محمد جبريل ومواسم للحنين
كلما أقرأ ، عملاً إبداعيًا جديدًا ؛ لمبدعنا الكبير الروائي محمد جبريل ، أزداد إيمانًا ، بأن الإبداع الجيد ؛ يستلزم الإخلاص ، والتفاني ، والدأب ، المستمر . وأن يتحلى الكاتب ، بعناد الأمواج ؛ وهذه مقولته الأثيرة .
أراه - دومًا - منشغلاً برواية جديدة ، يذوب في كتابتها ، أو منهمكًا في قراءة كتاب ؛ فهو صاحبه - الصدوق - إذا فتحت حقيبته ؛ ستجد كتابًا جديدًا ؛ وبداخله قلم رصاص ؛ يخط به الهوامش التي تعن له على متن النص المقروء .
إن الحياة - بالنسبة له - هي الكتابة والإبداع ؛ ولذلك لا يضيع وقته في الترهات. يكتب ويكتب . ومن ثم ؛ تثمر قريحته إبداعًا متميزًا .
تلتمع عيناه بالدمع ؛ حينما تهل الإسكندرية ، بعبقها الآسر في برنامج تليفزيوني أو صورة مطبوعة بمجلة .
أرقبه ، ولا أستطيع أن أعلق ؛ لعلمي المسبق ؛ بما يكنه ، لمدينته الأثيرة . ومن هنا ، لم تكن روايته الجديدة : مواسم للحنين ؛ مفاجئة بقدر تأكيدها – الواضح – بمنزلة الإسكندرية في حبة قلب الروائي المبدع محمد جبريل .
الراوي ، يحن إلى مدينة الإسكندرية ،وذكريات الطفولة ، وإلى أحياء بلده المحبوب ، وشوارعها ، المنقوشة في أعماق قلبه ونفسه ، والتي تركها في سنين الغربة ، والانشغال بالعمل في القاهرة . وعاد لها ، بعد أن خرج على المعاش المبكر.. " دفعني الحنين إلى السير بلا هدف أحيانًا ، مجرد السير ، والمشاهدة ، والتأمل ، ومحاولات الاستعادة . يساعدني أن غيبتي عن الإسكندرية لم تكن متصلة ، أسافر وأعود ، أتعرف إلى الجديد بالعين المتابعة . تشاغلت بالبحث عن الأشخاص الذين أعرفهم ، أو أتذكر سحنهم ، حتى لو لم تقم بينهم وبيني علاقة ما ، شوارع وحواري وأزقة ومقاهي وحدائق ومساجد وشرفات ودكاكين ... "
يجد أن المعالم تغيرت ؛ يبحث عن الماضي ؛ الذي يهفو له ؛ بعذوبته وتفاصيله المرسومة في ذاكرته .... " لم تعد الإسكندرية هي المدينة التي رحلت عنها قبل أربعين سنة ، لا أشير إلى أفضل ولا إلى أسوأ ، لكنها لم تعد المدينة التي أعرفها . تبدل الكثير من القسمات والملامح . أزيلت بنايات . حلت في مواضعها بنايات أخرى . الكردونات الحديدية في امتداد الطريق إلى سراي التين ، البنايات الخرسانية في قلب ميدان أبي العباس ، البناية الزجاجية الهائلة في ميدان المنشية ، مبنى التليفونات الجديد في ناصية سعد زغلول .. "
الغربة والوحشة ؛ تملأ جوانح الراوي... " يؤلمني الشعور بالغربة وعدم التواصل . لا أحد ولا شيء يملأ نفسي . لا أتصور أني أقضي ما تبقى من العمر في الانتظار ما لا أعرفه ، ما تغيب ملامحه. المرء يعيش وحيدًا . قد ينسى وحدته بين الناس ، ثم ينتبه لها بعد أن يتقدم العمر ... ما معنى أن يمضي الإنسان عمرًا بكامله ، وهو يعد ، ويرتب ، وينظم ، ويجمل ، ويضيف ، ويحذف ، ثم يخلف ذلك كله ، ويرحل ... أعاني الغربة والوحشة ، كأن الإسكندرية ليسن مدينتي . ليست المدينة التي ولدت فيها ، ونشأت ، وأمضيت أعوامًا طويلة من حياتي ، أصادق أناسًا لا اعرفهم ولا يعرفونني . حاولت أن أفتش في الذاكرة عن شيء مفتقد . لا تسعفني الذاكرة ، ولا أجد شيئًا....."
يحن إلى شقته القديمة ؛ يشتم رائحة ذكرياتها ... " استعدت الرائحة الخاصة ، القديمة ، التي كنت أشمها في هذا البيت وحده ، ليست رائحة بالذات ، ولا أستطيع أن أنسبها إلى شيء محدد ، لكنها ظلت رائحة مميزة تعاودني في تنقلي بين المدن والأماكن . تفاجئني بما يعيدني إلى البيت ذي الباب الخشبي ، المزين بالمسامير المصنوعة من النحاس الأحمر ، والسلالم الرخامية الضيقة .... "
حنينه إلى الماضي - الجميل - يجعله ، يبحث عن الأماكن ، الأشخاص ، أو أي شيء ، يعيده إلى ذكرياته ، يهفو إلى هذا الرجل ، الذي يمشي هائمًا ، يرتدي ملابسه الأنيقة الكاملة ، ولا يستغني عن رباط العنق في صيف والشتاء .يلمحه ، لكن الزمن ، يصنع صنيعه في تغيير ملامحه - القديمة - ، يتابعه ، ويرقبه في تنقله من مكان إلى مكان ..." انبثقت الصورة القديمة ، شاحبة في البداية ، ثم زالت غلالات فبدت الصورة واضحة ، وإن أحاطت بها التجاعيد التي تعكس الشيخوخة : العينان الباهتتان ، الشعر الأشيب ، المتطاير ، البشرة الزيتونية ربما من تأثير أشعة الشمس الشفتان المنفرجتان عن ابتسامة بلا معنى ، النداء الذي يعاني الخفوت : النصر ... "
الشخصيات محدودة في الرواية ، لكنها مرسومة بدقة من الداخل والخارج . لا تشعر بثمة نتوءات ؛ وكأن الرواية دفقة شعورية واحدة ، لم يتوقف قلم الكاتب إلا عندما انتهى من الكلمة الأخيرة .
إنه فضاء من الحنين يغزله الكاتب المبدع ؛ عابق بالظلال والتفاصيل ؛ ينساب إلى النفس والعقل ؛ بلغة - متدفقة سلسلة - يسربلها الشجن . تصيبنا بحالة من السحر والانتشاء .
لا نملك سوى أن نتأمل سبحاته في المشاعر الإنسانية ؛ والتي نجح في صياغتها ببراعة واقتدار في رواية عذبة شجية . خليقة بالقراءة والتأمل .