وتغريب النّص النقدي العربي
الملخص:
تعتبر المناهج الغربية واحدة من القضايا التي أثير حولها الجدل في نقدنا العربي، وإذا كنا قد تجاوزنا النقد الانطباعي الذي ساد لفترة طويلة في تراثنا النقدي، فإننا بالمقابل لا نرى أنّ كل ما تأتي به المناهج النقدية الغربية صالح لأدبنا بالضرورة، هذا إذا آمنا بالاختلافات الطبيعية بين الآداب والثقافات الفلسفية، فمنذ القفزة النقدية التي أحدثها الشكلانيون الروس في العقد الثاني من القرن العشرين بتركيزهم على الاهتمام اللغوي المميز للنصوص بحيث ينفصل المعنى الأدبي عن التصورات العقلية المنطقية، والنقد في تجدد مستمر،وهكذا جاءت البنيوية وما بعد البنيوية من سيميائية وتأويلية وتفكيكية ونظريات التلقي والقراءة، وجميعها تحاول التأسيس لعلم دراسة الأدب، وهذا ما نتج عنه تحيز النقد العربي المعاصر (الكلي) و(التلفيقي) إلى النقد الغربي، يتجلى الأول في إدعاء عدد من نقادنا كونية المناهج النقدية الغربية، والثاني في ادعاء عدد كبير منهم بإمكانية التوفيق بين مناهج الغرب ونظرياته لخلق مناهج بديلة تراعي خصوصيات النص الأدبي العربي وتمكننا من تجاوز قصور بعض المناهج النقدية الغربية، وقد تولد عن هذا أزمة توظيف النظريات النقدية في سياق ثقافي مختلف عن سياقها الذي ولدت فيه.
ومن هنا نطرح مجموعة من الإشكاليات: إلى أي مدى يمضي بنا هذا السعي وراء المناهج الغربية المعاصرة في دراسة الأدب؟
بل إلى متى سنظل نلهث وراء ما تفرزه الفلسفات والعلوم من افتراضات ونسقطها على الأدب؟ وقبل هذا:إلى أي مدى تصلح المناهج النقدية المعاصرة التي هي اختراع غربي بالأساس لدراسة النص العربي؟
وهل عالمية الإبداع والثقافة والفن وما إليها مبرر لأن نحمّل نصوصنا ثقل النظريات الوافدة عليه، والتي أكثر من هذا فهي تفرض عليه، فرضا بحكم التأخر الذي نعانيه على المستوى الثقافي عموما؟
وتهدف هذه المداخلة إلى إماطة اللثام عما يدور بخاطر المتلقي والدارس العربي من عقبات وفوضى وحيرة منهجية إزاء هذا الزخم من المناهج الغربية المعاصرة، التي هي في أساسها غريبة عن النص العربي بما تحمله من خلفيات فلسفية غربية بعيدة كل البعد عن فلسفتنا ومعرفتنا العربية، لذلك نحن في حاجة إلى مناهج نقدية عربية أصيلة لدراستنا نصوصنا العربية تراعي خصوصية المتلقي العربي وكذلك المبدع العربي.
المناهج النقدية المعاصرة وتغريب النّص النقدي العربي
عرف النصف الثاني من القرن العشرين ظهور عدد كبير من المناهج والنظريات والأفكار الغربية، فشكلت ثورة فكرية لم يسبق لها مثيل،حيث أعيد التفكير في جميع النظريات والأفكار السابقة برؤيا نقدية جديدة حملت لواءها أوربا ثم انتشرت بشكل سريع في العالم بما في ذلك الوطن العربي الذي تلقف هذه المناهج على اختلاف أفكارها وخلفياتها الإيديولوجية الغربية، وهكذا رأينا البنيوية وما بعد البنيوية من سيميائية وتأويلية وتفكيكية ونظرية القراءة والتلقي، وجميعها حاولت التأسيس لعلم دراسة الأدب.
ونجد في الحقيقة أنّ هذه المناهج النقدية واحدة من القضايا التي أثير حولها جدل كبير في نقدنا العربي، وإذا كنّا لم نرضى بالنقد الانطباعي العاطفي الذي ساد لفترة طويلة في تراثنا النقدي، فإننّا بالمقابل لا نرى أنّ كل ما تأتي به المناهج النقدية الغربية صالحا لأدبنا بالضرورة، هذا إذا آمنا بالاختلافات الطبيعية بين الآداب والثقافات الفلسفية.
