الخميس ٢٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم ناصر ثابت

هاييتي

لا يأخذني التلفاز إلى الأحداثِ
أظلُّ هنا
أتسلى بالأشياءِ الباردةِ الإيقاعْ
أتنبأ بالأيامِ
وبالأسماءِ
وبالأوجاعْ
أتشبثُ بالحبل المربوط الى سقفِ الصدفةِ
لا يُدهشني إلا الشعرُ
وصوتُ الأطفالِ إذا ضحكوا
الوقتُ يطيرُ كعصفورٍ خشبيٍ
والدنيا قلقٌ
وسعادتُها شَرَكُ
والإنسانيةُ، كلُّ الإنسانيةِ دينٌ لي
أتعبدُ في معبدها الحرِّ
ولا أرتبكُ
وأملُّ من التضليلِ الإعلاميِّ
وأغبطُ من تركوا
وجهَ الأرض من الشعراءِ
وساروا في ركبِ العشقِ.. فما هَلَكوا
لا يأخذني التلفازُ
الى البُقعِ الأخرى،
من هذا الكونْ
لا يأخذني التلفازُ الى هاييتي
لكن الشعراءَ لهم أخيلةٌ
تسكنُ بين سطور الحزنِ الدائمِ
والدمعِ المكبوتِ
كانت هاييتي تتدلى من عنقِ الأرضِ
كعِقدِ الياقوتِ
فإذا فاجأها الموتُ،
انداحتْ عن عورة هذا العالمِ أوراقُ التوتِ
دُفنتْ تحتَ الأنقاضِ التفسيراتُ الكبرى للكونِ
وتفسيراتُ رجالُ الدينِ
وتبريرات الساسةِ للأحداثْ
في هاييتي
بحثَ الأحياءُ عن الخبزِ الحامضِ في الأجداثْ
في اليوم الأول لم يأتِ الزلزالُ
وكانت هاييتي
تتدلى من أذن الكرةِ الأرضية كالقرط الرائعْ
كانت تتباهى، بتراتيل كنائسها
وترشُّ الضحكاتِ على صدر البحر الواسعْ
كانتْ جانيتُ
تُعلِّمُ أسرتَها الرقصَ
وكانت تنسجُ للأطفالِ أناشيداً
حتى ينسوا ألم الفقرِ
وطعمَ الواقعْ
في اليومِ الثاني
خرجَ الزوجُ الى غايته
لكنْ، بعد حلول الليلِ بنبضاتٍ معدوداتٍ
فاجأها الزلزالُ
وغيَّرَ خُطةَ أطفال الحي الجوعى..
كان سيأتيهم غدهم كالمعتادِ
وكان سيحملُ أصغرهُم كُراساً
كان سيقضي يوماً آخرَ في مدرسة دون جدارْ
في هاييتي
لم يكنْ الجوع يُغير ذاكرةَ الأحلامْ
كان الفقرُ قطاراً
يركبه الناسُ الى مستقبلهم، والأيامْ
كانت مثل محطاتٍ، والأفكارْ
كانت تصطف على جنبي السِّكة كالأشجارْ
سقطَ البيتُ على جانيتَ وأسرتها
فُتِّتَ كومُ اللحمِ الى أشلاءْ
ودمُ الأطفال تحولَ
في ثانيةٍ
من روحٍ في الأجسادِ، الى بدرٍ ساطعْ
أما جانيتُ
فأنَّتْ تحت ركامِ البيتِ، ونادت
غنتْ
صلتْ
وبكتْ
بحثت عن نبضةِ قلب ضائعة بين الأشلاء
بحثتْ عن كسرة خبزٍ بين الأشياءْ
بحثت عن أملٍ ضائعْ
أو عن شيءٍ آخر يشبهه
وجدتْ أطرافاً
وعيوناً مطفأةً
وأصابعْ
وجدتْ طفلاً
كان يُصلي قبل الموتِ صلاةَ الجائعْ
وجدت جُثثاً للشهداءْ
وجدتْ موتاً وفظائعْ
والزوجُ يناديها
يا جانيتْ
سأقبِّلُ هذي الأنقاضْ
فهي بقايا بيتٍ كنا فيه مع الأطفالْ
كنا نبذرُ فيه العشقَ
وكان المالْ،
لا يلزمُنا
يا جانيت،
أيتها المعقودةُ بالسكرِ واللوزْ
سوف أظلُّ هنا.. في الشارعْ
أتوسلُ للأنقاضْ
"أيتها الأنقاضُ احترسي"
ظلَّتْ جانيت تُقاومُ هذا الموتَ المجنونَ
الى اليومِ السابعْ
حتى خرجتْ
وهي تُغني من تحتِ ركامِ البيتِ المهدومْ
شكرتْ وجه الله بقلب مكلومْ
صلَّت للأطفالِ...
وصارت تبحثُ حالاً عن أمل ضائعْ
في هاييتي المدفونة في نارِ الواقعْ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى