الأربعاء ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠٢٥
بقلم حسن عبادي

نيران المجوس

المجوس هم عبدة النار وآمنوا بأن العالم نور وظلمة؛ وهم مصدر إلهام الكاتب عبد الرحمن منيف في عَنونة روايته "قصة حب مجوسيّة" (رواية، 129 صفحة، صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، ناقشناها في لقاء "منتدى حنا أبو حنا للكتاب" الحيفاوي الأخير (تأسس في كانون الثاني عام 2009).

أعادني عنوان الرواية لقصيدة "نيران المجوس" لشاعرنا الراحل توفيق زياد:

أضيء لمرة... وأموت
ولكني ...
كنيران المجوس: أضيء...
مِن
مهدي
إلى
لحدي!
ومِن...
سلفي
إلى ..
نسلي!

تناول الحب من النظرة الأولى؛ ذاك الحب إثر انجذاب عميق يشعر حينها المُحب بفراشات بمعدته، وتجعله يشعر بأنه التقى بشخص قرّر أن يكون شريكه الأبديّ، "في لحظة، لا أعرف أية لحظة، التقت عيوننا. كانت قريبة ومضطجعة على بطنها أول الأمر. كانت تعبث بعصا صغيرة على الرمل، ولكن ما كادت نظراتي تزحف على ظهرها، حتى ارتعشت. انقلبت بسرعة ونظرت نحوي مباشرة… وفي تلك اللحظة التقت نظراتنا". (ص. 10)

جاءت "العتبة" الأولى مباشرة وصادمة؛ "...لا أطلب منكم الرحمة. ولا أريد عطفكم. إذا كنتم محسنين فامنحوا صدقاتكم للمتسولين. أنا لست متسولاً ولا مسكيناً، كما لا أعتبر نفسي لصاً أو قاطع طريق. ومع ذلك فإن لي مشكلة.

ومشكلتي... دون كلمات كبيرة، أن الألم يعتصر قلبي... ليس هذا جديداً بالنسبة للحياة التي أعيشها، لكن الأمر، في لحظات معينة. يبلغ حداً لا أستطيع احتماله. وما دام الأمر هكذا، فإن الكلمات، في بعض الأحيان، وسيلة لإنقاذي. لست متأكداً. أتصور ذلك... ويحتمل أن يكون الحديث... خاصة معكم، ألماً جديداً، أتلقاه من عيونك الساخرة... لا يهم، قولوا أي شيء. ومع ذلك يجب أن أتكلم".

وقع "بطله" في حب امرأة اسمها ليليان، حين التقاها صدفة في إجازة، بعيداً، وشعر أنّه وُلد من جديد، لم يحادثها، بل عاش مع طيفها، وعرف أنها متزوجة وأم لطفلين، وملكت أحاسيسه وراحت تعذّبه فعشقها وعبدها ليكتوي بنارها المجوسيّ وباتت حبّه الطاهر.

يتناول الحب والإعجاب، الخطيئة والدين، الاختيار والحظ، الحياة واليأس وما بينهما، يبحث عن مبرّر وتفسير دون جدوى.
أحبّ ليليان فأحرقته بنار حبّها، نار مجوسيّة، لأن المجوسية تقوم على النار، نار مقدّسة تشتعل في المعابد ليل نهار ولا تنطفئ ولا تخمد أبدا، نار تصهر الفروقات بين البشر وتذيبها، وذاك الحب جعله يقطع علاقته مع كافة النساء اللواتي عرفهم وعاشرهن من قبل، أسرت قلبه ووجدانه وهجر النساء ومعاشرتهن وحتى التفكير بهن، بل أكثر من ذلك؛ "تركت لميرا اللوحات الثلاث التي كانت تزين جدران غرفتي… كما اشتريت لها ديوانين من الشعر. أحدهما لرامبو والآخر لبودلير"، وكأني به يتحدّث عن ديوان "أزهار الشر" (Les Fleurs du mal) الحداثيّ، وكتاب "موسم في الجحيم". اعتذر عن الارتباط ومنحه كلّه لليليان المُشتهاة.

لجأ منيف إلى أسلوب الوصف الدقيق لصغائر الأمور، وكأنّي به يحمل كاميرا مع مجسّات تصوّر كل ما تقع عليه عدستها، بما فيه مشاعر كلّ ما يمرّ خلال التغطية، برومانيسيّة عشقيّة آخّاذة. "أخرجت سيجارة من حقيبتها. شمّت رائحة التبغ بتلذّذ. آه… لو أن الشمس تحولت في يدي إلى جمرة. لو أن ذلك حصل مرة واحدة لأوقدت لها السيجارة واحترقت. كنت أريد أن أفنى. أن أذوب". (ص. 29-30). وكذلك الأمر حين صوّر ليليان تحتسي النبيذ "أما قدح النبيذ الذي لم يتغيّر، فقد انعقد في ذاكرتي كتاريخ حقيقي ووحيد لما يمكن أن يسمى ألفة بين اثنين. تمنيت لو أصبح ذلك القدح… يدك وهي تلتف على القدح تلتف على عنقي كخيط الحرير. شفتك وهي تعانق حافة القدح مثل عناق الأمهات لأولادهن الذاهبين إلى حرب بعيدة".

راق لي وصفه لمعزوفة موسيقى العصافير (El cant dels ocells) الكاتالونيّة الراقصة الأخّاذة وما تبعها من طقوس تجوال الموسيقيين بين الطاولات ليشربوا أنخاب العشّاق وهم يعزفون.

وكذلك وصفه لمشهديّة "استغلال" الموسيقار في الحفلات؛ "لما كان الموسيقار يقترب نظرت إليه وغمزته. وضعت نقوداً في يده وقلت له هامساً: اعزف لنا لحن "أغيّر الأصدقاء مثلما تغيّر الأشجار أوراقها". يا له من انتقام لذيذ!

إنها رواية فلسفيّة بامتياز؛ تتناول الحب العذري المقدّس، حب من طرف واحد، بعد فشل علاقاته بثلاث فتيات، ميرا، ورادميلا وباولا، مع ما رافقها من مجون شبقيّ، "النار التي اشتعلت في قلبي يوماً… لن تنطفئي". ماجوسيّة عأصولها.
وجاءت النهاية: "والآن... وقد انتهيت أشعر أن الكلمات والحروف يائسة لدرجة أنكر أن تكون ليليان في مثل هذه الكلمات… ليليان أكثر رقة. أكثر فرحاً وحزناً من كل ما ذكرته لكم... لكن ماذا أفعل إزاء هذه اللغة البائسة الذليلة؟

لا أملك شيئاً... ما زالت ليليان شامخة. راكضة في ذاكرتي، تتسلق دمي في كل لحظة، تُبكيني، تُفرحني، لا... يا أيها الناس، أنها تنتظرني… أنها تنتظرني في المحطة القادمة... نعم المحطة القادمة... لا أعرف، محطة الترام… قالباص، ولكنها تنتظر... في مكان ما تنتظر... سألتقي بها...لا تسخروا... بالتأكيد سألتقي بها!".

إنّه الحبّ العذري؛ أربع سنين… خمس سنين… مقابل نظرة واحدة يا ليليان… "كنت أنتظرك منذ آلاف السنين… وعندما امتدت يدي بيأس… تلاشت. تركت في نفسي حزناً لا يمكن أن ينتهي."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى