الثلاثاء ٢ نيسان (أبريل) ٢٠١٩

نَبْتُ الجحيم!

خالد بريه

منذُ أفقتُ على هذه الدنيا، ولا وجودَ لامراةٍ حسناءَ في حياتي! لا توجد امرأة تأنسُ لنظراتي، وتنصتُ لحديثي، وتصغي لقبلاتي.

لطالما اشتهيتُ امرأةً تحوطني من عواصفِ الشَّتات، تضمُّني ككهفٍ مقدَّسٍ بينَ ذراعيها، حيثُ لا تعصفُ بيَ الأنواء. وحيثُ لا قبحَ ولا ظلام.

جاهدتُ للحدِّ من القبيحات، لأحظى بنعمةِ الأنوثة التي لا ينالها سوى الآخرين.. الآخرونَ فقط يمرِّغونَ أنوفهم في شعرٍ معطَّرٍ لقديسةٍ فاتنة، أو يدفنونَ شفاههم في نحْرها. أما أنا فقد كُتبَ عليَّ أن أموتَ كالنُسَّاك، النَّاسكُ الذي لم يشتهِ لحظةً أن يكونَ ناسكًا.

كنتُ أدركُ أنهنَّ ينظرنَ إليَّ كـ نصْبٍ تذاكريٍّ باهت! ومع كلٍّ ذلكَ، جاهدتُ أن أظفرَ بقديسةٍ حسناء تقبلُ بي، تسيرُ بجانبي، نختبئُ معًا تحتَ مظلةٍ حمراءَ من قطراتِ غيمةٍ عابرة، نتسكعُ في أزقَّةِ المدينة القديمة، ونرشفُ القهوةَ وحدنا، نتبادلُ النظرات، والأحلام، وقليلًا من القُبَل، وكثيرًا من الدِّفء. وحينها فقط، تسقطُ وحشة القبح التي تحيطُ بي، لابدَّ للقبحِ أن ينتهي، لابدَّ له من قيامةٍ عاجلةٍ تخلصُ العَالَمَ من ظلِّه الثَّقيل!

في لحظةٍ مصيرية، بعدَ قرارٍ مصيري، قررتُ أن أتخلَّصَ من كلِّ القبيحات، لابدَّ أن يبقىٰ العَالَم خالصًا للفاتناتِ، من ترخي طرْفها فتفيضُ على القلبِ ألحان النَّشوة، من ترسلُ صوتها فتعيدُ التَّوازنَ للعَالَمِ المضطرِّب، إنها ينبوعُ الأنوثةِ الخالد؛ الذي تستحمُّ فيه عذارى الليل. من تترنحُ بشيءٍ من الدَّلال؛ فتخشعُ لترنُّحِها القلوب، وتتحولُ الدُّنيا برمتها إلى محرابٍ للدَّهشة، وتدخلُ في ضَرْبٍ من ضروبِ "الحَال" التي تتلبَّسُ الصوفي القابع في زاويةٍ مظلمةٍ يرىٰ النُّور بعينيْ قلبه الوالهتين!

انقضىٰ الليل، وطارَ الخبرُ في سماءِ المكان، وتحسَّسَ النِّسوة وجوههن، وقفنَ يحدقْنَ بـوجومٍ في المِرآة، يتفحْصنَ ملامحهن، ويندُبنَ بصمتٍ قرارَ القيامةِ العاجل، والحشرِ المبكرِ للقبيحات.
ما نوعُ القبحِ المقبول؟!

وأي القبيحاتِ أكثر عرضةً لصرخةِ الرَّحيل التي آذنتْ أن تتخلصَ منهن؟!

بدأَ العدُّ التنازليُّ يقتربُ من الفناء؛ يوم الرَّحيل الإجباري إلى جهنم، لكلِّ قبيحةٍ تزاحمُ حسناءَ في أرضٍ لا تليقُ إلا بها؟! الرَّحيل لكلِّ قبيحة تورثُ الهَمَّ، ويشيخُ القلبُ من النَّظرِ إليها، رحيل لا رجعةَ فيه ولا بقاء!

مذْ كنتُ في ميعةِ الصِّبا، لم أحفلْ ولو للحظةٍ خاطفةٍ بابتسامةٍ من حسناء، تخطَّيْتُ عتبةَ العمر؛ وتلبَّسَني القُبْح، وغزا عُقْر قلبي.. وبتُّ من ساعتها أجاهدُ في جبهاتٍ متعددةٍ للاطاحةِ بعرشِ القبيحات. هذه الأرضُ لا تليقُ إلا بالقديساتِ الحسناوات، قلتُ مرارًا لنفسي المتلهفة.

وثَبَ العمرُ فجأة، ورأيتني أعرفُ جيدًا تلكَ الردهة الطويلة الكئيبة التي تمتدُّ إلى قاعةِ الدراسة، حيثُ يكتظُّ بالقبيحات، ما إن أراهنَّ حتى أتسمَّرُ في مكاني، أتوعدهن سرًا بيومِ الخلاص، ثم التفتُ إلى الممرِ الآخر الموصلِ إلى ميدانِ الجامعة، حيثُ تتناثرُ الصبايا الحسان، يملأنَ المكانَ نورًا، يخففُ قيظ النَّارَ التي اخترقتني من وجوه الذَّميمات!

