من كتاب (خمّارة البلد)
من كتاب (خمّارة البلد) للأديب سلمان ناطور قصص كاريكاتيرات خاصة لناجي العلي: هيام مصطفى قبلان
بين منفى ومنفى وخمارة البلد التقى مبدعان، واحد حمل ريشته وراح يخربش العالم ،والثاني يكتب بقلمه عن ذاكرة وطن وذاكرة انسان.
بين غربة حالم وبين كأس اجتمع عاشقان لوطن واحد ، ومن خلال صور كاريكاتيرية خاصة لناجي العلي تجاوز الأديب سلمان ناطور في كتابه خمارة البلد حلم المنافي وفسحة الأمل، في لقاء سريع عبر خط الهاتف ولمرة واحدة مع حامل الريشة ناجي العلي كان يفصل بينهما خط الهاتف الممتد تحت البحار من حيفا الى لندن، انقطع الخط وتساءل سلمان :ربما عاملة البدّالة الدولية تنصت الى كلامنا ،لم يجب على سؤال ناجي كيف حال ( السّجرة) ؟ اتفقا أن تكون مجموعة سلمان الجديدة أحمد الحاضر في الوطن، حنظلة المغترب ، فاطمة في المخيم ورابعة بنت عبد القادر، كلّ هذا وناجي وسلمان يعيشان حالة من الخيال والتحليق العبثيّ والسخرية المميتة ، وفي قلب كلّ واحد حنين وشوق ملتهب وغضب..!
استمر ناجي بالرسم والحلم ، بماذا كان يحلم هذا المغترب الذي يدعى ناجي العلي ؟هل كان يحق له أن يحلم ؟ اذن لماذا قتل تساءل سلمان.
هذه الجزئية من الحلم المنزوعة من (فسحة الأمل)وكأنّ المعركة في عبثية الأحلام مبنيّة فقط على فسحة من أمل، هي شيفرة اذن ،هي اللغة الواحدة بين المغترب في الوطن والمغترب في المنفى،غربة الذات وغربة الروح،غربة المكان والدخول في حالة من التأمّل ،قد يعتقد البعض أن الغربة هي فقط الانسلاخ عن المكان عن الأرض وعن البيت وعن العائلة بينما تكون الذات في حالة من التشظي والاغتراب داخل الوطن فهل من الممكن أن تغيّر فسحة الأمل الواقع بكل ما فيه من ألم وضياع؟
في قصة سلمان التي حمّلها عنوان: حمل ريشته وراح يخربش العالم ، أكتب ما تشاء وأنا أرسم ما أشاء،يلتقي فيها وطنان حين سأل ناجي العلي عن ( السّجرة) قرية ناجي العلي والتي تقع على تلة متوسطة الارتفاع الى الجنوب الغربي من مدينة طبرية وتحيط بها قرى لوبيا وطرعان ومجموعة من الخرب فيها معالم أثرية وتاريخية ومن أبرز أحداثها معركة الشجرة التي استشهد فيها القائد عبد الرحيم محمود عام 1948، تحيط بالشجرة حطين وكفر كما وكفر كنا وعرب صبيح اضافة الى مستعمرة السجرة اليهودية " بالسين"حيث تمّ هدم القرية وتشريد أهلها وتوزّع اللاجئون على مناطق حمص ودرعا ولبنان والأردن، وناجي العلي هجّر من القرية عام 1948 بعمر عشر سنوات الى مخيم عين الحلوة في لبنان، وبدأ بالرسم على جدران المخيم والحفر بالطباشير .
سؤال ناجي لسلمان عن قريته كان يبحث عن طفولته الضائعة التي فقدها والتي زارته في أحلامه وهي كما يقول سلمان : لا تبعد عنّا أكثر من ساعة ليست ضوئية بل تثبّتها عقارب (السايكو) اليابانية العازلة للماء والمقاومة للصدمات.
بماذا كان سيجيبه سلمان لو تواصل الخط بينهما هل سيزرع في نفسه الأمل ويجبر بخاطره وبأنّ (السجرة) بخير وكل شيء على ما يرام؟ مثلما تركها ،، تلك القرية المهجورة المنتظرة على تلال الوعد عودة أهل القرية الى بيوتهم والتي تركها ناجي طفلا صغيرا تجاوز العاشرة فقط، ماذا سيقول له وهو يدرك أنّ خمارة البلد سيأتي يوم وتغلق، هل كان أبو نواس سيقيم فيها طويلا بعد أن (عاج الشقيّ على رسم يسائله)؟ وما معنى أن يختزن في ذاكرة ناطور بيت الشعر لأبي نواس الملقب بشاعر الخمرة وعلاقته بخمارة البلد التي ضمّت الصعاليك والفقراء والهاربين من الواقع ؟ ففي مفهوم النّواس الخمرة تبعد الشاعر عن البكاء والخمرة تفرّق بين الروح والجسد، أي ينسى شاربها الواقع وتأخذه الى التأمّل في الكون بعيدا عن المشاكل والاحساس بالوجع، بعيدا عن واقع لا حلّ له، ومن الشقي هنا غير الشاعر الذي يبكي على الأطلال التي هجرها؟ فيتوارد الى الذهن بيت لامرىء القيس (اليوم خمر وغدا أمر) والسؤال هل بقي من الأمر الاّ صيغة الفعل وأمر السلطان لجلاده أن ينزل على ظهر الفقير الصعلوك خمس جلدات أو بأن يأمر بمكافأة مرتزقة ؟ هذا هو الحال يا ناجي العلي ، الأمر والنهي ربما يشكّلان الحد الفاصل بين الاّمر والمأمور والظالم والمظلوم والسيّد والعبد.
هذه الاشراقات المجنّحة لكلّ من صديقين لم يلتقيا بل سخرا من واقع دفعهما للكتابة والرسم، سخرية مشبعة بالغضب تحفّها ومضات ضاحكة قليلة تترك على المحيا رائحة صفراء بلون الحلم العابث ربما يقلب الأمور أو يغيّر شكلها ولونها وتبقى خمارة البلدة يجلس فيها صديق فقير هو نفسه الصعلوك الذي صوّره ناجي العلي على صفحات ( المهماز) يرفع كأسا ويهمس : اليوم خمر وغدا أمر، لم يكن يعرف هذا المسكين أن اليوم الضوئيّ أطول بكثير من عشية وضحاها، وحين علم أمرؤ القيس بمقتل والده قال بعد فراغه من اللهو: ضيّعني صغيرا، وحمّلني دمه كبيرا، لا صحو اليوم ولا سكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر، وفي الخمارة يكتب سلمان ما يشاء ويرسم ناجي العلي لها ما يشاء هي حالة من التحليق العبثيّ بروح تحترق تنفصل عن الجسد بلحظات مسروقة من واقع تكالبت عليه الكوارث وامتدت اليه الايادي لتلوي عنق ليله.
كلّ شيء الآن تغيّر وكبر، الاّ ناجي العلي ظلّ طفلا تجاوز العاشرة فقط، حاملا ريشته وقلمه يخربش العالم كما تحمل قصفة ( التين)، يخربش على التراب ويرسم أحلام طفولته مع أصدقائه الذين حين كانوا يشاغبون يأمروهم ( روحوا انطروا التينات)،، أليست هذه مهمة أيضا ، حماية التينة أو نواطير التينات الذين حملوا الرسالة من منفى الى منفى لكن ليس من تينة الى تينة.؟
أوجعتنا يا صديقنا الراحل الأديب سلمان ناطور ، في نصّك لست ناطور الذاكرة فقط بل ( الناطور) لبيوت من كومة حجارة وأشواك عالقة على سطوح المنازل وبأنّ ما بقي من سؤال ناجي العلي عن قريته ( السجرة) هو أصدق شهادة على همجية تنبت من تحت سياطها تينة ما زالت تورق وتحمل وتحمل ..!