هدايا..خان الخليلي
في اليوم الأخير من زيارتي إلى القاهرة، أهبط من المقطم، مودعاً القلعة، محمَّلاً بالسيف الدمشقي المذهب، منحدراً نحو خان الخليلي.
أطل على القاهرة القديمة، على يميني قبة الحسين، وعلى شمالي مآذن الأزهر تشمخ في إباء، أميل إلى الحسين، أخلع خارج المسجد حذائي، لأنسى الدنيا، فأجد الدنيا كلها قد اجتمعت في الداخل، عند الضريح ألتقي المصلي والذاكر والقارئ والمتبتل والمتمسح بالأبواب والجدران والساجد عند الأعتاب والسابح في الملكوت والذاهل والخاشع والمجذوب، ومن وراء الضريح حيث المصلى الخاص بالنساء أسمع نواح ثكلى وعويل أرملة وتوسُّل عانس ودعاء حامل ترتجي ولداً ذكراً، أخرج مبهوراً وقد نسيت قراءة الفاتحة.
يحتويني خان الخليلي، يطوِّقني بقلائد من سُبَّحات وعقود من خرز ملون زائف، يحيطني بآلاف الأهرامات والمسلات النحاسية الصغيرة والجمال الخشبية وتماثيل الملوك والفراعنة والكهان والكتاب من حجارة مختلفة وقد احتشدت كلها جماعات جماعات وتوزعت على الأرصفة وفي واجهة المحلات وسط آلاف أخرى من التحف والهدايا والتذكارات من الجلد والخشب والنحاس واللدائن ومما أعرف ومما لا أعرف. أجدني وسط أمواج متدافعة من السائحين والسائحات العاريات الظهور والصدور، وتطفو فوق الأمواج نداءات الباعة وإلحاح المتسولين ويخالط ذلك كله عبق البخور الشرقي وروائح الشواء.
أمر بمقهى " الفيشاوي " وقد امتلأت مقاعده بالسائحين والسائحات وهم يرتشفون الشاي، وينفثون دخان " المعسِّل " من النراجيل المفضضة والمذهبة، ويلتقطون الصور التذكارية حيث قيل لهم : " هنا كان يقعد ـ مدَّ الله في عمره ـ نجيب محفوظ " .
تنفحني العطور الشرقية شذاها، فإذا أنا في أول الموسكي، حيث تتألق زجاجات العطر الشفافة كأجساد السائحات شبه العاريات، وتتصاعد أشذاء البهارات والتوابل الفاغمة، يخالطها عبق الأجساد المتعرقة في الزحام، وترف في واجهة المحلات " الجلابيات " المصرية متألقة بألوانها القزحية الزاهية، مطرزة بقصب ذهبي يسحر القلوب والأجساد.
ويعلو اللغط والصخب والضجيج حيث يضيق السوق بباعة الرصيف والعربات والبسطات، وكل يريد أن يقتنص نظرة من نهد سائحة شبه عارية أو بضع جنيهات من سائح لا يعرف كيف يساوم، والبائع يرطن معه بالفرنسية والإنكليزية والإيطالية، فهو يعرف كل لغات البيع والشراء، حتى العربي يحسبه فرنسياً فيكلمه بالفرنسية، وحين يكتشف أنه عربي مثله، ولكنه ليس من مصر، يغلي في الثمن ويطلب أضعاف أضعاف.
أخرج من عنق الموسكي متخلصاً من أجساد التصقت بها أو التصقت بي في الزحام والحر، لا أعرف كيف، وأنعطف إلى الشمال، أدخل ساحة مكتظة بالباعة، أنعطف إلى الشمال ثانية، أدخل في شارع ذي اتجاهين يوازي الموسكي، ولكنه أشد منه اختناقاً وأكثر ازدحاماً، لا بالأجساد فحسب ولكن بصفائح الحديد أيضاً، وسخام العوادم وهدير المحركات وضجيج العجلات وزعيق الأبواق، فهو مزدحم في الأرض وفي السماء بالسيارات، سيارات من تحت وسيارات من فوق، فالسماء مسقوفة بشارع يخنق الأنفاس، ويسد المنافذ، والشارع الذي هو فوق مرفوع على أعمدة طوال كالأشباح تزيد الازدحام ازدحاماً.
أرقى في الشارع صعداً، أستشرف مآذن الغوري والأزهر، وهي تعلو في السماء، والسخام يحيط بها، كأنها تتنفس بصعوبة، عند الغوري يسرقني بائع الكشري، يغمرني عبقه الحريف، أنجذب إليه كأني أنجذب إلىجسد امرأة سمراء لعوب، وأنا الجائع، أغط ملعقتي في الصحن، أمزج الخليط، أحس له طعماً ِشهياً، والبهار الحار يغمره. صحن واحد عجيب، اختلط فيه كل شيء بكل شيء، الأرز والمعكرونة والطماطم والشطة الحارة والعدس والحمص وشرائح البصل المحروقة والملح والفلفل والخل والبهار، مثل اللافتة فوق المطعم، حيث تقول: " مطعم هابي تايم للكشري "، مصري على عربي على إنكليزي، كخان الخليلي، أو كالفلك الدوار، فيه الشقي والتقي، والصالح والطالح.
قبالة باب الأزهر أقف عند بائع العصير، أشرب كأسين، الأولى من قصب السكر، أرتشفها كالرضاب، والثانية من عصير " المانجة "، لا أعرف كيف ألتذ بها، فهي كالشفاه الناعمة.
أدخل الأزهر، وقد خلعت حذائي، تركته ورائي، وفي الهدوء المقدس أصلي ركعتين، تنحلُّ كلُّ العقد، ترتاح المفاصل، تطمئن الضلوع، تسكن الروح، في النداوة الطاهرة ينطفئ وهج الجسد المشتعل، في ظل مشعشع بالصمت والنور أغفو.
يقفز في داخلي نداء السوق: هل سرق الحذاء؟ الدودة تنخر في الدماغ، أخرج إلى لغط الحياة والضجيج، أدخل في غمرة السوق، أحمل على جسدي ثانية آلاف الآثام، وأنا أخالط السائحين والبائعين والسارقين والمتسولين والسائحات، لا أعرف إلى أين سينتهي هذا السوق؟ هل تتكسر نهود السائحات قبل أن تنكسر أعواد الساقين ويكل النظر ويضعف؟ هل تفرغ المحلات من حاجاتها قبل أن تفرغ الصرتان؟
خارج الأزهر أجد حذائي في موضعه، ولكن أين السيف؟ قبل ساعة حمَّلني إياه الحاجب في القلعة، قال لي: " خذ هذا السيف الدمشقي، أيها الجندي القادم من دمشق، احمله إلى صلاح الدين، ليسميك الفارس الأول، ولكن لا تنس، قبل أن تغادر القاهرة، لا بد أن تمر بالأزهر الشريف فتصلي فيه ركعتين، وتشتري من جواره بعض الكتب، تحملها هدية إلى صلاح الدين في دمشق ". كيف لم أذكره؟
لا شك أني فقدت السيف، لاأعرف كيف؟! هل سقط مني في زحمة السوق؟ هل سرقه مني لص رشيق؟ هل أهديته إلى تلك السائحة الشقراء، التي التقيتها في محل لبيع العطور الشرقية، في أول الموسكي، وقد بهرني صدرها الأبيض العاري، ونهداها الصغيران الناعمان؟ هل سلبته مني بائعة الترمس الذهبي المسلوق في آخر الموسكي، وقد أغرتني سمرتها المصرية المتألقة، وشعرها الأحمر المصبوغ، وفمها المكتنز، وصدرها الرجراج الممتلئ، وهي تناولني كوز الترمس وتلف جسمها بملاءة سوداء، وأساور الذهب الزائف توسوس في معصمها؟ هل رهنته عند بائع التحف والهدايا، مقابل أهرامات نحاسية صغيرة وجمال خشبية وسبَّحات خرز ملون وتماثيل لملوك وفراعنة وكهان وكتاب من حجارة مختلفة؟.
تقف أمامي سيارة أجرة وهي تتهادى كالنسيم، السائق يدعوني، أدخل فيها، وأنا أقول له:
– هيا، عجِّل، أرجوك، ولكن لا تمر بالقلعة، انعطف إلى مدينة المقابر، ومنها مدينة النصر، ثم إلى المطار مباشرة.
كيف أضعت السيف؟ هل أقدِّم لصلاح الدين خرزاً ملوناً وجمالاً من خشب وأهرامات صغيرة من نحاس وهو الذي زودني قبل خروجي من دمشق بصرتين من ذهب، وأوصاني..
أجدني في المطار، أمام بوابة المغادرين، كيف حطت بي السيارة هكذا؟ الطريق إلى المطار أعرفها مزدحمة دائماً، لا أكاد أصدق، كأنني على جناح البراق، أسرع إلى النزول، السائق يستوقفني، فإذا به يحمل على كلتا يديه صندوقين، يرفعهما إليَّ بهدوء، كأنني في حلم، كأنه ملاك متوج بهالة من نور، الصندوق الأول مكعب، يبدو ثقيلاً، الثاني متطاول، يبدو رشيقاً، كلاهما مطعمان بالفضة والذهب والعاج.
يتقدم مني مرهقاً، وهو يقول:
– أتعبتني، وأنا أجري وراءك حتى لا أفقدك.
وأسأله:
– ماهذا؟
ويجيب:
– الكتب، والسيف الدمشقي المذهب، هديتك إلى صلاح الدين في دمشق. ِ