مقهى الغرباء
منذ التقينا قبل أربع سنوات ونحن متفقان في كل شيء ومختلفان على كل شيء.
يدعي أننا أصدقاء، وكنت أؤكد له بأننا لسنا سوى وجهتي نظر مختلفتان
يصرَ بأننا وجهين لعملة واحد وأنا مصَرٌ حتى اللحظة بأننا ورقتي نقد مختلفتين، تحمل كل واحدة قيمة مختلفة عن الأخرى بيعتا في السوق السوداء.
لقاؤنا الأول كان يحمل صفات مشتركة من حيث مواصفات المكان الذي أحببنا أن نجلس فيه كل على حدا ودون موعد مسبق.
فقد كان يفضل المكان الرخيص غير الهادئ والذي يعج بتجار العملة والمخبرين والعمال والعاطلين عن العمل والمتقاعدين، وأنا كذلك كنت أحب كل تلك الأشياء في المكان الذي أجلس فيه بالإضافة للشاي الأسود اللون من تكرار عملية غَليه حين يبيت ليلة سبقت حضورنا المقهى.
لماذا كنا نلتقي في نفس المكان ؟ حتى هذه اللحظة لا اعرف إجابة دقيقة لهذا السؤال، لكن ما اعرفه أننا كنا نلتقي دون أن يعرف احدنا الأخر ونجلس في مكانين مختلفين متقابلين ويحتل كل منا زاوية كالزواحف المتسلقة للجدران، نتقرب دوما لمصدر الرطوبة.
كان يؤمن دوماً بعكس الثابت أصلاً ولهذا كنا نختلف، فكوني قانوني يفترض بي أن ألتزم بالقواعد القانونية، أما هو كونه لم يدرس أصلاً لسوء الأوضاع المادية لديه فلم يكن لديه ضابط يلزمه بطريقة تفكير محددة، مع العلم بأنه لو امتلك على الأقل نصف إمكانياتي المادية فأنا على يقين أنه كان سيدرس ربما علم النفس أو الاجتماع لأن مثل هذه العلوم دوماً تحتاج لنظريات غريبة كالتي يطلقها هو على الأشياء فتغدو بعد فترة وجيزة من التجربة حقائق ملموسة قد تنبأ فيها كالراصد الجوي.
كان يرفض أن أقول له بأن الأصل في الإنسان أن يكون حَسن النية وأن المواطن يولد بريء الذمة حتى يصل السن القانونية، ويقول لي : بأن هذه القاعدة القانونية خاطئة تماماً لان المواطن العربي يولد مُدان بوصايا الشهداء وعليه أن يوفي دينه لهم، لذلك فالفرد العربي لا يولد بريء الذمة أبداً إنما قد يموت بريء الذمة، وكذلك فإن السلطة التنفيذية تفترض فينا دوما سوء النية فتبعث من يدقق في بطاقاتنا الشخصية في كل مكان.
وحين أقول له : أننا يجب أن نفترض دوما حسن النية في الآخرين، كان أيضاً يحتج ويقول أنه منذ ولادته وأبناء عمومته يفترضون في أمريكا سوء النية حتى لو قدمت للمنكوبين في أسيا أو المجاعات في أفريقيا أطنان من المواد الغذائية فلا بد أن لها هدف إمبريالي يقف وراء هذه الأكياس التي كتب عليها جميعها "ليست للبيع ... مساعدة إنسانية من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية" ويقول أن الحقيقة بأن أمريكا منذ نشأتها على أنقاض الهنود الحمر لا تقدم مساعدات للإنسانية دون مقابل من دم الشعوب المنكوبة.
منذ عرفته وهو مُدانٌ لأكثر من جهة أمنية، ومطلوبٌ القبضَ عليه في أكثر من إقليمِ مستقلِ وغير مستقل، فهو دائما مثير للقلاقل ويرفض أي حل سلمي حتى لو كان في صالح الطرف الأضعف، وحجته بأن الحل السلمي مهما كان عادلاً لن يكون بريئاً من تهمة المنّة والمنحة من الطرف الأقوى، الحل السلمي بنظره نهاية النضال الحقيقي.
هارب من عدة أحكام بالسجن المؤبد وبعضها يصل للإعدام، فهو إرهابي بامتياز كما يصفونه، ومخرب من الطراز الأول، ودوما يسعى لتهديد الصمت العام، ويثير الشغب في الأماكن العامة ويكره التظاهرات المرخصة من الدولة، ويهدد دوماً حتى دون أن يقول شيئاً، ويعلن في صمته التهديد.
أعلنت إحدى الدول ذات مرة عن جائزة مالية لمن يسلمه لها، فقرر أن لا يكون لأحد هذا الشرف العظيم بالمساهمة في إلقاء القبض على مجرم خطير يهدد الصمت العام سواه، فسلم نفسه للسلطات ووكل محامياً مفصولاً من النقابة لأسباب سياسية ليطالب له ببدل الجائزة المعلن عنها.
اليوم كل الدول تبحث عنه وتجري اتصالات خارجية وداخلية بحثا عمن يدلي بأي معلومة عنه، وبين الحين والأخر تصل لدوائر المخابرات العديد من الاتصالات التي حولت مقاسمَ الأجهزة الأمنية إلى برنامج ما يطلب المستمعون، تفيد بأن أحدهم شاهده يقطع شجرة على الحدود بين دولتين خوفاً من وقوع نزاع مسلح، بينما رآه آخرون في إحدى بارات بيروت يحتسي الشمبانيا مع إحدى صديقاته، على العلم بأنه لا يفرق بين طعم مساحيق الغسيل وطعم الكحول وكأنه مصاب بالزكام منذ ولادته.
رآه ثالثٌ يتسكع في شوارع لندن مرحباً بالحرية على الرغم من أنه لا يملك جواز سفر، ومنذ ولادته حتى الآن لم يحاول حتى أن يستصدر شهادة ميلاد ليغادر البلاد لأنه يعتبر الوطن شهادة ميلاده الحية.
إلا أنني على ثقة تامة بأن كل هذه المعلومات كاذبة ولا أساس لها من الصحة فهو قد توفي منذ أيام متأثراً بجراح الأمة العربية، بعد أن قرر أن يشرب لتراً كاملاً من الكاز احتجاجاً على رفع سعر برميل النفط في الدول المنتجة للنفط، حتى وصل سعر البرميل الواحد أكثر من سعر مائتي رغيف خبز، وألقى بنفسه في بئر بستان جده القديم كي لا يجده أحدٌ فيدلي بمعلومات صحيحة للسلطات حول وفاته فينال جائزة الإدلاء بمعلومات مؤكدة وترتاح السلطات من مطاردته.
وحتى هذه اللحظة ليس لدي أي معلومات مؤكدة بأننا كنا فعلاً صديقين، سوى أننا التقينا ذات مرة في ذات المقهى