محمد جبريل وحكايات الفصول الأربعة
تكتب ، وتكتب ، وتكتب .... شعور أقرب إلى الراحة ، تطمئن إليه بأنك تعبر عن نفسك . تستدعي الأفكار والذكريات والرؤى والخواطر التي لا رابط بينها إلا استعادة ما مضى من أعوام العمر. تتلاحق الصور . تتلاقى ، وتتعامد ، وتتشابك . تختلط الملامح والسحن والتعبيرات والمشاعر . تعود للمواقف والحكايات العجيبة . يعود الأمل والقلق والخوف . تتخفف مما لا تقدر على تبين ملامحه . توشي الألوان والظلال قطع الفسيفساء في مساحة اللوحة .. (1)
هكذا ، ينهي الروائي المبدع / محمد جبريل ، روايته : حكايات الفصول الأربعة ؛ والتي تضاف إلى إنجازه الإبداعي ، وكذلك إلى الإبداع الروائي العربي في آن.
وهو - بحق - يأخذ الإبداع بجدية ودأب ؛ وهذا أمر ، يبين - بجلاء - المتتبع مسيرته الأدبية.
تدهشك - دومًا - أعماله الإبداعية ، بتطورها - الملحوظ - في تقنيات السرد. ويشغف - محمد جبريل - بالإسكندرية ؛ وخاصة : حي بحري ، والذي يدور فيه معظم إبداعه الروائي:
الحنين إلى المكان عندي ، يتمثل في حنيني إلى ( حي بحري) ، وهو الحي الذي ولدت فيه . وإذا كنت أحيا - الآن - بعيداً عنه ، نتيجة لظروف عملي في القاهرة ؛ فإنه يحيا في داخلي دوماً .. المعتقدات ، والعادات والتقاليد ، وحياة الصيادين ، وأضرحة الأولياء ، والحياة في الميناء ، وصيد العصاري ، وليال رمضان ، والموالد ، والأذكار ، وكل ما يجتذبني إلى ذلك الزمن القديم... أنا من المفتونين بالمكان المصري ، وقد تمنيت أن تتاح لي الفرصة نفسها ، التي أتيحت لشتاينبك ، عندما طاف مع كلبه " تشارلي " كل المدن الأمريكية ، وتعرف إلى حياة الناس في مختلف البيئات ؛ وهو ما انعكس على إبداعه بصورة مؤكدة . وبالطبع ، فإن ( حي بحري ) ؛ هو أشد الأماكن قربًا من وجداني وفني في آن ..(2)
لا تعدو أن تكون - هذه القراءة- سوى وقفات تأمل ، عند بعض الشخصيات ، والأحداث ، التي بثها - الفنان المبدع - بفرشاته ، العابقة بزخم المشاعر والإحساسات - المنداحة ، بشجن شفيف - في السرد الروائي ، المصاغ بحنكة ، وحذق.
ورواية : حكايات الفصول الأربعة؛ هي، سيرة حياة - رفعت القباني - ، والتي اضطر ؛ لكتابتها ، بعد أن حبس في شقته - بالطابق الثاني عشر- لتعطل المصعد:
"..تشرد عيناك في تلاقي البنايات والسماء والأفق ..
شمس الضحى تصبغ الواجهات والأسطح والمدى . أسراب الطير تلتمع في وهج الأشعة كنثار الفضة . تحط على الأمواج ، تلتقط الأسماك ، ثم عاود الطيران . الفلوكة الصغيرة تتمايل وهى تجر الطراحة في عومها المتباطيء . أصداء إيقاع الأمواج تنداح على الشاطيء . أصوات الطريق شاحبة من وراء النافذة الزجاجية المغلقة..
حين ترامى صوت من الطوابق التحتية : المصعد معطل ، اصطدم كل ما أعددت له نفسك بحائط مسدود . لم تعد تملك التصرف الذي يصلك بالأماكن التي كنت تعد نفسك للذهاب إليها في داخل المدينة ، مقهى التريانون ، مكتبة دار المعارف بالمنشية ، مبنى الغرفة التجارية . تقدم ترجمة تقرير إ نشاء منظمة التجارة العالمية...... الصعود إلى الطابق الثاني عشر ، لم يعد متاحاً منذ ذلك المساء الذي ارتميت فيه - بثياب الخروج - على أول كرسي تصادفه في الصالة . خانك الجسد ، وتهيأ للسقوط...."(3)
ومن البداية ، يدخلنا - الكاتب - في الحدث ، الذي كبل حرية - الراوي - ، وجعله يمكث في شقته ؛ يتأمل حياته الفائته ، بكل ما فيها ... وينثر بقلمه - بحذق - ما يعانيه من وهن الشيخوخة ، ورؤيته للعجز والموت...
" .. لم تعد تجلس إلى مكتبك ، أو تتحرك من موضعك ، إلا بجهد تشعر به وإن حاولت إخفاءه كأنك تداري ما يجب ألا يعرفه الآخرون .."(4)
ثم ، أخذ يحدد معالم الشقة - ببراعته المعهودة في وصف المكان - : " أدهشك موقعها المطل - في الطابق الثاني عشر - على شبه جزيرة الإسكندرية . البحر من الجهات الثلاث والكورنيش والبيوت والجوامع والساحات والشوارع والأسواق . لما خصت إيناس أمها بالسر الذي أخفته عن الجميع ، طالبت رئيفة بحجرة لإيناس لا يشاركها فيها أحد . شقة شارع فرنسا ذات الحجرات الثلاث لم تكن تسمح بذلك . حجرة لكما - رئيفة وأنت - والثانية ، والثالثة للسفرة ، والصالة للاستقبال ...... لما نظرت - للمرة الأولى - من نافذة الطابق الثاني عشر ، أحسست بدوار ، وما يشبه الميل إلى إلقاء نفسك . أدركت أنك تعاني عقدة الخوف من الطوابق العليا ..
اكتفيت - في الأيام التالية - بالنظرة الخاطفة السريعة . ثم ألفت المشاهد دون أن تشعر بالدوار ، أو بالميل إلى إلقاء نفسك ، أو تغادر موضعك ..."(5)
ويسرد - الراوي - علاقته المختلفة: بالأصدقاء .. كيفية تعرفه على زوجته، الخلافات في الرأي مع أولاده ، والهوه بين الأجيال:
رضوخه ؛ لرغبة ابنته إيناس ، الزواج من زميلها ياسر ؛ رغم اعتراضه على ذلك:
" -" زوجتك ابنتي!"
قال بهجت عبد المنعم العبارة ، ويدك في يده تحت المنديل الأبيض .
– "وأنا قبلت ."
رددت العبارة خلف المأذون المعمم . قدم من دكانه الخشبي الصغير قبالة أبو العباس . الجلسة مختلفة . اختلف المأذون فهو يرتدي البنطلون والقميص. لم تختلف العبارتان : أزوجك ابنتي ، وأنا قبلت . شعرت - وأنت تردد ما قاله المأذون - بطعم المر في شفتيك . اصطدم رفضك بأفق غائم . تحدثت رئيفة عن الخطر الذي تلوح نذره ، وبكت..
كتمت الرفض ، ولألم في داخلك . وضعت ما يجري في إطار الفرجة . تشارك بما أذنوا لك به : أزوجك ابنتي ! . تطلب من ما لا توافق على أن يطلبه ، لو أنه هو الذي ردد العبارة الأولى وراء المأذون . إذا كانت إيناس قد لوحت - بإيعاز ياسر - إلى ما لم يدر لك ببال ولا تصورته ، فإن الشاب هو الذي يجب أن يردد العبارة : زوجني ابنتك !. ترد بالموافقة أو الرفض . لكنك عرضت ما ترفضه ، ومنحك ياسر موافقته ! "(6)
وهجرة ابنه هاني ، وعدم الالتفات إلى نصائحه بعدم السفر ، والبحث عن فرصة عمل أخرى:
" قال هاني:
– " حصلت على شهادة التجنيد مقابل حصولي على بكالوريوس التجارة.."
ثم في لهجة باترة :
– "من حقي الآن أن أرحل!"
كان قد عرف البلد الذي يهاجر إليه ، وأنهى كل أوراقه . الموعد وحده هو ما أبلغنا به . تستطيعون وداعي على باب الشقة ، أو في المطار ..
وهو يحاول السيطرة على ارتعاشة صوته:
– " حتى لا أتعبكما ، يكفي الوداع في الإسكندرية ..""(7)
ولقد بث في ثنايا الرواية ، لمسات سياسية خاطفة ؛ ولكنها دالة:
"ولدت بعد عام واحد من ثورة 1919، وكنت في السابعة حين توفى سعد زغلول . أحدثت تطورات الفترة تأثيراتها في نفسك . الوفد هو الحزب ... ثم تبدلت المشاعر بمعارك الزعامات ، وإلغاء دستور 1923 ، والقمصان الزرقاء ، والقمصان الخضراء ، والقمصان الصفراء ، وتزييف الانتخابات ، وخيانات الأحزاب ، والأزمة الاقتصادية ، وتدخل قصر الدبارة ، والحرب العالمية الثانية ، وحادثة 4 فبراير ، وحرب فلسطين ، ومعارك القناة ، وثورة يوليو ، وعدوان 1956، ونكسة 1967، وحرب الاستنزاف ، وحرب أكتوبر.."(8)
نجح الكاتب في التعبير عن خلجات - الراوي - وما تعتمل الشخصية من مشاعر : " زاد إحساسك بالوحدة . غلبك التأثر . تمنيت لو تذهب إلى مكان بعيد ، يخلو من البشر تماماً . تتمدد على رمال الشاطيء . تأثر الأمواج . تغطيك ، تغسلك ، تنحسر . تعود لتغطيك ، وتغسلك إلى ما لانهاية .
تضيء النور ، وتعيد تأمل ما حولك : الأثاث الستائر ، المكتبة ، التليفزيون ، النوافذ ، الشرفات . تلاحظ الشقوق الواضحة في السقف والجدران ، والتكوينات التي صنعها تساقط الطلاء.
تنظر - بآلية - إلى ساعة الحائط ، تحت إفريز السقف . الحادية عشرة وخمسة عشرة دقيقة . أكثر من ساعة لم تذهب للتبول..
تنفخ بتلقائية . تمضي إلى النافذة دون أن تتوقع ما ستطالعه . مجرد حركة لم تتدبرها . تسقط احتمال الخطوة التالية ..
كانت حركة الطريق قد هدأت ، وشحبت الأصوات المتصاعدة من أسفل . وكان الظلام قد ابتلع البحر. لا مرئيات سوى نقاط ضوء متناثرة في بلانسات بعيدة . وثمة توالي حركة الموج في مد وجزر متلاحقين ، وغابت أسراب النورس عن سماء الشاطيء."(9)
تتميز الرواية ، بالتقنيات السردية المختلفة ؛ فنجد: الكولاج ، القطع ، المونتاج الزمكاني ، المونولوج.. المزج بين الماضي والحاضر . لا يسير السرد على مستوى أفقي أو رأسي ، وإنما ينساب هنا وهناك ؛ ليعطينا رؤى - الراوي - بلغة متفرة : في اختيار المفردة اللغوية ، والتركيب اللغوي للجملة .. اقرأ ؛ هذه الفقرة : " يغطس قرص الشمس في البحر ، وإن خلف بقايا ضوء شديد الاحمرار. ينطلق سرب من الطير في الأفق ، يواصل طيرانه حتى يتحول إلى نقطة بعيدة ، ما تلبث أن تختفي. ترين على المكان رمادية شفيفة ، تستطيل الظلال . تفترش مساحات من الطريق والبنايات ، ووميض بقايا أشعة الشمس ينعكس على النوافذ الزجاجية المغلقة . وغربان البحر تنعق ،وتصرخ ، وتزعق ، وهى تحوم فوق بلانس اجتاز حاجز الأمواج ، ودخل نصف الدائرة ما بين السلسلة وقايتباى . طوى الرجال الشراع ، وأعدوا المخطاف ."(10)
اللغة ، مكثفة ، رقراقة ، شفيفة ، تتواءم مع سيكولوجية الشخصيات ، والعالم المحيط بها ؛ والذي برع في نسجها بمهارة وتفوق .. واختياره لأسماء الشخصيات ، كان اختيارًا دقيقًا ، وحصيفًا - تأمل معي ؛ هذه الأسماء : رفعت ،رئيفة ، إيناس ، هاني ، مسعد، بدر...
ومما لا شك فيه ، أن الروائي المبدع / محمد جبريل ، برواية : حكايات الفصول الأربعة ، يكون قد أنجز عملاً إبداعيًا - سامقًا - يضاف إلى المشهد الروائي العربي. وتعد - من ناحية أخرى - نقلة نوعية وكيفية في إبداعاته الروائية ، والمحلقة - دومًا - إلى آفاق جديدة..
هوامش:
1- محمد جبريل – رواية : حكايات الفصول الأربعة – ص 139، 140- دار البستاني للنشر والتوزيع- 2004.
2- مجلة : أنداء – العدد الثاني – 2001 – الهيئة العامة لقصور الثقافة – إقليم شرق الدلتا الثقافي – حوار مع الروائي الكبير / محمد جبريل – ص 5،4.
3- محمد جبريل – المصدر السابق – ص 13، 14.
4- محمد جبريل – المصدر السابق – ص 14.
5-محمد جبريل – المصدر السابق – ص 17،16.
6- محمد جبريل – المصدر السابق – ص 29.
7- محمد جبريل – المصدر السابق – ص54
8- محمد جبريل – المصدر السابق – ص 49،48.
9- محمد جبريل – المصدر السابق – ص 101.
10- محمد جبريل – المصدر السابق – ص 96.
}}