ورغم كل ما ينتج عن تلك المقارنة بين المناهج السياقية والمناهج النسقية من اختلافات وتناقضات، فهذا يدفعنا إلى التساؤل: إلى أي مدى يمضي بنا هذا السعي الحثيث وراء المناهج الغربية في دراسة الأدب؟
وهل صفة الإبداع التي يعرف بها النّص الأدبي هاجس يسعى بنا دائما إلى عدم الاستقرار وعدم الرضا عما توصل إليه فلاسفة النقد الحديث والمعاصر من نتائج في تحليل النصوص؟بل غلى متى سنظل نلهث وراء ما تفرزه الفلسفات والعلوم من افتراضات ونسقطها على الأدب؟
إذا ما أردنا معرفة حقيقة الوضع النقدي للنص العربي إزاء هذا الغزو المنهجي الغربي،يجب أن نشير إلى مجموعة من المشاكل التي يتخبط فيها الناقد العربي ومن بينها: مشكلة التواصل والتبليغ و هي مشكلة جدّ خطيرة، حيث نجد أنّ كثيرا من النقاد العرب لا يعرفون إلاّ لغة واحدة، كما أنّهم يتفاوتون في معرفة اللغة الأجنبية إن عرفوها،ويتجسد ذلك في المؤتمرات حيث ألقيت محاضرة باللغة الأجنبية لا يفهمها إلاّ القليل من الحضور، ويصدق هذا أيضا على الدرس اللساني العربي الذّي هو رافد مهم بالنسبة للدرس النقدي العربي فمن لا يمتلك معرفة لسانية كافية ليس بإمكانه أن يمارس النقد وليس في استطاعته تحليل النصوص، فلا يمكن لدارس الأدب في عصرنا أن يكتفي بالبحث في الأدب فحسب بل عليه أن يطلع على الفكر والثقافة،والأبحاث اللسانية،وقد أدت هذه المشكلة إلى مشكل آخر وهو الأخذ من الترجمة على اختلاف منابعها وهذا يتولد عنه ضياع الباحث في زحمة الترجمات المتنوعة غير المؤسسة على منهجية واضحة،حيث غالبا ما تتعلق بالأهواء الفردية للمترجمين وأهدافهم الخاصة،لكن يتوجب بالضرورة ألاّ يغفل هؤلاء الأهداف العلمية للترجمة لأنّ الترجمة تشكل ضرورة ملحة من أجل معرفة الآخر وخلق جسر للتواصل الحضاري معه،لكن بالمقابل ينبغي علينا أن نعرف ما ذا نترجم عن الغرب وكيف نترجمه "لأنّ الناقد الذي لا يتقن اليوم لغة أجنبية يشكو من نقص في الأدوات المنهجية قد لا تعوضه الترجمات التي تأتي متأخرة في ظل غياب مشروع قومي ووطني للترجمة في الوطن العربي "1
إضافة إلى أنّ المترجمين العرب لا يأخذون عن لغة أجنبية واحدة،وهذا سيخلق بالطبع اختلافا بل تشويشا في تلقي النصوص والنظريات والمفاهيم والمصطلحات عند القارئ العربي.2
وقد أدت الترجمة إلى مشكلة أخرى وهي تغريب المصطلح النقدي، فالقارئ للخطاب العربي بصفة عامة والنقدي بصفة خاصة يجده" يعج بمصطلحات ومفاهيم كثيرة يجهد الباحث نفسه لفهمها فيعجز أو يصل وصول غير المتأكد من دقة ما وصل إليه،ولعل السبب في هذا كون أغلب هذه المفاهيم مسوقة في –صيغة لفظية- لم يعهدها القارئ العربي،ولا تنتمي إلى ذخيرة مفرداته لكونها قد أدخلت إلى عالمه فاحتفظت بشكلها المأخوذ من المصدر فتبدو لاتينية، أو إنجليزية أو فرنسية....وذلك تبعا للغة الناقل أو لكونها قد عربت فتبدو عربية في الظاهر لاحتوائها أصواتا بل قل أحرفا عربية بيد أنّها لا تمت في حقيقة الأمر إلى العربية بصلة لأنّها لا تعبر عن مضمونها"3
وهذا ما خلق لدينا تشويش في تلقي هذه المصطلحات والمناهج الغربية وبالتالي اختلاف في درجة تقبلها حيث نلاحظ مجموعة من المصطلحات باللغة الأجنبية يقابلها ألفاظ كثيرة مما يؤدي إلى التشويش في تلقي الخطاب الغربي وفهمه في الثقافة العربية مثلا:
يقابله بالعربية الألفاظ الآتية: تفكيك، تفكيكية، تقويض، تشريح.déconstruction مصطلح
مصطلح(sémiotique-sémiologie) يقابله بالعربية:
السيميولوجيا،السيميوطيقا،السيميوتكيا،السيميائية،السيمياء،علم السيمياء،السيميائيات،علم العلامات، العلامية، العلاماتية،علم الأدلة،الدلائلية، الأعراضية.
من هنا يجد القارئ للخطاب النقدي العربي نفسه يقرأ كتابات بلغته ولكنها ليست من لغته أصلا فهي تعج بمصطلحات ترتدي لباسا عربيا ولكنها ليست عربية مثلا:صوتم –لفظم-صرفم-صويتم،كأنّها كلمات عربية ولكنها غير عربية.
*الانفتاح اللاواعي على المناهج النقدية الغربية:
تختلف درجة الانفتاح بين النقاد العرب على المناهج النقدية الغربية الحديثة وكيفية الاستفادة منها حيث بات النقد العربي الحديث أكثر من أي وقت مضى متلهفا بل ومتلقفا لكل ما يظهر في الغرب من مذاهب ومناهج نقدية دون هضمها وتمثلها ولابدّ أن نؤكد على أن الاستفادة من المناهج والنظريات الغربية مشروعة وضرورة تحتمها اللحظة الحضارية التي نعيشها ولكن لابد أن ننتبه إلى أنّ هذه المناهج والنظريات يتم إنتاجها ضمن زخم ثقافي وفكري وعلمي خاص بها وفي إطار سياقات معرفية وفلسفية محددة وبغية تحقيق أهداف معينة بالنظر إلى المجتمعات التي أنتجتها واللغة التي كتبت بها والنصوص التي طبقت عليها "فلا يكون إذا انفتاحنا عليها إذا لا مشروطا ومرتهنا أبدا بمرجعيتها المختلفة"4
إنّ مقولات المناهج الغربية ومعطياتها ليست أبدا مجرد خطوات منهجية مفصولة عن خلفياتها الإبستمولوجية،وإنما تمتد جذورها لترتبط برؤى فكرية معتمة وهي التي تشكل أسسها المعرفية التي يرتكز عليها المنهج،والوعي بها ضرورة حتمية لأنه لابد من توفر " الوعي النقدي" القائم على إدراك الفوارق بين الأوضاع على التكيف مع منجزات العصر،لأن هذا يمكننا من المقارنة الموضوعية بين الأشياء،ومن القراءة الموضوعية وبعيون واعية،وهذا يدفعنا إلى الاعتماد على ذواتنا والإبداع بأنفسنا دون العودة إلى الآخر، خاصة في هذا الوقت الراهن فالمنطلقات مختلفة فنا يجيزه الغرب ربما يتنافى مع ما نرضاه نحن،لأن جميع تلك المناهج الغربية هي وليدة المهد الغربي وبعيدة كل البعد عما ألفناه،ففي التفكيكية مثلا كان "من الصعب تماما أن نفهم أفكار أحد مؤسسي هذه المدرسة أو الفلسفة أو المنظور مثل جاك ديريدا"5
فنحن بحاجة إلى صياغة مناهج تنطلق من أرض عربية لأنها ستطبق على نصوص عربية بطبيعتها،
وأمة مثل أمتنا تملك رصيدا فكريا وفلسفيا ولو في أشكاله البدائية،كفيلة بأن تصنع لنفسها المناهج والطرائق التي تناسب نسق تفكيرها،وطبيعة أدبها، ولن يتأتى ذلك إلا بتضافر الجهود،وإخلاص النية في تطوير البنية النقدية،والمنظومة الفكرية عموما. فما أحوجنا إلى فلسفة عربية معاصرة تتميز عن باقي الفلسفات،وتشق لأبنائها طريق إبداع المعارف المختلفة اصطلاحات ومناهج وأدوات إجرائية تلقى القبول عند الأديب المنتج،والقارئ المتلقي على السواء.ولا بأس أن نستفيد من تجارب غيرنا،وبالأخص من سلبيات التطبيقات المختلفة، التي كشف الزمن قصورها أو خللها،أو انعدام عائدها على الإنسان وفكره، فإذا تجاوزنا مرحلة الشعور بالنقص أو الدونية،نكون قد خطونا الخطوات الأولى نحو الوصول إلى الهدف.
ثم تأتي ضرورة مسايرة النص الأدبي للنص النقدي،والمعلوم أن الثاني يشتغل على الأول فإذا انطلق النقد من غير واقع النص الأدبي،كان الناقد كمن يتحدث من أجل الحديث. ومن غير المستساغ أن نُسقط التطبيقات الغربية على نص يتميز بخصائص مغايرة عن النص الغربي لأن ذلك يؤدي إلى اغتراب النص العربي في هذا الزخم النقدي والمعرفي الذي ينهال عليه من كل حدب وصوب،دون أن يكون النص نفسه مستعدا لأن يقول ما يراد منه.
وإنه من غير المنطقي أن نقف من النظريات النقدية المعاصرة موقف العداء أو الخصومة،وبالمقابل لا يمكن أن نجاريها على عيوبها أو نقائصها أو قصورها في إبراز قيمة النص إن سلمنا بوجود هذا القصور. بل لا يمكننا– ونحن نقرأ نقد الغربيين أنفسهم لنظرياتهم النقدية– أن نعطيها أكثر مما تستحق،أو أكثر مما نقتنع به بخصوص أهميتها في دفع النقد إلى الآفاق البعيدة. وأكثر ما يعيب المرء في التعامل معها هو العداء لها لمجرد كونها نظريات غربية مستحدثة،أو التحمس الأهوج لها على حد تعبير جابر عصفور.
إن النظريات النقدية المعاصرة مثلها مثل أي إنتاج إنساني لا بد لها من نقد،أو إعادة نظر. خاصة في زمن العولمة التي تسخر كل ما هو متاح من جهد فكري في سبيل تحقيق ما يسميه البعض بالهيمنة الثقافية،غير أن الحكمة تتطلب عدم التهويل في هذا الأمر،والعمل بعقل ومسؤولية في أن نكون طرفا فاعلا في حركية هذا الكون،ولن يتأتى ذلك إلا بعد أن نصل إلى مرحلة نضع فيها الأمور في حدودها المنطقية، مع اعتماد التصحيح و المراجعة.
علينا أن نتخذ العبرة من نقادنا وعلمائنا الأوائل ففي أوج الحضارة العربية عرفنا امتزاجا ثقافيا شاسعا فأخذنا عن الثقافة اليونانية والفارسية والهندية وغيرها،ولكن بترو وحكمة غربلنا تلك المعارف لنستفيد ولكن بذكاء،فأخذنا ما يتماشى والدين الإسلامي واستفدنا بكل وعي نتيجة التطلع العارف والواعي.
و إذا عدنا إلى العصر الحالي نجد أنفسنا نعيش ضمن منظومة عالمية تعرف تعملقا رهيبا في التقدم التكنولوجي والفكري،وفي ميدان اللغة والنقد،فإذا كان لدينا أمن ثقافي وحصانة فكرية في تراثنا ولغتنا وكانت لدينا المعرفة الكافية باللغات الأجنبية،فإننا نعرف الكيفية الكفيلة بجعلنا ننفتح على الآخر إنفتاحا صحيحا،ونعرف كيف نجعل اختلافنا يكون ائتلافا ورحمة بيننا ويكون في الفروع لا في الأصول وتلك تعتبر علامة طبيعية على الدوام والاستمرار.
1-محمد خير البقاعي: تلقي رولان بارت في الخطاب العربي النقدي واللساني والترجمي،كتابه"لذة النص" نموذجا،عام الفكر المجلد السابع والعشرون، العدد الأول -1998ص27.
2-انظر نفس المرجع
3-خالد محمود جمعة: اللسانيات ولغة الأدب –علامات في النقد،ديسمبر1994،ص118-119
4-بشير إبرير:مرجعيات التفكير النقدي العربي الحديث،المؤتمر الثامن للنقد الأدبي،جامعة اليرموك،إربد، المملكة الأردنية،2000،ص19
5-رمضان حينوني:مناهج النقد المعاصرة (الانترنت)
مشاركة منتدى
24 حزيران (يونيو) 2014, 17:21, بقلم رمضان حينوني
هذا المقال المنشور بعنوان " المناهج النقدية المعاصرة وتغريب النص النقدي العربي" هو مقال مأخوذ في معظمه من مقالي الذي بحمل نفس العنوان ، أضافت الكاتبة فقط كلمة العربي في آخره ونسبته إليها . كما أن إشكالية المقال ومعظم معلوماته مأخوذة كما هي في مقالي .
أحالت الكاتبة إلى اسمي في الإحالة الخامسة لكنها لم تجرؤ على ذكر عنوان المقال صحيحا لأنه هو نفسه عنوان مقالها, وهي لم تأخد فقط الفقرة التي استعملت فيها الإحالة بل الموضوع كله هو فكرتي ولم تفعل شيئا إلا إدخال بعض التعابير الخاصة بها .
كنت قد نشرت مقالي هذا في عدة مواقع أحيلكم إلى أحدها للمقارنة .
http://www.startimes.com/f.aspx?t=28021370
د. رمضان حينوني / الجزائر