وتفكيك نظام الأبارتهايد الصهيوني
هذه المقالة محاولة لإعادة قراءة مسار الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وعرض المراحل التي مرّ بها المشروع الوطني الفلسطيني منذ الخمسينيات وحتى الآن، وصولًا إلى تحليل المرحلة الراهنة في النضال الفلسطيني، وبالتالي رسم ملامح مشروع وطني فلسطيني مقاوم يتلاءم مع ميزان القوى، ويسعى باطّراد لتغييره عبر صوغ استراتيجيتا تشكّل مخرجًا من المأزق الحالي، وتضمن وحدة الشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده، وبمختلف تياراته السياسية والفكرية، وتمكّنه من دحر الاحتلال وتفكيك الكيان الصهيوني، وإقامة دولته الديمقراطية.
المشروع الوطني الفلسطيني عبر التاريخ
انتهت حرب 1948 بما عُرف بالنكبة، ومعها فقد الفلسطينيون أغلب أراضيهم، وهُجّروا من ديارهم. كما فقدوا كيانهم السياسي، وقوتهم المسلحة الضئيلة الباقية، فحكومة عموم فلسطين لفظت أنفاسها لحظة ولادتها، وتحوّل رئيسها أحمد حلمي عبد الباقي إلى ممثّل لفلسطين في جامعة الدول العربية. أمّا "جيش الجهاد المقدس"، التابع للهيئة العربية العليا، فنُزع سلاحه وسُرّحت وحداته المنتشرة في الضفة الغربية.
ومنذ ذلك الوقت، شكّلت فكرة تحرير فلسطين هاجسًا دائمًا للأجيال الفلسطينية المتعاقبة، وإن اختلفت الرؤى والطرق إلى تحقيق ذلك. فقد اُستخدمت القضية الفلسطينية في صراعات الأنظمة العربية في ما بينها أو في مواجهة خصومها في الداخل، وبموازاة ذلك لم تغب عن الساحة الدولية يومًا مبادرات ومشاريع سياسية وقرارات دولية خاصة بالقضية الفلسطينية، حتى بات ممكنًا القول إنّها غطت جميع الحقب الزمنية، وما زالت تتوالى حتى اليوم. وفي ذلك كله ما يؤكد أهمية القضية الفلسطينية المحورية في راهن المنطقة ومستقبلها، ومحاولات القوى الدولية والإقليمية الدائمة لاستخدام القضية الفلسطينية في نزاعاتها، أو إيجاد حلول جزئية لبعض مشكلاتها أو تجميدها، أو إلهائنا بحلول مقترحة ما تلبث أن تختفي ليحل مكانها أفكار جديدة.
بعد النكبة اتجهت أنظار الشباب الفلسطيني نحو الأحزاب العربية بتلاوينها الفكرية المختلفة؛ قومية كانت أم يسارية أم إسلامية، وشارك هؤلاء الشباب في تأسيسها وقيادتها، على قاعدة أنّ استراتيجيا تحرير فلسطين تنطلق من تغيير الواقع العربي عبر تسلّم هذه القوى الناشئة أنظمة الحكم في بعض الأقطار العربية. وترافق ذلك مع التعلق بتحقيق وحدة قطرين عربييْن أو أكثر. في وقت ظهرت أفكار تتعلق بالكيان الفلسطيني في قطاع غزة، مترافقة مع تشكيل بعض الخلايا العسكرية المنفردة أو المرتبطة بالنظام المصري أو السوري.
لاحقًا، في مرحلة الستينيات، وأمام تنامي النزعة إلى تشكيل منظمات فلسطينية تسعى بشكل رئيس إلى حشد طاقات الشعب الفلسطيني باتجاه فلسطين، شكّل أعضاء الأحزاب فروعًا خاصة بالفلسطينيين في الأحزاب التي ينتمون إليها. ويمكن اعتبار أنّ الاتجاه العام في تلك المرحلة الممتدة حتى حرب حزيران/ يونيو 1967 تمثّل في المحافظة على الهوية الفلسطينية، ورفض مشاريع التوطين، والتطلّع لمتغيّرات في الواقع العربي واستعداداته لتحرير فلسطين. وجاء تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة أحمد الشقيري، وتشكيل جيش التحرير الفلسطيني وفق هذا السياق الذي يتضمن إعداد الشباب الفلسطيني للمشاركة مع الجيوش العربية النظامية في معركة التحرير ضمن الاستراتيجيا العربية الرسمية.
وإذا كان هذا هو الاتجاه العام السائد في تلك المرحلة، إلّا أنّه، ومنذ منتصف الخمسينيات، ترافق ذلك مع فكرة تأسيس حركة تحرّر وطني فلسطيني من خلال بؤر عدة تحمل أفكارًا متقاربة، وتلتقي حول أشكال وتجمعات وروابط سياسية واجتماعية ونقابية في غزة ومصر والأردن والكويت والسعودية وقطر وأوروبا. ففي الكويت عُقد اجتماع للخلية الأولى التي أسست حركة "فتح" في عام 1957، إلّا أنّ اسم "فتح" لم يظهر إلّا في عام 1959. وبدأت البؤر الأخرى بالانضمام إليها، لكنّ عملياتها العسكرية لم تبدأ سوى في مطلع كانون الثاني/ يناير 1965. وفي الوقت ذاته كانت إرهاصات مشابهة تدور أيضًا في أوساط حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي، وعبر تجمعات طلابية وعمالية.
حرب حزيران/ يونيو 1967
على الرغم من اختلال ميزان القوى كليًا لمصلحة العدو الصهيوني بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، فإنّ استراتيجيا فلسطينية مغايرة أُرسيت بعد الحرب، وإن كان التبشير بها قد سبق تلك الحرب بأعوام قليلة من خلال تشكيل خلايا للمنظمات الفلسطينية المسلحة. واعتمدت هذه الاستراتيجيا الكفاح المسلّح عبر حرب الشعب طويلة الأمد التي كان هدفها تحرير كامل التراب الفلسطيني، والتي نمت وتطورت في ظلها الثورة الفلسطينية المعاصرة.
أصبح هذا هدف المشروع الوطني الفلسطيني واستراتيجيته، وقد ساعدت ظروف ما بعد حرب حزيران/ يونيو على نمو هذا الاتجاه، إذ ضعف التأثير العربي الرسمي في منظمة التحرير الفلسطينية، وأصبح بالإمكان إعادة تشكيلها على أسس جديدة، وباتت أكثر استقلالية، وهيمنت فصائل المقاومة عليها، الأمر الذي وفّر لهذه الفصائل إطارًا سياسيًا شرعيًا سرعان ما نال اعترافًا عربيًا ودوليًا واسعًا. وأصبحت حركة "فتح" في موقع القيادة الرسمية للحركة الوطنية الفلسطينية عندما تولّت قيادة منظمة التحرير في شباط/ فبراير 1969، وتعمّقت استقلالية القرار الفلسطيني بحكم ضعف الأنظمة العربية المهزومة من جهة، ووهج المقاومة من جهة أخرى.
كما أدّى ضعف الأنظمة العربية بعد الهزيمة، والالتفاف الشعبي حول المقاومة، إلى تراخٍ في الضوابط الحكومية، فتمكّنت منظمات المقاومة من إقامة قواعد عسكرية لها في الأردن ولبنان، وتدخلت الدول العربية لاحقًا من أجل تخفيف الاحتقان الناتج من ذلك، وفرض اتفاقات تنظم وتشرعن هذا الوجود. وقد نجح هذا في لبنان، لكن في الأردن اندلعت اشتباكات مؤسفة في أيلول/ سبتمبر 1970 أدّت إلى خروج المقاومة الفلسطينية منه وفقدانها أهم مواقعها خارج الأرض المحتلة.
بداية التحوّل في المشروع الوطني
وإذا كانت هزيمة حزيران/ يونيو 1967 قد حفّزت إرادة القتال، فإنّ نصر حرب تشرين أول/ أكتوبر 1973 فتح الباب على مصراعيه أمام مشاريع التسوية، الأمر الذي أدّى إلى تغيير جذري في المشروع الوطني الفلسطيني.
بدأ ذلك التحوّل بالتدريج عبر تبنّي المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974 مشروع النقاط العشر الذي تضمن السعي لإقامة سلطة وطنية وُصفت يومها بأنّها "مقاتلة". كما أنّ نطاقها الجغرافي في ذلك الوقت، ولغايات تمرير المشروع، لم ينصّ صراحة على الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنّما "على أي بقعة تُحررها من الاحتلال". وسُمي ذلك بالحل المرحلي، لكنّه عمليًا وبالتدريج رسّخ مفهوم التخلّي عن تحرير كامل التراب الفلسطيني، وأدّى إلى التراجع عن هدف إقامة دولة ديمقراطية تتعايش فيها الأديان كافة.
لم تكن طريق الانخراط في مشروع التسوية مفروشة بالورود، ولم تكن بالسهولة التي تخيّلها البعض. فقد اعتقد البعض أنّ انسحابًا إسرائيليًا من الضفة والقطاع هو أمر حتمي بعد حرب تشرين، وأنّ هناك فراغًا يحتاج إلى من يملأه، وتمكّن الرئيس أنور السادات من إقناع القيادة الفلسطينية بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر مباشرة، في لقاء له مع صلاح خلف وفاروق القدومي، بأنّ الضفة يمكن أن تتسلّمها منظمة التحرير، إذا وافقت على حضور مؤتمر السلام المفترض عقده، أو تعود إلى الملك حسين. وشكّل ذلك أول توجه فلسطيني في اتجاه ذلك المسار الذي عمّق الخلاف مع النظام الأردني.
ومنذ ذلك الوقت، تحوّلت الاستراتيجيا الفلسطينية إلى استراتيجيا البحث عن مقعد في قطار التسوية، وانتزاع اعتراف عربي ودولي بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وبات على المنظمة أن تقدّم التنازل تلو التنازل لتنال الاعتراف الأميركي بها، وتثبت أهليتها للمشاركة في مباحثات السلام.
لم يتوقف قطار التسوية عند محطة منظمة التحرير بل تجاوزها، وبدلًا منه اشتعلت في لبنان نيران حرب أهلية، ما إن انتهت حتى توالت الاجتياحات الصهيونية، إلّا أنّ التعلق بسراب التسوية أدّى إلى تغيّرات عميقة في الاستراتيجيا الفلسطينية، فقد تحوّلت قاعدة الارتكاز المفترضة في لبنان إلى منطقة نفوذ وورقة قوة لتأكيد مكانة منظمة التحرير وحقها في المشاركة في التسوية المتخيلة. وتحوّلت استراتيجيا الكفاح المسلح وحرب الشعب إلى استراتيجيا الدفاع عن الثورة وبقائها، في ظل محاولات العدو الصهيوني إضعافها والقضاء عليها، والدفاع عن الذات في خضم المعارك الداخلية التي خاضتها مع أطراف عربية للدفاع عن وجود الثورة وإنجازاتها، وحقها في المشاركة بأي تسوية مقبلة؛ وأصبح القرار الفلسطيني المستقل، ومقررات مؤتمر القمة العربي في الرباط التي اعترفت للمنظمة بالصفة التمثيلية للشعب الفلسطيني، بوابة الدخول في معترك التسوية.
في هذه المرحلة، حافظت القيادة الفلسطينية على المقاومة المسلحة دون أن ترتقي بها إلى استراتيجيا الحرب الشعبية، وفي الوقت ذاته كانت تشق طريقها نحو التسوية، وسط عقبات عربية ودولية ومعارضة شديدة من العدو الصهيوني الذي كان يحاول فيها فرض بدائله، مثل روابط القرى، وعرض أشكال من الحكم الذاتي المحدود الذي يدير شؤون السكان دون تحقيق الانسحاب أو إعطاء أي مظهر للسيادة، وهو ما يتيح له بالتدريج ابتلاع الأرض العربية وضمها إليه. وترافق ذلك مع اجتياح بيروت في عام 1982، ومحاولة العدو إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان.
الانتفاضة تعيد فلسطين إلى الصدارة
بعد الخروج من بيروت في عام 1982 وحرب المخيمات، وتوزّع قوات الثورة الفلسطينية على المنافي العربية، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، بعد مقتل أربعة شبّان عرب في قطاع غزة، في إثر حادث سير مع سيارة عسكرية صهيونية في 8/ 12/ 1987. لكنّ ذلك لم يكن إلّا شرارة أشعلت حقلًا وأطلقت الانتفاضة الأولى التي استمرت ستة أعوام، وتميّزت بأشكال متقدّمة من المقاومة الشعبية للاحتلال، وأعادت القضية الفلسطينية مرة أخرى إلى صدارة الحوادث، وكرّست قيادة منظمة التحرير عاملًا رئيسًا في أي حل للقضية الفلسطينية.
جاء التحوّل الأبرز في الاستراتيجيا الفلسطينية في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في عام 1988، والذي كرّست قراراته الاتجاه بشكل نهائي نحو إقامة دولة فلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، أي الضفة الغربية وقطاع غزة، ومهّدت الطريق للاعتراف بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242. وقد انعكس هذا على برنامج قيادة منظمة التحرير للانتفاضة الأولى التي استمرت ستة أعوام، وأسفرت عن مشاركة وفد فلسطيني ضمن مظلة أردنية في مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991.
وبإيجاز شديد، أدّى سقف البرنامج السياسي لمنظمة التحرير، علاوة على الحصار الذي تعرّضت له بعد حرب الخليج الأولى، ورغبتها في الاستثمار السريع للانتفاضة، إلى موافقتها على الذهاب إلى مدريد في وقت كان وفد فلسطيني يُجري مباحثات سرية مباشرة مع وفد صهيوني في أوسلو أسفر عن انتهاء مباحثات مدريد، وتوقيع إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي، وهو ما عُرف باتفاق أوسلو.
اتفاق أوسلو.. التخلّي عن الكفاح المسلّح
نقل اتفاق أوسلو الاستراتيجيا الفلسطينية إلى وضع جديد كليًا، إذ جرى التخلي عن الكفاح المسلح، واعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بـ "إسرائيل"، في حين اعترفت "إسرائيل" بأنّ منظمة التحرير الفلسطينية هي الجهة الوحيدة التي تمثل الفلسطينيين في مفاوضات الحل النهائي وترتيباته، بمعنى أنّها لم تعترف بأي من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وإنّما اكتفت بالاعتراف بالصفة التمثيلية لمنظمة التحرير للتفاوض بشأن القضايا المختلف عليها ضمن مفاوضات الحل النهائي. كما أنّ الانسحاب من المناطق التي اُصطلح على تسميتها بمناطق "أ"، وشملت المدن الكبرى، وسُلّمت إدارتها للسلطة الفلسطينية، اتخذ صيغة إعادة انتشار للجيش الإسرائيلي، وليس انسحابًا من هذه المناطق، وهو الوضع الذي لم يدم طويلًا، إذ أعاد الجيش الإسرائيلي اقتحامها في الانتفاضة الثانية.
حل الدولتين والتنازل المتدرج
أصبح المشروع الوطني الفلسطيني هو حل الدولتين، وباتت الاستراتيجيا الوحيدة المتاحة هي المفاوضات لفترة انتقالية تمتد إلى خمسة أعوام، قبل الوصول إلى الحل النهائي المنشود. لكنّ الرئيس ياسر عرفات أدرك في عام 2000، بعد مباحثات كامب ديفيد، أنّ المفاوضات وصلت إلى أفق مسدود. وقدّر أنّه لا بد من ممارسة ضغط إضافي لحمل الكيان الصهيوني على قبول الحدّ الأدنى من المطالب الفلسطينية، فقام برعاية الانتفاضة الثانية التي كانت شرارتها زيارة أريئيل شارون للمسجد الأقصى في 8/9/2000، بل شجع على أن تنحو منحىً عسكريًا، معتقدًا أنّ ذلك من شأنه ربط مفهوم الأمن الإسرائيلي بالسلام مع الفلسطينيين، والعودة إلى المفاوضات من موقع أقوى.
بعد استشهاد ياسر عرفات، أُعيد إنتاج اتفاق أوسلو، لتعود دائرة المفاوضات من جديد ضمن مرجعية جديدة قوامها ما يمكن أن يتفق عليه أطراف النزاع. لم يعد الاحتلال والاستيطان وشرعيته موضوع المفاوضات التي غرقت في التفصيلات، وإنّما أصبحت المفاوضات تلد أخرى من دون التوصل إلى أي نتيجة، ورُبطت أغلبية الشؤون اليومية الفلسطينية بسياسة الاحتلال وإجراءاته، وتصاعدت صيحات المسؤولين بأنّهم سلطة بلا سلطة، وارتفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس إلى ما يقارب 750,000 مستوطن، وقام الكنيست الصهيوني بتشريع قانون يميّزهم عن السكان الفلسطينيين في مقدّمة لإعلان ضم المستعمرات إلى الكيان الصهيوني.
وإذا علمنا أنّ المناطق التي يسيطر عليها الاستيطان، أو ما يُعرف بالمنطقة "ج"، تبلغ مساحتها 62%، بينما تبلغ مساحة القدس الكبرى 22%، فإنّه لم يتبقَ للفلسطينيين في الضفة الغربية سوى 16%، ضمن مدنهم وقراهم المفصولة بعضها عن البعض الآخر.
فشل مشروع أوسلو تمامًا، وتنصلت منه مقررات المجلسين المركزي والوطني. وراوحت المفاوضات مكانها ثم توقفت، وابتلع الاستيطان الضفة الغربية، والتهمت المستعمرات حل الدولتان، وباتت محاولات المصالحة الفلسطينية حلمًا، بينما تكرّس الانقسام كابوسًا ثقيلًا، فقطاع غزة ما زال محاصرًا بعد ثلاثة حروب خاضها منفردًا، والقضية الفلسطينية، كقضية عربية مركزية، تراجعت عن موقعها، وبعض العرب باتوا منشغلين بحروبهم ومعاركهم وفتنهم الداخلية، وبخلق تناقضات جديدة تشعل حروبًا في أرجاء المنطقة، والمشروع الفلسطيني أضحى أمام مواجهة واضحة مع المشروع الصهيوني التوراتي الذي يستهدف فلسطين كلها.
لم تُبلور أي سياسة فلسطينية جديدة للخروج من عنق الزجاجة الحالي، إذ لا تزال السلطة توهم الجمهور الفلسطيني بأنّ ثمّة حلولًا ومبادرات جديدة على الطريق، عبر الحديث عن مُهل تعطى للعدو وللمجتمع الدولي قبل إعلان فشل مسار التسوية والمفاوضات، أو التلويح باللجوء إلى المنظمات الدولية ومجلس الأمن أو إيهامه بأنّ هناك إجراءات وشيكة مقبلة مثل قرارات المجلس المركزي بوقف التنسيق الأمني أو الوطني لاحقًا، والتي لم ترَ النور، وذلك كله من أجل إبقاء السلطة في الدائرة ذاتها باعتبارها البديل الوحيد المتاح.
في مواجهة صفقة القرن
جاء اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني بمنزلة إعلانٍ مبكّر لانطلاق هذا المشروع، وتمهيدٍ له عبر إخراج القدس من دائرة المفاوضات. كذلك، وبحسب التسريبات، إخراج قضية المستعمرات واللاجئين "حق العودة" منها. أي إنّ ما بات مطروحًا للبحث هو ترتيبات لحكم ذاتي محدود يتعلق بالسكان وليس بالأرض.
لاحقًا، وبحسب التصريحات المتعاقبة للمسؤولين الأميركيين، وخصوصًا مبعوث الرئيس الأميركي للشرق الأوسط جيسون غرينبلات، فأنَّ المشروع الأميركي للسلام لن يتضمن عودة للمفاوضات بين الفلسطينيين والصهيونيين، كما كان سائدًا. كما أنَّ السلام مع الفلسطينيين ما هو إلّا منتج ثانوي لمشروع سلام عربي- إسرائيلي يفتح نافذة للسلام مع الفلسطينيين.
ويعتمد هذا المشروع على إعادة صوغ التحالفات في المنطقة العربية، وتغيير أولويات الصراع فيها، بحيث تصبح إسرائيل جزءًا أساسيًا من تحالف إقليمي يضم إلى جانبها بعض الدول العربية، ويرفع التناقض مع دول إقليمية أخرى، مثل إيران، من مرتبة خلاف سياسي ونزاع على مناطق النفوذ إلى خلاف رئيس له الأولوية على كل ما عداه، وخصوصًا القضية الفلسطينية. وبمعنى آخر، الاعتراف بدور إقليمي لإسرائيل يتيح لها التدخل في قضايا المنطقة العربية، عبر استعادة دور الشرطي الذي فقدته خلال حرب الخليج، وإيجاد حل إقليمي للقضية الفلسطينية وتصفيتها بمعزل عن إرادة الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة.
موقف الرئيس محمود عباس
بداية، يجب القول إنَّ الرئيس محمود عباس لم يكن مرتاحًا للتسريبات التي وصلت إليه عن صفقة القرن التي وصفها محقًا بأنّها "صفعة القرن". وعارض بشدة اعتراف ترامب بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل. ومعلوم موقفه في مؤتمر القمة الإسلامي الذي عُقد في إسطنبول في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2017، واعتباره أنَّ الولايات المتحدة لم تعد وسيطًا نزيهًا للتوسط لإحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ورفضه استقبال نائب الرئيس الأميركي، وعرض قرارات ترامب على مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، الأمر الذي أدّى إلى إظهار الولايات المتحدة معزولة على المستوى الدولي، إذ لم يقف معها سوى الكيان الصهيوني وبضع دويلات لا أثر لها في السياسات الدولية.
كما سعى الرئيس محمود عباس جاهدًا لمحاولة إشراك أطراف أخرى في رعاية عملية السلام المتخيلة، وحملها على الضغط على الولايات المتحدة، مثل روسيا والاتحاد الأوروبي والصين. وقد عرض مشروعه في خطبته أمام مجلس الأمن الدولي في 20 شباط/ فبراير 2018، والذي اقترح فيه "تشكيل آلية دولية متعددة الأطراف لحل قضايا الوضع الدائم بحسب اتفاق أوسلو"، وهي: قضايا القدس والحدود والأمن والمياه والمستعمرات والأسرى واللاجئين، وطالب بعقد مؤتمر دولي للسلام تحضره جميع الأطراف بإشراف الأمم المتحدة. واشترط أن تلتزم أطراف النزاع "بالتوقف عن اتخاذ الإجراءات الأحادية التي تؤثر في مفاوضات الحل النهائي"، وقدّم من جهته وعدًا بعدم الانضمام إلى 22 منظمة دولية كان قد تعهد سابقًا بالانضمام إليها، أمام الدورة 28 للمجلس المركزي لمنظمة التحرير الذي عُقد في رام الله في 16 كانون الثاني/ يناير 2018.
إنّ ما سيُعرض على الفلسطينيين ضمن مشروع ترامب لا يتعدّى كونه كانتونات منفصلة ومتقطعة الأوصال في الضفة الغربية على أقل من 16% من مساحة الضفة، وذلك ضمن حكم ذاتي على السكان، وليس دولة ذات سيادة، ومرتبط عضويًا بالنظام الصهيوني والإدارة الإسرائيلية. وإذا جرت محاولات لتجميل هذا الحل فسيجري الضغط على الأردن لإيجاد دور له في ذلك.
نعم، رفض الرئيس عباس هذا المشروع، لكنّه لم يستطع الخروج من دائرته، واكتفى بتدوير الزوايا، ففي خطبته أمام مجلس الأمن في شباط/ فبراير أعاد طرح ما قيل منذ عام 1974 حين طرح مشروع المؤتمر الدولي للسلام. لكن من الواضح أنّ ثمّة استدارة عن مقررات المجلس المركزي، وعدم رغبة فيها، أو ربما عدم قدرة، على الذهاب في مواجهة المشروع الأميركي حتى النهاية. ولذا، جرى الاكتفاء بإحالة توصيات المجلس المركزي إلى لجانٍ فنية، أي دفنها في الأدراج، والاكتفاء بموقف مبدئي يعارض المبادرة من دون اتخاذ خطوات جدية في مواجهتها. وقد يكون ذلك تمّ بناءً على مشورة بعض الأطراف الإقليمية التي نصحته بتجنب المواجهة مع الولايات المتحدة أو تغيير نمط العلاقة السائد مع الكيان الصهيوني في الفترة الحالية.
ترافق ذلك مع دعوة خبيثة إلى قيام دولة فلسطينية في قطاع غزة تمتد إلى أجزاء من سيناء، ضمن ترتيبات إقليمية توهم الفلسطينيين بأنّ لهم دولة، وتهدف حقيقة إلى تصفية القضية الفلسطينية. ومن هنا، تأتي أهمية المبادرة إلى احتضان القطاع، وليس فرض العقوبات عليه، فالموضوع أكبر من شروط للمصالحة يفرضها هذا الطرف أو ذاك، وأخطر من المطالبة بتمكين وهمي على سلطات زائلة.
نحو مشروع وطني فلسطيني جديد
ثمّة نقطتان مهمتان حكمتا على اتفاق أوسلو بالفشل قبل أن يجف الحبر الذي وُقع به؛ الأولى أنّه لم يتعامل مع جميع مكونات القضية الفلسطينية، إذ ركّز على إقامة حكم ذاتي انتقالي في الضفة الغربية، وأهمل الشتات والفلسطينيين في فلسطين المحتلة منذ عام 1948، كما أنّه أجّل القضايا المهمة كلها إلى مفاوضات الحل النهائي، بعد أن قدّم اعترافًا مجانيًا بحق إسرائيل في الوجود، تاركًا كل شيء معلقًا، بل أنّه حتى لم يوقف الاستيطان أو يُفرج عن الأسرى أو ينجز انسحابًا إسرائيليًا من المناطق الفلسطينية. وعلى العكس من ذلك، رُبط كل شيء بالإدارة الإسرائيلية في ما يتعلّق الأمن والاقتصاد بتفصيلاتهما الكبيرة والصغيرة، وفُسح المجال أمام الدول العربية الأخرى للتطبيع مع العدو، والتنصل من التزاماتها تجاه القضية الفلسطينية. والنقطة الثانية هي أنّ توقيع هذا الاتفاق، ورهن جميع القضايا الرئيسة فيه بالمستقبل، إنّما ينمّ عن عدم إدراك حقيقي لماهية المشروع الصهيوني في فلسطين.
لقد تبلور اتجاهان في الحركة الصهيونية، عُبّر عنهما بعد إعلان قيام إسرائيل، وذلك حين احتجّ بعض الصهيونيين على ديفيد بن غوريون لأنّه لم يسمح للهاغانا بالتقدّم لاحتلال فلسطين كلها والوصول إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن، وهو ما سنُطلق عليه الاتجاه التوراتي. أمّا الاتجاه الآخر فهو الذي مثّله من يمكن اعتبارهم الآباء الأوائل لإسرائيل من بن غوريون، وصولًا إلى يتسحاق رابين الذي قتله أحد المتطرفين اليهود المتأثرين بالاتجاه التوراتي. وهذا الاتجاه الثاني يربط توسّع الدولة الصهيونية بازدياد نسبة اليهود إلى عدد السكان الإجمالي، وقد حذّر بن غوريون في ردّه على منتقديه من أنّ اختلال هذه النسبة تجعل من المجتمع الإسرائيلي مكانًا لممارسة جميع أشكال التمييز العنصري. أي إنّ قدرة الدولة على التوسع مرتبطة بزيادة عدد المهاجرين إليها.
في الأعوام الأخيرة تغيّرت المعادلة داخل المجتمع الصهيوني الذي ازداد انحرافًا نحو اليمين الصهيوني التوراتي، وأصبحت عملية التوسع الصهيوني مرتبطة بمزاعم الحقوق التاريخية والدينية. لذا، نلاحظ موجة من القوانين العنصرية التي يجري تقديمها في الكنيست وتتعلق بيهودية الدولة، أو ما يسمونه الدولة القومية التي ستحكمها قوانين خاصة باليهود وأخرى خاصة بالعرب، إذ لن تنطبق على العربي صفة مواطن في الدولة، بل سيُعتبر مقيمًا فيها، وإن قام بما يعتبره العدو مخالفات أمنية، مثل التظاهر والرشق بالحجارة، فإنّ هذا يُعتبر مبررًا كافيًا لإبعاده وطرده. وقد أُقرّ مؤخرًا قانون خاص بذلك ينطبق على أهل القدس، وثمّة مشاريع متعددة تتحدث عن سيناريوهات ضم الضفة الغربية وتقسيم العرب وفق درجات مختلفة، بحسب ولائهم للدولة العبرية.
لق انتهى حل الدولتين ومات ودفنته المستعمرات وربع قرن من المفاوضات. كما أنّ حل الدولة الواحدة، ككيان ديمقراطي تتعايش فيه جميع الأديان، مرهون بتفكيك البنية الصهيونية للدولة العبرية، لكنّه ما زال حلًا بعيد المنال. وإن كان يجب الحذر من الذين يظنون أنّهم بتلويحهم بفكرة حل الدولة الواحدة يخيفون الخصم فيلجأ إلى حل الدولتين، على اعتباره أهون الشرور، أو أولئك الذين يستخدمون الفكرة ذاتها للتقليل من مخاطر الاستيطان وضم الأراضي، على اعتبار أنّ الجميع سيكون في دولة واحدة. إنّ شرط تحقيق الدولة الواحدة، كدولة ديمقراطية، في فلسطين هو الخلاص النهائي من الصهيونية.
الحل المطروح من وجهة نظر صهيونية هو حل الدولة الواحدة بنظامين؛ نظام عنصري للعرب وآخر لليهود، هو حل الدولة القومية اليهودية التي يعيش فيها العرب في ظل كانتونات، هو نظام بقاء الاحتلال وتطبيق نظام الأبرتهايد والتمييز العنصري ومصادرة الأراضي وتكثيف الاستيطان وتهجير الفلسطينيين بالوسائل المختلفة.
تفكيك نظام الأربهايد الصهيوني
لا يمكن مواجهة المشروع الصهيوني بأنصاف حلول، ولا توجد مساحات بيضاء ومساحات رمادية للتفاوض عليها، وهذا نابع من طبيعة المشروع الصهيوني نفسه، ومن روايته التاريخية التي لا يمكن مواجهتها إلّا عبر التمسك بروايتنا نحن، وأي تخلٍ عنها يعني الانزلاق المتدرج في سلسلة من التنازلات تبدأ ولا تنتهي، والتجربة التاريخية خير شاهد على ذلك. فأي مشروع وطني فلسطيني يجب أن يكون مشروعًا ممثلًا للشعب العربي الفلسطيني كله بجميع مناطقه، ويعبّر عن تطلعاته: حق العودة في الشتات؛ دحر الاحتلال في الضفة والقطاع؛ رفع الحصار عن غزة؛ نضال أهلنا في فلسطين المحتلة منذ عام 1948 في التثبت في أرضهم، وضدّ القوانين العنصرية التي تستهدف إبعادهم عنها. إنّ هذا يعني وحدة البرنامج الوطني الفلسطيني، مع تقدير خصوصيات قضاياه المتعددة التي فرضها واقع النكبة والاحتلال، من دون المساس بوحدة قضيته وثوابته الوطنية.
كما أنّ بذور فناء المشروع الصهيوني تكمن في داخله، باعتباره مشروعًا صهيونيًا استعماريًا عنصريًا، وانجراف هذا المشروع أكثر فأكثر باتجاه نظام الأبرتهايد يوسع من آفاق تعزيز النضال ضدّه، ويمكّن من تحقيق أوسع جبهة عربية وعالمية ضدّه.
ذلك أنّ نظام الأبرتهايد الصهيوني أعمق كثيرًا، ومختلف عن ذلك الذي كان يمارس في جنوب أفريقيا، فهو نظام يمسّ شرائح الشعب الفلسطيني كله؛ فمن جهة يمارس هذا النظام على الفلسطينيين في الشتات بطردهم وتهجيرهم من أرضهم وبلدهم، ومنعهم بالقوة من العودة إليها، بينما يسهّل ويشجع اليهود، بالنظر إلى ديانتهم، بالهجرة والاستيطان في فلسطين. كما أنّه، وعبر احتلاله العسكري للضفة، وحصاره لقطاع غزة، وأوامر الاحتلال العسكرية وإقامة المستعمرات، ومصادرة الأراضي، وما إلى ذلك من ممارسات احتلالية، يرسخ أشكالًا متعددة من الأبرتهايد، وهو ما ينطبق أيضًا على الشعب الفلسطيني في فلسطين المحتلة وفي القدس، إذ ثمّة قوانين متنوعة تميّز بين العرب والإسرائيليين وتشجع على طرد العرب وتهجيرهم.
والقضاء على نظام الأبرتهايد الصهيوني لا يتعلق بتعديل قانون هنا أو هناك، وإنّما بتفكيك المنظومة الصهيونية كاملة بجوانبها القانونية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية كافة.
يؤكد القانون الدولي أنّ التعامل مع نظام أبرتهايد هو جريمة يعاقب عليها القانون الدولي، وهو ينطبق على الأفراد والدول، لذا فإنّ ثمّة برامج رئيسة يجب أن يتضمنها المشروع الوطني الفلسطيني، مثل مقاومة التطبيع للأفراد والدول، وتشجيع حركات المقاطعة، وإقامة تحالفات عربية ودولية في مواجهته، والسعي لإحالة مجرمي الحرب الصهيونيين إلى محكمة الجنايات الدولية، خصوصًا بعد أن أقرّ مدعي المحكمة العام أنّ الاستيطان يُعتبر جريمة حرب.
من المسلّم به أنّ جميع أشكال النضال ضدّ الكيان الصهيوني؛ العسكرية والسياسية والاقتصادية والفكرية والشعبية، هي أشكال مشروعة من حيث المبدأ، والشعب الفلسطيني وحده هو الذي يحدد الشكل الرئيس لكل مرحلة من مراحل نضاله، دون أن يعني هذا إدانة لأي أشكال أخرى أو مبادرات فردية كانت أو جماعية، بل يجب استيعاب هذه المبادرات كلها ضمن بوتقة مشروع وطني فلسطيني جامع.
يتعلق شكل النضال الرئيس لهذه المرحلة بتصعيد الهبّات الشعبية في الأرض المحتلة، وصولًا إلى انتفاضة شعبية شاملة تُنهي مرحلة الاحتلال غير مدفوع الثمن، وتقطع أي روابط معه مهما يكن نوعها، الأمر الذي من شأنه أن يُعجّل بدحر الاحتلال دون قيد أو شرط عن الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، ومن دون مفاوضات تبدأ ولا تنتهي. ولنا أن نتوقع، بعد أعوام من النضال في الانتفاضة والتمسك بهدفها في دحر الاحتلال، أن يصل العدو إلى درجة من الإنهاك والانقسام الداخلي، وأن يعاني من العزلة والضغط الدولي، وأن يترهل جيشه الذي تجبره الانتفاضة على التحوّل إلى قوات شرطة. وقتها، قد يكون الخيار الذي يضطر إليه هو الانسحاب من المناطق المحتلة في حرب 1967، وتفكيك المستعمرات، وإطلاق الأسرى، ومن دون أي التزامات مسبقة تُفرض على الجانب الفلسطيني.
إنّ هذا السيناريو يضع في حسابه إجبار العدو على القيام بخطوات تخدم أهدافًا على طريق التحرير الشامل، لكنّ تحقيقها يبقى رهن موازين القوى والتطوّرات التي تحدث في حينه. إنّ تحقيق هذا الهدف ليس شعارًا بقدر ما هو مرتبط بقدرة الشعب العربي الفلسطيني على النضال من أجل تحقيقه، ومدى الدعم والتأييد المقدّم له من المجتمعات العربية والدولية. فهو برنامج نضالي عماده الشعب الفلسطيني في فلسطين كلها، ويستند إلى انتفاضة شعبية واسعة تشكّل الإطار العام للنضال الفلسطيني في المرحلة المقبلة، ويضم في داخله أشكال الحراك الجماهيرية والمقاومة كافة.
الانتفاضة شكل متقدّم من أشكال النضال الفلسطيني، تقوم بها الجماهير العريضة، ويقتضي نجاحها مشاركة أوسع قطاع من النساء والرجال والشباب والشيوخ من الشرائح الاجتماعية المختلفة، ومجمل القوى السياسية والوطنية، والاتجاهات الفكرية المتفقة على هدف دحر الاحتلال. وتتضمن فعالياتها كل نشاط جماهيري معادٍ للاحتلال ورافض لوجوده ومناهض لممارساته، من تظاهرات شعبية واعتصامات ومسيرات ومهرجانات وتشييع للشهداء ورعاية أسرهم والاهتمام بالأسرى وزيارة الجرحى.
كما تشمل اشتباك الشبّان مع الجنود على الحواجز الصهيونية ونقاط التماس مع مستوطنيه، وتنظيم لجان الحراسة لحماية القرى الفلسطينية من هجمات المستوطنين، وقطع الطرق وإعاقة الحركة عليها، فضلًا عن مقاطعة بضائعه ومنتوجاته مقاطعة كاملة، والابتعاد عن العمل في أسواقه، والامتناع عن دفع الضرائب والمخالفات والرسوم، وفضح المتعاونين مع العدو وعزلهم في بيئتهم الاجتماعية وإجبارهم على إعلان توبتهم، كما جرى خلال الانتفاضة الأولى.
هذا كله يستلزم تشكيل قيادات محلية لها صفة تمثيلية لمجتمعاتها، وعلى مستوى الوطن، تهتم بفعاليات الانتفاضة اليومية، علاوة على اهتمامها بتسيير الشؤون الحياتية اليومية ضمن اقتصاد مقاوم وتكافل اجتماعي وتضامن المجتمع المحلي، يعززها ويشد من أزرها تضامن المجتمع الفلسطيني في الشتات، وتأييد الجمهور العربي، والسعي لتحقيق عزلة إسرائيل على مستوى العالم.
ومن نافلة القول إنّ أحد المخاطر الكبرى التي تتهدد أي انتفاضة، يكمن في إحلال النخب المسلحة مكان العمل الجماهيري الواسع المشارك والمحرك لمختلف نشاطاتها، إذ يسهل حينها عزل هذه النخب ومطاردتها والقضاء عليها، في حين أنّ العدو، مهما تبلغ قوته، لن يتمكّن من عزل جمهور شعب كامل مستعد للتضحية أو القضاء على انتفاضته.
إنّ استخدام السلاح إذا دعت الضرورة إليه يجب أن يكون بعيدًا عن أماكن فعاليات الانتفاضة الجماهيرية، وهو بجميع الأحوال ليس بديلًا منها، وإنّما مساعد لها ومُشعل لشراراتها المتعاقبة، ووسيلة لمعاقبة العدو في عمق مراكزه كلما ارتكب مجزرة جديدة بحق المدنيين. وهي في مجمل عملها تستهدف قواته العسكرية ومستوطنيه الذين يجب ردع اعتداءاتهم المسلحة على القرى والتصدي لها.
وغني عن القول إنّ هذه المجموعات الفدائية يجب أن تكون سرية، وألّا تظهر بسلاحها إلى العلن، وأن تكون بعيدة عن فعاليات الانتفاضة اليومية ولا تتدخل فيها. في الوقت ذاته يجب المحافظة على سلاح المقاومة في غزة وتطويره، وصدّ أي اعتداءات أو اجتياحات يتعرض لها.
نخلص إلى أنّ عوامل نجاح هذه الاستراتيجيا النضالية للشعب الفلسطيني يمكن تلخيصها عبر انتفاضة في الضفة، وتعزيز المقاومة في غزة، ونضال جماهيري يومي في أراضي فلسطين المحتلة منذ عام 1948، وتنظيم جهد فلسطينيي الشتات، وبناء أوسع جبهة عربية وعالمية ضدّ نظام الأبرتهايد الصهيوني، يقتضي المحافظة على البعد الشعبي للانتفاضة، ومقاومة محاولات الالتفاف عليها تحت شعار جني مكاسب سياسية تمكّن من العودة إلى سياسة المفاوضات السابقة، مع أهمية الحفاظ على الوحدة الوطنية، وتحقيق المصالحة التي ستترسخ عبر المواجهات اليومية، والتركيز على مواجهة العدو الصهيوني وإنهاكه وإضعاف جبهته الداخلية، وربط النضال الفلسطيني في المناطق المختلفة؛ ضفة وقطاع وأراضي الـ 48، ضمن برنامج موحد، وتفعيل الشتات الفلسطيني والدعم العربي الشعبي والمقاطعة الدولية للكيان الصهيوني على المستوى العالمي، وصولًا إلى نموذج عزلة النظام العنصري في جنوب أفريقيا. إنّ هذا سيؤدي إلى دحر الاحتلال كمرحلة أولى، بل وسيجري عبر ذلك تفكيك النظام الصهيوني كاملًا، وصولًا إلى إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية فوق أرض فلسطين كلها.
إنَّ العدو الصهيوني قد بدأ بالانحدار، وقوته التي يحاول أن يظهر بها إنّما هي قوة زائفة مستمدة من ضعفنا، وما لجوؤه السافر إلى دولة بنظامين - حيث سيغدو نموذجًا لنظام الأبرتهايد والتمييز العنصري - إلّا دليل واضح على المصير المحتوم الذي سيلاقيه. وباختصار، فإنَّ مشكلتنا الراهنة لا تتمثّل في قوة العدو، وإنّما في وضعنا الإقليمي، وفي عجز قيادتنا الراهنة عن أن تمتلك إرادة المواجهة أو تتبنى برنامجها.
منطقتنا حبلى بالتطورات، وسحب الحرب تتكاثر في سمائها، وأبواب الصراع مع العدو مفتوحة على الرغم من محاولات إدخاله طرفًا في معادلات المنطقة العربية، وحليفًا لبعض أنظمتها، وعلينا أن نراقب بدقة هذه التطورات كلها، منطلقين من أنّ كل صراع مع العدو يقوّينا، وأنّ الاستكانة والتخاذل عن مواجهته هما طريقنا إلى الهلاك، وأنّ الإنجاز التاريخي يتحقق عبر العمل على تغيير موازين القوى لا الاستسلام لها.