

نورس
لم تكن المدينة نائمة، لكنها لم تكن مستيقظة أيضًا.
كأنها عُلقت بين رمشين، بين غفوةِ مَن تعب الترقب، وقلقِ مَن لا يجرؤ على إغماض عينه.
في زقاقٍ شاحب و تحت سقفٍ مشقوق، يُسمع خرير ماءٍ لا يُرى مصدره، كأن الجدران تبكي بصوتٍ مكتوم.
كل شيء هناك ينتظر:
الجدران تنتظر القذيفة.
الأبواب تحتسبُ الرَّجّة.
والأمهات… ينتظرن ما لا يمكن أن يُقال.
في ظل هذا الركود، وُلد نورس.
لم يكن الأوسم ولا الأذكى، لكنه الوحيد الذي لم يُجب حين سُئل ذات درسٍ:
"لماذا نصمد؟"
رفع يده، ثم أنزلها. نظر إلى المعلمة وقال:
لا أعلم… ربما لأننا لا نملك مكانًا نذهب إليه؟
ضحك الصف. لكن ضحكة المعلمة كانت مكسورة.
قالت: نحن لا نصمد لأننا محاصرون، بل لأننا… أصحاب قضية.
لكنه لم يكن يملك الجرأة ليقول:
"وهل اخترناها… أم وُلدنا فيها؟"
ذات مساءٍ، بينما كانت الشمس تتراجع ببطء كأنها تخجل من عجزها عن مساعدة المدينة، جلس نورس قرب السور المُنهار للمدرسة القديمة. كان معه دفترٌ بالٍ وورقة واحدة لم تُلطّخها الرطوبة بعد. كتب في أعلاها:
"إذا كانت المقاومة قرارًا، فمتى نعيد اختياره؟"
سمع نورس صوتًا خفيضًا خلفه:
– أتكتب الشعر؟
– لا… أكتب سؤالًا فقط.
– الأسوأ من الجواب هو الخطأ… وأن نُولد على إجابة لم نُسأل عنها أصلًا.
التفت نورس، فوجد الشيخ عمران، العجوز الوحيد الذي يقرأ دون نظارات، ويصمت كثيرًا كأن الكلام يُكلفه شيئًا من عمره.
جلس الشيخ جواره دون استئذان، تأمّل الورقة ثم قال:
– كنتُ في العشرين حين أُغلق آخر مخرج من المدينة.
ظننا أن الجدران ستحمينا… لكنها صارت قبورًا مُنتصبة.
كلُّ جدارٍ تُقيمه لتمنع موتك، يصير قفصًا إن أطلت المُكث فيه.
– ولماذا لم تخرجوا؟
– من حاول مناّ… لم يعُد. ومنذ ذلك اليوم، أصبح الصمت سياسة.
صمت نورس صمت المتردد. ثم تمتم:
– أريد أن أعرف… هل ما نفعله مقاومة فعلاً؟
أم هو فقط… عادة؟
هل نحن نُفكر… أم نحمل إرثًا لا نجرؤ على مراجعته؟
أومأ الشيخ ببطء، ثم قال:
– لا أحد يجرؤ على مراجعة التضحية… لأنها مُقدّسة.
لكن المقدّسات يا نورس، إن لم تكن من اختيارك، فهي عبودية.
مضى نورس عائدًا إلى بيته بعد غيابٍ طال أكثر مما توقّعه. كانت خطواته مثقلةً، لكن شيئًا ما استوقفه هذه المرة.
خلف أكوام من الطين الجاف، لَمح بابًا خشبيًّا صغيرًا، بالكاد يُرى في العتمة.
لم يذكر أنه رآه من قبل. كان الباب مختلفًا، وقد بدا عليه القِدم والاهتراء وتتوسطه دائرة محفورة بإتقان، كأنها جزء من قفل قديم أو صُممت لأغراض لم يعد أحد يذكرها.
مدّ يده نحوه بتردد، ثم أرجف .
قال في نفسه: "سأفحصه غدًا."
رغم إدراكه في أعماقه أن الغد لا يأتي لكل من يأمله.
في اليوم التالي، لم يذهب نورس إلى المدرسة، ولم يكتب شيئًا في دفتره.
بل عاد إلى نفس الزقاق. إلى الباب الخشبي الذي لم يره من قبل.
كان كل شيء كما هو…
إلا أن أحدهم – أو شيئًا ما – قد أزاح الطين المتراكم بمحاذاة الباب.
كأن المدينة نفسها بدأت تشكّ.
اقترب. مرّر يده على الخشب الخشن.
ثم وضع عليه أذنه…
لا صوت.
لكن الرهبة وحدها كانت كافية لأن تجعل قلبه يطرق الباب بدلًا من يده.
دفعه ببطء… فانفتح.
وراءه نفقٌ ضيّق، مظلم، تنبعث منه رائحة النسيان.
تردد ثم دخل...
لم يكن النفق طويلًا، لكنه بدا كأنه ينسلُّ من عتمةٍ نحو احتمالٍ مختلف .
على جدرانه كانت هناك كتابات باهتة، شعارات قديمة، كلمات شجاعة كُتبت بأيدٍ مرتجفة.
"الحرية لا تقتضي طرقا معبّدة."
"لم نُولد في السجن، لكننا كبرنا فيه."
"الموت لا يُخيف… النسيان العدو هو."
عند نهاية النفق، وجد سلّمًا معدنيًا صدِئًا ينحو إلى الأعلى.
تسلقه… حتى وصل إلى فتحة دائرية، تُشبه غطاء البئر.
دفعها بحذر…
فانفتح الغطاء على سطحٍ آخر… هواء آخر…
سماءٌ بدون أصوات الطائرات.
مدينة… ليست كمدينته.
وقف هناك. لا صوت ولا أحد.
لكن حين تمعّن حوله، لمح طفلًا يجلس على حافة الطريق، ممسكًا بصورة ممزقة.
سأله نورس:
– من أنت؟
قال الطفل:
– أنا من بقي حيًا بعد آخر محاولة …وأسرها في نفسه لكن المعنى أوضح من أن يُقال.
ثم أضاف:
– أبي قال لي لا تثق بالأبطال، فهم يموتون قبل أن يشرحوا ما كانوا يفعلونه.
نورس (بدهشة):
– ولماذا لا نثق بالأبطال؟ أليسوا من ينقذوننا؟
نظر الطفل إلى الصورة واحتضنها: – أحيانًا يبدأ الأبطال شيئًا ولا يُكملونه… ونُترك نحن وسط الحطام، نحاول أن نفهم ما حدث، لكن...لا أحد يشرح.
اقترب نورس وجثا أمام الطفل:
– لكنهم ضحّوا بأنفسهم… أليس هذا كافيًا لنفهم؟
هز الطفل رأسه ببطء:
– لا أحد قال لنا لماذا الآن… ولا كيف ستحمينا هذه التضحية.
كل ما عرفناه كان عبر الصور… والدم.
أجاب نورس بصوت مكسور:
– ربما لم يجدوا وقتًا للشرح… ربما كانت النية أن يُكمل الآخرون.
الطفل (ببرود حزين):
– لكننا لسنا "الآخرون". نحن الباقون… ننام في نفس البيوت التي تهدمت، ونحلم بأبطال لا يعودون.
نورس:
– أتظن أنهم لم يحسبوا الثمن؟
نظر الطفل نحوه دون غضب:
– ربما حسبوه، لكنهم لم يخبرونا إن كنا نحن من سيدفعه.
مدّ نورس يده نحو الصورة ليمسح عنها الغبار:
– أتعلم؟ الأبطال لا يشرحون لأنهم يمضون بسرعة النار دون التفات… من تبقى مثلنا، قد لا نملك شجاعتهم… لكننا نملك الوقت لنفهم ونحكي… ونختار.
نظر الطفل إليه بتساؤل– وماذا إن لم نفهم أبدًا؟
ابتسم نورس بخفوت وقال:
– لا بأس. أحيانًا، يكفي أن ترث الصورة، وتمنعها من الضياع… حتى يأتي من يفهم. ووقتها… لن نكون مجرد حطام. بل بذرة. بذرة تُدفن ، لا لتموت بل لتنتظر لحظتها.
سكت الطفل.
كان الليل قد بدأ يهبط ببطء، كما لو أنه ينصت لهما.
هدأ كل شيء حولهما… حتى الصورة بدت وكأنها تنتظر تفسيرًا لم يأتي بعد.
شعر نورس بالحيرة تختلج صدره.
هل ما يفعله الآن… خطوة نحو الحرية؟
أم مجرد تكرار لما فعله الآخرون الذين "خرجوا ولم يعودوا"؟
لكن صوتًا آخر في داخله قال:
"الفرق بين التكرار والقرار… هو أن تسأل نفسك وأنت تفعل، لا بعد فوات الأوان."
عاد نورس قبل أن يبرد موضع قدمه في الخارج.
لم يطمئن للسكينة التي لا يعرف كيف تكوّنت هناك.
ولم يتحمّل أن يرى مدينته تختنق دون أن يخبرها بأن هناك شيئًا مختلفًا.
عاد إلى الفتحة. نظر من الأعلى. وهمس:
– لم أخرج لأهرب…
خرجتُ لأرى… إن كان هناك ما يستحق البقاء من أجله.
لم تمضِ سوى أيام قليلة على اكتشاف نورس للنفق، حتى اهتزّت المدينة فجرًا.
انفجار… فصفارات، ثم صراخ.
انهار حائطٌ قرب السوق.
صاروخٌ بلا مقدمات، بلا إنذار، بلا سبب واضح.
مجرد… تأكيد بأن الخطر ما زال قائما.
ركض الناس نحو الحطام، يفتّشون بأيديهم العارية عن أطفالهم... أو عن بقاياهم.
وكان نورس بينهم. يحفر و يصيح.
حتى وجد فتى صغيرًا، رأسه ملطّخ بالتراب، ينظر بعين واحدة:
–أريد… أن أخرج…
حمله نورس، وجثا على الأرض.
لكن لم يكن هناك وقت.
ضربة أخرى قد اقتربت.
في خضم ذلك المشهد، ووسط العجز والفوضى، تذكّر النفق.
تذكّر أن المدينة ليست مجرد قبر… بل ومعبرًا أيضًا.
ركض نحو الزقاق، والفتى في حضنه.
لم يعُد الطفل يتكلم. يتنفس فقط … بثقل.
فتح الباب… دخل النفق وصعد السلم.
توقف لحظة وصَل إلى الفتحة ورفع رأسه.
كانت السماء صافية هناك.
أحدهم يتبعه من خلفه…. مجموعة من الجنود مُلثّمي الوجوه وبعيون حادة. بزّاتهم الداكنة تحمل شعار شجرة زيتونٍ توحي بسلامٍ مستنزفٍ.
لم يسألوه شيئًا.
لم يصرخوا.
فقط أشار أحدهم إلى الفتى.
قال الطفل بأسى: هل سيطلقون علينا النار كما فعلوا مع أبي؟
انقبض قلب نورس وبكى بجفاف عينيه ثم هزّ رأسه:
– علينا إسعافه… لن ينجو هنا.
قال الجندي ببرود: – الخروج ممنوع.
– لن أخرج… سأرسله إلى مكان آمن فقط.
–لا تحمل هماً، هذه مهمتنا.
سكنت روحه و اطمئن وسأل الجندي:
–لماذا تساعدوننا ؟ من أوكلكم الأمر؟
رفع الجندي رأسه متنهداً:
–ربما لأننا كنا يوما حيث تقف أنت الآن.
سلّمهم الطفل، ثم نظر في عينيه لآخر مرة وهمس له:
– إن عشت… لا تكن امتدادًا لي.
كن بداية نفسك.
أُغلق الغطاء وبقي نورس في الأسفل.
بقي نورس في الأسفل وحده.
لكن الوحدة لم تكن صمتًا، بل سؤالًا كبيرًا يتردد بين الجدران كالصدى:
هل يكفي أن ننجو إن لم نعرف لماذا نحيا؟
هل يكفي أن نحمي التراب… إن صارت الأرواح حطبًا لقضيةٍ نؤمن بها، لكن لا نُحسن خدمتها، أو اختُزلت إلى أرقام في معركةٍ تُدار بلا بوصلة؟
تأمل الحجارة والرماد وبقايا الشعارات المطموسة، ثم أغلق عينيه.
ربما لا يكون النفق طريقًا للهروب… بل طريقًا مختلفا للرجوع.
وربما… ما يحدث الآن، بكل تناقضه، هو أفضل ما يمكن فعله حين تضيق الخيارات ويغيب الوضوح.
ربما لا تحتاج المدن إلى أبطالٍ جدد… بل إلى أناسٍ يسألون بأسى، لا يصرخون بيقين.
وربما كان ما فعله… أول مقاومةٍ صامتة في مدينةٍ لم تعد تحتمل المزيد من الأصوات العالية.