انتشرَ صيتي، فتحلَّقن حولي، وكنتُ امقتهن، واحتقرهن، بل؛ واتساءلُ في نفسي عن الحكمةِ من خلقهن؟! ولا زلتُ أغضُّ بصري صونًا من أن يقعَ على وجهٍ قبيح يستبيحُ دفء القلب بلهيبٍ ينعكسُ لحظةَ النَّظرِ إليه.

أسيرُ منكسرًا بجانبِ المكانِ الذي يجلس فيه الحسناوات، أسكرُ من ضحكاتهن، تعجبني أي حركةٍ تصدرُ منهن، أُكبْرُ كل كلمةٍ تنطقُ بها حسناء، أتلذَّذُ بكلِّ نغمةٍ تصدحُ بها فاتنة، لا أملُّ التحديق بهن، ولا أكذبُ إن قلتُ: إنَّ الإيمانَ يسمو بالنَّظرِ إليهن، وينقصُ لمجردِ الإلفتاتِ إلى سواهن!

كنتُ أمنِّي النَّفسَ بأن تقبلَ بي واحدة من اللاوتي يملأنَ الحياةَ بحضورهن، إنني آمل أن أجد من تقبلُ بي. ويا لضيعةِ العمر، "فأمَّا الحِسانُ فيأبيْنَني، وأما القباح فآبى أنا".

تركتْ لي رسالة عند عودتي إلى المنزل، "أريدُ أن أراكَ في بهو الجامعة، في صباحِ العاشرةِ من يومِ غد". فاتن.

لم أنم ليلتها؛ رحتُ أرصُّ أحلامي أمامَ ناظري، أشعرُ أني أُتوَّجُ بمملكةٍ لا حدودَ لها، وظللتُ أرددُ كلماتٍ منمقة سأقولها للفاتنةِ التي أحيتْ قلبي برسالةِ الخلود!

دقَّت السَّاعة العاشرة صباحًا، وأنا انتصبُ واقفًا أنظرُ بلهفةٍ للقادمِ إليَّ منحةً من شقاءِ العمر البائسِ في حضيرةِ القبيحات.. فركتُ أصابعي، رتَّبْتُ هندامي، نظرتُ بصورةٍ خاطفة لحذائي المستعار، وبينا كنتُ أهوي أمسح شيئًا من غبارٍ التصقَ به، نادتني من خلفي، فتوقفَ الزمن، وكادَ قلبي أن يقف. درتُ إليها، ودارَ الكونُ معي، إجلالًا وتحيةً للحسناء التي هبطت فجأةً نحوي في ساحةِ قلبي المحترق.

منذ تلكَ الليلة، قررتُ أن يُحشرَ القبيحات إلى جهنَّم، قرارٌ حتميٌّ لا مفرَّ منه؛ كقدرٍ متربِّص، أتى بعد سنواتِ الضياع، ومرورِ الأيام، واستفحالِ داءِ القُبْح، ومنذ تلكَ الالتفافة التي حانت مني لرؤيةِ "فاتن"، تلكَ الفتاة التي تدثَّرت بصفةٍ لا تليقُ بها، هي من أيقظت جهنم في داخلي، وقرار الحشر الجمعي لكلِّ قبيحةٍ تسببتْ في فقدانِ توازن إنسانٍ يطمحُ في رؤيةِ قديسةٍ حسناء!

أتى اليومُ الموعود، ودقَّت طبول الانتصار، للأشواقِ الممتنعة، وحانت ساعة الانتقام من قبيحاتِ العَالَم، وحانَ الأجلُ المنتظَر لخلاصِه.

بدا القبيحات يطرنَ في الهواء؛ كفراشٍ محترق، لم يُرى العالمُ مكفهرا مثل ذلكم اليوم.. كانَ حدثًا مهولًا، مفزعًا. وقد استلقيتُ يومها في شُرفةِ منزلي، أنظرُ بسرور إلى أفواجِ القبيحات يُحشرنَ إلى جهنم، كنتُ أقولُ لصديقي: إننا اليومَ ننتصر، المجدُ والخلود والبقاء للحسناوات، الحياة للقديساتِ الفاتنات.. وفي لحظةِ زهو، رأيتني أطيرُ صوبَ الأسراب المتطايرةِ إلى جهنم، تخطفتني جحافلُ القبح؛ فأمسكتُ بعنقِ صاحبي، وطرنا سويًّا صوبَ الأفواج المتطايرةِ إلى جهنم..

قال لي: دعني.

 فلتذهب وحدك، لستُ قبيحًا مثلك. دع عني يدكَ أيها القبيح.

أفلتُّ عنقه من يدي. وكأني لوهلةٍ تذكرتُ حقيقةَ قبحي، وأني جنيتُ على العالم بقرارٍ مصيريٍّ لم أفكر لحظة أني المعني به ابتداءً.. واشتدَّ ارتفاعي حتى وجدتني اتقلبُ في دوامةِ المحشورين.. وحانت مني التفاتةٌ إلى الأرض.. فوجدتها متوهجة، تعجُّ بحسناواتٍ وصبايا ينثرونَ الحياة والسَّلام، ويوزعونَ القُبَل التي مُنعْتُها، ووجدتني أواصلُ السِّير إلى جهنم.. تلكَ البقعة الملتهبة التي تنتظرُ بشوقٍ أسرابَ القبيحينَ، كما تنتظرني على حدٍّ سواء.

خالد بريه

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى