الأربعاء ١٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
ترى ماذا نستطيع أن نفعل لكي... يزداد عدد سارقي الكتب في بلادنا؟!
بقلم جمانة حداد

مذكّرة بحث عن سارق

"تخيّل العالم في سكونٍ تام. لا ضجيج. لا ترويج. لا حكي عن، بل "الشيء" نفسه: الكتاب عارياً. الكتاب فجأة على حافة جدار، تلتقيه عصر يوم نزهةٍ في ضباب. وحده. وحدك. صمته. صمتك. بلا تمهيد. كلقاء مجهولين سيصبحان حبيبين أو عدوّين".
أنسي الحاج

أبلغ دليل على اندلاع قصّة غرام بيني وبين كتابٍ ما هو، على غرار ما يحصل في قصص الحبّ "الإنسانية"، غرقي فيه وهجسي به واشتهائي له وعجزي عن إفلاته من يديّ وعقلي ووجداني، وانشغالي به عن كل ما عداه تقريبا. ويرجع جزء كبير من جمال هذا الافتتان الى كونه نادر الحصول، تماما كالحبّ.

إذا كنتُ أصف عناصر هذا الانسحار اليوم تحديداً، فلكي أمهّد لسرد حادثة مرتبطة بالكتب جرت معي اخيراً، ولم انفك اهجس بها منذ تلك اللحظة: ففي أحد ايام الأسبوع الماضي، وبعد جولة طويلة ومتعبة لإتمام عدد من المهام واقتناء بعض المشتريات الضرورية، بما فيها "تحويجة" من الاصدارات الجديدة، عربية واجنبية، من إحدى المكتبات، جلستُ ارتاح قليلاً في مقهى، في مجمّع تجاري في عاصمتنا. ثم، بعد نصف ساعة من "الهدنة"، قمتُ ورحلتُ عن المكان، حاملةً اكياساً وأكياساً. لكن، ما ان وصلتُ الى البيت حتى انتبهتُ الى اني نسيت جزءاً من أغراضي في المقهى، وما كانت تلك الأغراض سوى بعضٍ من اعزّ ما اقتنيته في ذلك النهار: أي الكتب.

سريعاً عدتُ أدراجي من منزلي في جونيه الى بيروت، متمسكةً ببصيص امل في أن أجد ما فقدته. بين ذهابي وإيابي، كانت انقضت ثلاث ساعات كاملة. ثلاث ساعات كنت شبه متأكدة خلالها اني راجعة الى المقهى سدى، لأنه لا بدّ أن يكون احدهم قد استولى على كيسي الثمين ذاك. لكن، يا للمفاجأة! ما ان وصلت حتى رأيت الكيس البلاستيكي الأصفر إياه ينتظرني في مكانه. كانت به حال من الفوضى، كأن أحدهم فتّش في محتواه، لكن شيئاً لم ينقص منه. لا شيء على الاطلاق. الكتب كلها كانت هناك، تائقة الى لهفة يديّ وعينيّ.

للوهلة الأولى فرحت طبعاً أيما فرح لأني لم أخسر شيئا من غنائمي. لكن فرحي هذا سرعان ما تحوّل خيبة، راحت تزداد وتيرتها ومرارتها تدريجاً في طريق أوبتي الى البيت، حتى صارت أخيراً موجة غضب عارمة: تخيّلتُ الناس يمرّون أمام كيس الكتب ويحيدون بأنظارهم عنه لامبالين. تخيّلتُ تينك اليدين اللتين بحثتا داخله ثم أنفتا أن تأخذا منه شيئا. "ماذا؟"، فكّرت، "ألا تستحق الكتب أن تُسرَق؟! هل يعقل ألا يقترف أحدهم خطيئة "اشتهاء" كتب غيره؟ وماذا لو كان في هذا الكيس مجموعة اسطوانات من أغاني الفرفشة الرائجة الآن؟ ما كانت حظوظ ايجادي لها سالمة آنذاك؟".

