرتي بيضاء، غير مكتظة بالحنين تجاه أية واحدة منهنّ.

لماذا يحب الشباب الطائشون بنات الجيران؟ هذا الأمر كان سيئا جدا بالنسبة إليّ. عرفت كثيرا من أبطال القصص والروايات والحكايات والأفلام. ثمة أبطالٌ دخلوا في علاقات مع بنات الجيران، لم تكن تقف عند حدود النظرة والابتسامة والإعجاب المتبادل. كان ثمة رسائل، وثمة لقاءات انفرادية، وثمة غرق في العلاقة حتى أقصى الممكن، كانت تخيفني تلك الرومانسية، مرّ وقت طويل حتى عرفت أن هذا يسمى رومانسية. كان هذا مخيفا في الروايات التي قرأتها كبيرا، والأفلام التي شاهدتها صغيرا. لماذا كان المؤلفون يعتمدون على هذه القصص غير المشوقة؟ لم أكتشف مدى سذاجتها إلا مؤخرا. هكذا فجأة صرخت في رأسي الفكرة فعدتُ إليّ فتى يافعا، ولكنني لم أجد حبا طفوليا لي في تلك السنوات البعيدة مع أية بنت من بنات الجيران، ولذلك أعتقد الآن أنها علاقات ساذجة.

من أين يأتي الكتّاب بتلك الأفكار المضحكة في رواياتهم وقصصهم؟ كانوا حقا يضحكون علينا بها، بل يسخرون منا بعنف غير ظاهر، ولقد كنا ضحايا تلك الروايات التي قرأناها، والأفلام التي شاهدناها. في الروايات الأجنبية نادرا ما يحدث مثل هذا، وإن حدث لن يخرج عن دائرة السذاجة ذاتها، فلسنا وحدنا المصابين بهذا الداء. ثمة من يشاركوننا البؤس ذاته في الحياة وفي الروايات وفي الأفلام أيضاً.

أعتقد أنني كنت على حقّ بعد كل ما رأيت. فبنات الجيران لسنَ جديرات بالحب، وأبناء الجيران أيضا ليسوا مؤهلين لصنع مثل تلك التفاهات الرائجة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى