«نشيد الإنشاد» الذي لـ يحيى السماوي
كان سليمان الحكيم يعاني من ظمأ روحيّ لم تشبعْهُ خزائن الذهب والجواهر، ولا المقاصير المشحونة بأجسادِ الجواري الجميلات التي زخرت بها، أو حوتها مملكته الواسعة، لأنَّ ظمأه الروحي لا تُطفئه أو تخمده خزائن المال، ولا أجساد الغواني، إنّما تطفئه الفضيلة التي افتقدها عند جواريه ونسائه.
ومع إدراكه أنّه يحملُ الموت في داخله (بوصفه إنساناً) فإنّه لم يكن راغباً في أن يكون "رواقيّاً " على نحوِ ما كان عليه والده "داود"، إنّما رغبَ في أن يكون" أبيقوريّاً "، فانساق وراء عواطفه الحسيّة مطلقاً لغرائزه العنان.
لكنّه مع ذلك ظلَّ قلقاً يشعرُ بحاجتِه إلى نوعٍ من الجمال الحقيقيّ الذي يرضي خياله، ويحقّقُ له مبتغاه النفسي، ويشبع روحه وجسده معاً، لهذا ظلّت المرأة الفاضلة المترفّعة التي افتقدها عند جواريه تعيش في تجاويف عقله وقلبه، وحين وجد أنَّ تلك المواصفات قد تكاملت في "شولميث" بوصفها رمزاً بيّناً للجمال المترفّعِ، ظنَّ أنَّه أدركَ الهدف الذي سعى إليه، لكنّه سرعان ما أحسَّ بالإحباط حين رفضته ضاربةً بخزائنهِ عُرْضَ الحائط، مفضّلةً عليه رجلاً آخر، فما كان من ذاته الشاعرة وهي الحكيمة إلآ أن تصوغ معاناتها في "نشيد الإنشاد" تعبيراً لا شعوريّاً عن ذلك الصراع الداخلي الذي عانته تلك الذات. فـ"شولميث" هي المرأة التي كانت تعيش في رأس سليمان دائماً، أمّا الشخص الثالث الذي كانت "شولميث" تحبّه ورفضت من أجله سليمان وخزائنه، فهو الشخص نفسه الذي أراد سليمان أن يكونه في يومٍ من الأيّام."1"
جعل سليمان محاورة "نشيد الإنشاد" تدور على لساني "شولميث" وحبيبها على نحوٍ من ولهٍ صوفيٍّ يرتفع باللفظة الدالّة إلى مصاف المجاز المحتاج إلى عين باصرة، أو مصافِ الرمز الذي يسخّر كلّ طاقاته لتحقيق تماهي جسدَيْ الحبيبينِ وروحيهما معاً، وهو ما جعلَ قرّاءً من المؤمنين بنظريّة الشكّ العلمي يرون أنَّ تلك الإصحاحات الثمانية التي وردت في العهد القديم من الكتاب المقدّس كانت خادشةً للحياء، وهي نظرة لا تخلو من سطحيّة في القراءة لافتقارها إلى العمق.
ومع أنّ تلك النظرة السطحيّة قد شاعت عند من كان جسديّاً من الناس،فإنَّ الآخرين ممن كانوا روحانيين رأوا في تلك الإصحاحات جنساً مقدّساً لا يفهمه العوام، إنّما يفهمه من يستطيع كشف حجبه،وفكّ تأويلاته، فكان أن اطّلع على النشيد وتأثّر به كثيرٌ من المبدعين لا سيّما الشعراء، ولعلّ حسين مردان(1927- 1972م) كان أسبقهم ارتهاناً به، كما وظّف هذا النشيد شاذل طاقة (1929- 1974م) في قصيدته "هموم أيّوب"، لكنَّ توظيف يوسف الصائغ (1933- 2006م) له في " انتظريني عند تخوم البحر" كان أجمل توظيفٍ،وأعلاه قيمة فنيّة، على الرغم من محاولة الصائغ التعتيم على مرجعيّة نصّه الشعري.
سقنا هذه التوطئة لنبيّن للقارئ الجاد أنَّ هذه النصوص النثريّة المجموعة الموسومة بـ"مناديل من حرير الكلمات" التي صاغ جمالها يحيى السماوي هي من النصوص التي تتغنّى بالحبّ والجمال المقدّسين على نحوِ ما تغنّت به أناشيد سليمان في القرن العاشر قبل الميلاد إذا سلّمنا جدلاً أنَّ سليمان قد ورث الحكم عن أبيه(داود) آنذاك، ومن يستقري جيّداً نصوص السماوي، ويتأمّلها بباصرته اللمّاحة سيكتشف أنّها لوحات روحيّة مضمّخة بطابعٍ فلسفيّ قريبٍ من التفكّرِ الصوفيّ في الحبّ، وكأنّه في نصوصه هذه كان يتشوّف إلى عبارة ابن عربي (ت1241م) في "التشبّهِ بالأخلاق الإلهيّة " لإدامة المحبّة والخلق والإبداع.
إنّ ما في هذه النصوص من مغايرة، وإدهاش، وابتداع في الصور الفنيّة يجعلها تستحقّ أن تُوسم بـ" مزامير العشّاق الروحيّة " التي يجب أن تكون مجرّات القلوب لها مكاناً، لتنشد للروح وهي تتسامى ارتفاعاً في محبّةِ من اختارته توأماً لها، وارتضته حبيباً تتماهى فيه جسداً وروحا.
ومع أنَّ السماوي قد عمد في هذه النصوص إلى تقنية "السرد الوصفي" في الأعم الأشمل كما في:
قـلـبـي كـالـسّـمـكـة:يـمـوتُإذا لـم يـغـرقْ بـنـهـرك!
أو كما في قوله:
جـسُـدكِأشـذى كـتُـبِ الأزهـار..أتـهـجّـاهُ بـأصـابـعـيوأشـمُّـهُ بـفـمـي
إلّا أنّه أفاد أيضاً من تقنية المحاورة كما في قوله:
قـبـل دخـولـي بـسـتـانـكِكـنـتُ:قـلـمـا ً دون مِـداد..وصـلاةً دون وضـوء..ومِـحـرابـا ً دون قِـبـلـة..حـيـاتـي قـصـيـدةٌ مـن بـيتِ شـعـر ٍ واحـدأنـتِ مـطـلـعُـهـا!
كما أنّه في لوحات أخرى مال إلى تقنية المونولوج الدرامي كما في قوله:
قـدمي طفلٌدُمـيـتُـهُ الأرصـفـة..الـقـلـمُ طـفـلٌدُمـيـتُـهُ الـورقـة..الـشّـاعـرُ طـفـلٌدُمـيـتُـهُ الـكـلـمـات..وفـمي طـفـلٌدُمـيـتُـهُ شـفـتـاك..كـيف يـشـيخُ الـكـونُ إذن؟
أمّا محاور هذه المناديل فيمكن التوقّف عند الآتي منها اختصاراً:
• الاقتباس:
وهو أن يضمّن الشاعر نصّه شيئاً من القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف، وهو على نحوينِ، إمّا على نحوٍ نصيٍّ، وإمّا على نحوٍ إشاريّ، وقد أكثر السماوي من الاقتباس الإشاري لآي الذكر الحكيم باقتدار في الإحالة، كما في قوله:
أيـن أولّـي أحـداقـيفـثـمـة ُ وجـهُـك
فهو اقتباس إشاري لقولهِ تعالى فأينما تولّوا فثمَّ وجه اللهفي الآية 115 من سورة البقرة.
وكما في قوله:
هـزّي نـخـلـةَ أبـجـديَّـتـيتـسّـاقـطْ عـلـيـكِشِـعـرا ً جَـنِـيّـا
فهو اقتباسٌ إشاريّ أيضاً لقوله تعالى:وهزّي إليكِ بجذعِ النخلةِ تُساقط ُ عليكِ رطباً جنيّا في الآية 25 من سورة مريم.
وكما في قوله:
(الـسّـاعـةُ آتـيـة ٌ لا ريـبَ فـيـهـا)سـاعـة َ أحـدو بـقـوافِـلِ سُـحِـبِـكنـحـو صـحـاراي..
فهو اقتباسٌ إشاريّ إلى قوله تعالى:إنّ الساعةَ لآتيةٌ لا ريبَ فيهافي الآية 59 من سورة غافر.
وكما في قوله:
فـأنـا شُـعَـيْـبُـك ِ..إذن فـاجـعـلـيـنـي كـلـيـمَـكِلأؤجِـرَك الـعـمـرَ كـلّـه!
فهو اقتباس إشاري لقوله تعالى:قالت إحداهما يا أبتِ استأجرْهُ إن َّ خيرَ من استأجرتَ القويّ ُ الأمينُفي الآية 26 من سورة القصص.
وكما في قوله:
أكـانـت أشـجـاري سـتُـثـقـلُ بـالـعـنـاقـيـدلـولا عـبـوديّـتـهـا لـنـهـرك؟أنـتِ أسـمـائـيَ الـحُـسـنـى!بـعـشْـبِـكسَـتَـرْتُ عـورة صـحاراي!
فهو اقتباسٌ إشاريّ إلى قوله تعالى:وللهِ الأسماءُ الحُسنى فادعوهُ بهافي الآية 180 من سورة الأعراف.
وكما في قوله:
إرفـعـي سـاقـيـكِ لأجـثـو..ألـيـسـتِ الـجـنّـةُ تـحـتَ أقـدامِـكـنّ؟خـطيـئـاتـي كـثـيـرةفـطـهّـريـنـي بـمـائِـك..
فهو اقتباسٌ إشاريّ للحديثِ النبويِّ المشهور:الجنّةُ تحتَ أقدامِ الأمّهات
فضلاً عن أنّ السماوي وظّف غار حراء، وأفاد من قول الحق:اقرأ باسم ربّك الذي خلق في الآية 1 من سورة العلق في قوله:
خِـدْرُكِ حِـرائـيفـيـهِ تـنـزَّلَ عـلـيَّ صـوفـائـيـلُهـاتـفـا ً:إعـشـقْباسـمِ نـخـلـةِ الـلـهِفـيبـسـتـانِ عـيـنـيـك!حُـبُّـكِ مُـعـجـزتـي..وكـتـابـي هـديـلـك!
ولن يعدم القارئ الفاحص غيرهذه الاقتباسات، وهي دليل أكيد على ما يتمتّع به السماوي من ثقافة دينيّة واسعة كوّنها الاكتساب المعرفي الدائم الذي ظلَّ قسيماً للموهبة ودريئة لها.
• التماهي:
وهي اللوحات التي اهتمّت بفكرة الحلول الفلسفي سواء أكان ذلك في تماهي فكر العاشقينِ في بوتقةٍ واحدة، أم كان في حلول بدنيهما في بدنٍ واحد، وهي حالة اتّحاد فلسفي يصلُ فيها العاشقان إلى درجة التماهي الروحي والجسدي معاً،كما في قول السماوي:
مـجـدُ نـقـطـتـي:
أنْ تـتـحِـدَ بـخـطِّـككـاتّـحـادِ مـاءَيْـنـا فـيحـوضِـكِ الـمُـقـدّس!أو كما في قوله:أنـا وحـدي: إثـنـان..أنـا وأنـتِ: واحـد..هـا أنـاأشـمُّ رائـحـةَ حِـنّـاءِ جـدائـلِـكوأنـتِ تـنـسـلـيـن الـسَّـعـفمُـمَـسِّـدةً جُـمّـارَ نـهـديـكبـزنـبـقِ أناملكأو كما في قوله:أنـا أســيـرُكِ؟إذنْ:أنـا حُـرٌّ!فـلا تُـطـلـقـي سـراحَ رجـولـتـيمـن مُـعـتـقـلِ أنـوثـتِـك..أو كما في قوله:الـغـدُ لـكِولي مـنـه بـعـضُـهُ..الـغـدُ ليوكـلُّـهُ لـك
ولعلّ هذا الحلول التواشجي بين الحبيبينِ بوصفهما إنسانينِ كان بفعل فكرة حلول الذات الإلهيّة بالعرفاء من المتصوّفة الإسلاميين كـ" الحلاج المذبوح سنة 922م" القائل:
أنتَ بينَ الشغافِ والقلبِ تجريمثل جري الدموعِ من أجفانيوتُحلّ ُ الضمـــــير جوفَ فؤاديكحلولِ الأرواحِ بالأبـــــــدانِ "²"
و"السهروردي المقتول سنة 1190م" الذي يشير إلى الحلّاج قائلاً:
وا رحمتـــــــا للعاشقين تكلّمواسرّ المحبّةِ والهوى فضّـــاحُبالسرِّ إن باحوا تُباحُ دماؤهــمْوكذا دماءُ العاشقـــــينَ تُباحُوإذا هُـمُ كتموا تحدّثَ عنهُــــمُعندَ الوشاةِ المدمعُ الفضّـــاحُ "³"
• تكرارالمفردة:
ونقصد به التكرار الذي تبنى عليها سلسلة من صورٍ خياليّة تتبنّى أحكاما قطعيّة في رؤية الأشياء الجميلة التي يكوّنها خيال الشاعر المتدفّق، كما في تكرار أداة الشرط "إذا " والفعل " حدثَ" في قوله:
إذا حَـدَثَ والـتـقـيـتُـكِ ذاتَ فـردوس:إحـتـرسـي مـن فـمـي عـلى شـفـتـيـكفـأنـا أخـشـى أن توشي الملائكة ُ بيفـأكـون آدمَ الـجـديـد!إذا حَـدَثَ واخـتـطـفـتُـكِ ذاتَ صـحـراءمُـوصِـدا ً عـلـيـكِ مـفـازاتـي:لا تـذعـريفـأنـا أريـدُ لـلـكـمَـأ الـبـرّيّأن يـنـمو تـحـت قـدمـيـكإذا حَـدَث ذات شـبَـقٍوأطـبـقـتُ عـلـيـكِ بـصـدري:لا تـخـافـيفالـلـؤلـؤةُ لابـدَّ لـهـا مـن صَـدَفَـة..إذا حـدث وقـشَّـرتُـكِ مـثـلَ بـرتـقـالـة:لا تـرتـبـكيفـأنـا أريد أن ألـبِـسَـك ِفـسـتـانـا ًمـن الـقـبـلاتإذا حـدث وجلـسـتُ بين يـديـكوديـعـاً مـثـلَ قِـطٍّ ألـيـف:أطـلـبي لي سـيـارة إسـعـاففـالـطـفـلُ الـذي لا يـملأ الـبـيـتَ صخـبـا ًلـيـس بـطـفـل..والـبحـرُ دون هـديـرمـسـتـنـقـعٌ شـاسـع..وكما في تكراره للفعل المضارع "تقود" أو "يقود" في قوله:الـعـصاتـقـودُ الأعـمى عـلى الـرَّصـيـف..الـسّـفـحُيـقـودُ الـينـبـوعَ نـحـو الـوادي..الـعـطـرُيـقـودُ الـفـراشـةَ نـحـو الـوردة..و قـلـمـييـقـودني إلـيـكفي شـوارع الـورقـة..
• استلهام الرموز:
تشير بعضُ لوحات هذه المجموعة إلى إفادتِها من بعضِ الرموز الملحميّة، أو الأسطوريّة، لكنَّ الشاعر لا يوردها احتفاءً بنظمِ قصصها، ولا يوظّف حركتها عينها،إنّما يغيّرُ من أدائها رمزيّاً على وفق ما تختزن ذاته الشاعرة من رؤى يقظة، أو حالمة في وعيها، ولا وعيها، فتجيء الصور مغايرة لما كانت عليه عند صانعها الأوّل، ولا يبقى منها غير الإشارة التي تركّز على إيراد الرمز ليس غير، لأنّ الحدث سيكون مغايراً، كما في استلهامه لـ" أتونابشتم" و "جلجامش" و " سيزيف " وغيرها من الرموز.
ففي إفادته أو توظيفه لـ"ملحمة جلجامش" ركّز على موضوعة استحالة الخلود، مشيراً إلى أنَّ أعشاب الخلود التي منحها "أتونابشتم" لـ"جلجامش" لم تسرقها منه الأفعى "أسد التراب" لأنَّ جلجامش نفسه هو الذي أضاعها في زحمة حبّ من التهمت قلبه، فأبقته قلِقاً وجوديّاً:
أفـعـاكِ بـريـئـةٌ مـن أعـشـابِ كـلـكـامـش..لـكـنّـهـالـيـسـتْ بـريـئـة ً مـن قـلـقـي!
كما أنَّ "سيزيف" لم يعد يحملُ صخرة العقوبة الأبديّة، لأنّه ينوء الآن بحملِ همِّ المستقبل الذي بات انتظاره أشبه بانتظار جودو:
إنّ خـطـى " سـيـزيـفَ الـجـديـد "مـحـكـومـةٌ بـحـلـم ِ غـدٍ مـرَّ سـريـعـا ًوبالأمـس الـذيلـم يـأتِ بـعـد!
وهي إفادات تشير إلى ثقافة الشاعر الموسوعيّة في أساطير وادي الرافدين، وأساطير العالم القديم.
• الابتكار في توليد الصور الفنيّة:
لا تكون الصور موحيةً إلّا إذا كانت المخيّلة المنتجة لها قادرة على الابتكار، ومن يقرأ لوحات هذه المجموعة سيكتشف أنّ الكثير من صورها تنأى عن التعبير المباشر، فهي لا تعتمد في تكويناتها على ما سبق أنّ مرَّ في تجارب شعراء آخرين، لكونها وليدة ابتكار جديد، أو غرابة في التشكيل، أو طرافة في التوليد الفنّي، فضلاً عن أنّها كانت ملائمة نفسيّاً لسياق النصِّ الموضوعي الذي أراده الشاعر.
فمن الابتكار قوله:
قـلـبـي كـالـسّـمـكـة:يـمـوتُإذا لـم يـغـرقْ بـنـهـرك!كذلك قوله:لكـثـرة تـحـديـقـي بـخـضـرة فـسـتـانِـكنـمـا العـشـبُ فيمـقـلـتيّ..والـرّبـيـعُ تـوضّـأ بـمِـدادي!ومن الغرابة في التشكيل قوله:وطني مـسـتـنـقـع؟إذنْسـأتـضـرّعُ لـلـهِ أنْ يجعـلـنيصرصارا!كذلك قوله:إذا لـم أكـن عـبـدَ هـواككـيـف سـأعـرف أنـنـيحُـرّ؟مـا الـذي يـمـلـكـهُ الـعـبـدُ الـمـمـلـوكُأمـام الـمـالـكِ الـمـعـبـود؟جـئـتـكِ:أبـيـعُـكِ عـمـريلأشـتـريـك!أمّا غرابته المدهشة في قوله:أضـلاعـيسـأسْـتـلّـهـا قـصـيـدة ً بـعـدَ قـصـيـدةلأصـنـعَ لـكِســريـرا ً مـن الـشِّـعـر..ومـلاءةًمـن حـريـر الـنـبـض!
فقد بيّنت ملاءمتها للسياق الموضوعي العام،فضلاً عن أنّ قوّة الشاعر الخالقة هي التي مكّنته من عقد تلك الصفات الخفيّة بين الأجزاء المختلفة ظاهريّا وجعلها قادرة على تجريد علاقات أساسيّة عامة.
إنّ عواطف هذه النصوص تثيرُ متلقيها باقتدار وحرفيّة فنيّة عالية، وتجعله ملتصقاً بها، أو تجذبه نحوها، لتبقيه أطول ممدّة ممكنة معها، لكونها عواطف قويّة ليست ضعيفة سرعان ما تتلاشى بعد التلقّي، لأنّ السماوي ماهرٌ في صياغة النسيج، يعجنُ اللغة عجناً بدراية وتمكّن فاعلينِ، ليصوغَ منها أرغفة الجمال والمغايرة،ويصنع الجوهري المطلوب في الإثارة، كما في قوله:
جَـنّـةٌ بـعـد أخـرىتـتـكـشّـفٌ لـيوأنـا أشــمُّـكِ مـثـلَ زنـبـقـةٍوأقـشِّـرُكِ كـبـرتـقـالـةلأحـصـي مـسـامـاتِـكِ بـالـقـبـلات!
لكلّ ما تقدّم من ابتداع وإدهاش،وإثارة في هذه المجموعة، فإنّنا لا نتردّد في وسمها بـ" نشيد الإنشاد " الذي لـ "يحيى السماوي " لتكون مزاميرَ للعشّاق الروحانيين في زمننا الراهن هذا الذي فقدت فيه المحبّة عذريّتها، وليس هذا بالكثير على نابغة يساهم في صنع الجمال ليجعلَ الحياةَ مستساغة.
هوامش
* المقال هو مقدمة الديوان الجديد للشاعر يحيى السماوي والذي صدر هذا الأسبوع ضمن منشورات دار التكوين الدمشقية.
(1) يُنظر:حسين مردان "نشيد الإنشاد- نثر مركّز" ص: 5-7، بغداد 1955م.
(2) و(3) الأبيات بدلالة د. كامل مصطفى الشيبي " صفحات مكثّفة من تاريخ التصوّف الإسلامي": 146، و152، دار المناهل، بيروت 1997م.
(4) يُنظر: روز غريب " تمهيد في النقد الأدبي" 86، دار المكشوف، بيروت 1971م.