أعادتني هذه الحادثة المضحكة المبكية الى حال الكتب التعيسة في بلادنا. حالٌ لا تقع فيها المسؤولية على الكاتب، أو على الأصح ليس على الكاتب وحده، بل أيضا وخصوصا على عاتق المؤسسات الثقافية والتربوية، الرسمية والخاصة، التي تكاد تتجاهل كل الكتب المندرجة خارج إطار متطلبات المنهج التعليمي، كما تقع على الازمة الفعلية المتمثلة في الهوة بين الكاتب والجمهور الواسع، والتي تجعل الكتاب في غربة عن المجتمع. قد لا تكون هذه المسألة بالغة الحدة في المجتمعات الغربية، وقد لا يشعر بهولها الكتّاب العرب الذين يكتبون بلغات اجنبية، الا انها تدرك عمقها في بلداننا العربية لتكشف عن شروخ وقطيعة شبه مطلقة بين الكتب وجمهور القرّاء.
لا مؤسسة الدولة، ولا مؤسسات التربية والتعليم، ولا وسائل الاعلام، تعير هذه القضية اهتمامها، لذا ينحصر قراء الكتب غالباً بالكتّاب انفسهم. اما اذا كانت الظروف متسامحة، فإن الجمهور يتعدى هذا النطاق الضيق الى قراء فرديين اتاحت لهم تنشئتهم الاهلية ان ينفتحوا على عالم الكتاب والكتابة.

عندما حدث معي ما حدث، تذكّرت رحلتي الحديثة العهد الى العاصمة الفرنسية، حيث قصدت على عادتي مجموعة من مكتباتي الأثيرة، ومعي لائحة طويلة من الكتب الشعرية التي احتاجها وبات معظمها غير متوافر بسهولة. تذكّرت الآنسة آني، من قسم الشعر في مكتبة الـ"فناك" في "الشاتليه"، والسيدة جاكلين، من مكتبة "لاهون" على بولفار السان جيرمان، اللتين تفانتا في سبيل مساعدتي للعثور على العناوين التي أنشدها، بفرح وشغف وبحماسة صادقة، تبيّن مدى عشقهما للكتب ولمهنتهما. لا بل خضنا معاً نقاشا طويلا حول الشعر والأدب، أظهر لي انهما ليستا "بائعتي" كتب، بل أكثر من ذلك بكثير. حتى أن آني ذهبت حد القول لي: "كم انا سعيدة لأني أتيت الى عملي اليوم. أشعر أن نهاري لم يذهب إهداراً لأني ساعدتك في ايجاد هذه الكتب". كلام صاعق ومؤثر كهذا، يكفي ليشعر متلقيه بأن الكتاب في فرنسا مقدّس، ليس في المعنى الاخلاقي، لكن من حيث كونه كتاباً. طبعاً، ليس في هذا الكلام أيّ طوباوية، إذ ثمة دائماً ما يكسر القاعدة وما يؤكد العكس. لكن كلاماً صاعقاً ومؤثراً كهذا يكفي، أقول، ليقيم سامعه مقارنة بين أحوال الكتب هناك وهنا. لم يسعني إلا ان "أتذكّر" الازدراء الذي يعيشه الكتاب في العالم العربي، متروكاً الى أقداره او الى الظروف التي قد توفّر له سبل الوصول الى برّ القارىء الأمين. وانتابني شعور مزدوج بالألم والنقص، مشفوع بالتحدي والأمل في كسر هذا الواقع المهين.

بعد حادثة فقداني – أو عدم فقداني - تلك الكتب في بيروت، وعشية معرض الكتاب الدولي الذي سينطلق في التاسع من الشهر المقبل، أشعر أنه ينبغي لي أن أسأل: ماذا يستطيع كل واحد منّا أن يقدّم للكتاب العربي من مفاتيح ينبغي استخدامها لتأسيس علاقة سليمة ومتوازنة تتيح لهذا الكتاب أوسع درجات الانتشار التي يستحق؟

ترى ماذا نستطيع أن نفعل لكي... يزداد عدد سارقي الكتب في بلادنا؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى