

وشــم

عرض مسرحيّ استثنائيّ مدهش في محيط هلاميّ مقلق
في الفترة الحاليّة الشّائكة الّتي نمرّ بها في البلاد، وحرب غزّة المستمرّة والموجعة للجميع، وتصاعد تطرّف اليمين وممارسات الحكومة الحاليّة تجاه الأقليّات، والضّغوطات الاقتصاديّة والمجتمعيّة إن كان على صعيد العنف المهيمن على أجندة المجتمع العربيّ وإن كانت على صعيد المشاكل الاجتماعيّة الّتي تختبئ في السّاحة الخلفيّة لمجتمعنا ولا يكترث لها أحد، في هذا المحيط الهلاميّ الخانق والصّعب المستديم، حافظ المسرح الفلسطينيّ المحليّ على حضوره كأبرز أشكال التّعبير الفنّي والثّقافيّ، رغم التّحدّيات السّياسيّة والاجتماعيّة، فكان منصّة للنّضال الثّقافيّ والتّعبير عن الهويّة والانتماء، ومرآة تعكس قضايا وهموم الإنسان الفلسطينيّ اليوميّة، ولعب دورًا محوريًّا في إنتاج عروض مسرحيّة تناولت موضوعات النّكبة، والّلجوء، والأَسر، والهويّة الوطنيّة، في ظلّ محدوديّة الإمكانيّات، إلى جانب الضّغوط السّياسيّة والمادّيّة، خاصّة عند عرض موضوعات حسّاسة، ممّا فرض على المسرح ملاءمة طرحه، أحيانا، لاعتماده بشكل كبير على التّمويل الحكوميّ.

يعتمد المسرح المحليّ على الرّمزيّة والخيال كأدوات للتّعبير في ظلّ القيود الواقعيّة، ويشكّل أداة للحوار المجتمعيّ، لتحدّي الصّور النّمطيّة ونشر الرّواية الفلسطينيّة وما نعايشه على أرض الواقع، ليبقى شاهدًا على حكاية شعبٍ يسعى للحياة. في هذا المحيط، يعرض المُخرج الفنّان فؤاد عوض مسرحيّة جديدة لافتة ومؤثّرة، انتاج مسرح الخَيال في النّاصرة، ليطرح أسئلة وجوديّة وإنسانيّة عميقة، في مدارات الواقع الفلسطينيّ داخل إسرائيل، وفي صراعه اليوميّ وبقائه في بيئة مكتظّة بالتّحدّيات، ليكون صيحةً، وصوتًا، ومنبرًا. تحيّة تقدير لمنتج هذا العمل، الفنّان محمد منادرة على الجرأة ورحابة الأفق الفكريّ والفنيّ لعرض هذه المسرحيّة، الّتي قد لا تتماشى أو تتماهى مع رواية السّلطة في بعض جوانبها، وقد تهدّد الميزانيّة الّتي يحصل عليها أيّ مسرح أو أيّ عمل ثقافيّ، في هذه الحقبة الزّمنيّة، حيث يواجه الحراك الثّقافي والمثقّف، أينما كان، التّضييق من خلال آليّة "تخويف" ممنهجة ومبطّنة، سياسيًّا، واقتصاديًّا ومهنيًّا، إذا ما عبّر بشكل لا ينسجم مع الرّواية "الصّحيحة"، ممّا قد يؤدّي إلى الاقصاء والاخصاء والتّهميش والتّحطيم، الأمر الّذي يتطلّب الحذر من أجل البقاء. لقد نجح الإنتاج بالتّعاون مع المخرج فؤاد عوض بعرض عمل فنيّ يعكس تخبّطات الشّارع، بذكاء وحنكة وابداع ورمزيّة جذّابة، في مسرحيّة أكثر من رائعة، بعنوان "وشم Tattoo " على خشبة مسرح قصر الثّقافة في النّاصرة، النّص مستوحى من مسرحيّة "الآنسة جوليا" للكاتب السّويدي اوغوست سترندبيرغ. تمثيل: نرين فرّان، أحمد نظام أيّوب، حلا أبو نصّار/ عازفة تشيلّلو- موسيقى حيّة، ديكور: مروان صبّاح، ملابس: صابرين حسّون طافش، اضاءة: مطانس مزّاوي، مدير انتاج: محمّد منادرة، مساعد انتاج: نجد منادرة، مساعد مخرج: نورهان طه.

عرض مسرحيّ استثنائيّ مدهش على خشبة المسرح الفلسطينيّ المحليّ
لقد أبدع القائمون على هذا العمل، فكان عرضًا مسرحيًّا استثنائيًّا مدهشًا لا يُنسى، يعتمد الأداء المتقن بروح معاصرة ومؤثّرة، فتألّق الممثلون على خشبة المسرح بروحٍ متوهّجة، وعاشوا أدوارهم، وتنقّلوا بين الانفعالات بسلاسة وبمهارة تُظهر التزامًا بالشّخصيات، وفهمًا حقيقيًّا لما تحمله من تعقيدات، لتترك المسرحيّة فينا أثرًا فكريًّا وعاطفيًّا كبيرًا. اعتمدت المسرحيّة على الكثير من الرّموز والكثير من الفنّ الرّاقي، إلى جانب رسالة وعمق فكريّ للتّعامل مع وجع يلازمنا في هذه البلاد كمحتلّين ومحتلّين! من هو الجاني؟ من هي الضّحيّة؟ ما ذكّرني بقصيدة "نشاز" الّتي نظمتها منذ أكثر من عقدين والّتي تحاور حضورنا وهويّتنا وصراعاتنا في هذه البلاد. برز في العرض، الانسجام بين الممثّلين، ليمنح الجمهور تجربة متكاملة، صادقة، ومؤثّرة ونابضة بالحياة. وإن كان العمل ككلّ يحمل بصمة جماعيّة متميّزة، إلّا أنّه قد برزت الممثّلة الفنّانة نرين فرّان الّتي جسّدت دورًا معقّدًا ومليئًا بالتّحدّيات، دور فتاة يهوديّة "جولي" وهي تعيش في كيبوتس، وعلاقتها المركّبة مع شابّ فلسطينيّ مهجّر يعمل في ذات الكيبوتس القائم على انقاض قريته التي هُجّر أهله منها حين كان طفلًا، واستطاعت أن تقدّم الدّور بطبقة غنيّة من التّعبير والصّدق الفنيّ، وأظهرت قدرة مدهشة على الانتقال بين الحالات النّفسيّة المتناقضة، من القوّة إلى الهشاشة، من الرّفض إلى التّقبّل، ومن الصّمت الحذِر إلى الانفجار العاطفيّ، وقد تجلّى هذا التّنوع في تفاعلاتها مع عادل، الشّاب الفلسطيني بكلّ ما يحمله من رواية مركّبة، قام بهذا الدّور الممثّل الفنّان أحمد نظام أيوب، حيث نسجت معه مشاهدَ مسرحيّة مشحونة، عكست بدقّة صراعات جندريّة، وثقافيّة، وسياسيّة وتعقيدات الصّراع الدّاخليّ بين الهويّة والانتماء، والولاء والخيانة والمفاهيم الهلاميّة للوطن وأيضًا الثّابتة، مقابل الالتزام المجتمعيّ والدّينيّ والثّقافيّ. الأداء الاستثنائيّ للفنّانة نَرين جعلها تتألّق وتبدع في المسرحيّة، بحيث جسّدت ببراعة شخصيّة مركّبة ومتأرجحة بين هموم الذّات، وضغوط الجماعة والواقع، بحضورٍ طاغٍ وطاقة فنيّة، فلامست مشاعرنا وجعلتنا نعيش حيرتها، ونتصالح مع تناقضاتها، وأيقظت فينا تأمّلات لم تكن لتظهر لولا قدرتها التّعبيريّة الفريدة وموهبتها الحقيقيّة على المسرح.
وقف الممثّل المبدع أحمد نظام أيوب أمامها وشاركها العرض المسرحيّ بانسجام كبير، وبرز في دوره الّلافت، بأداءٍ مبهرٍ ليجسّد التّعقيدات النّفسيّة والاجتماعيّة الّتي يعيشها الشّاب الفلسطينيّ في البلاد، وروايته الّتي لا يدركها إلّا هو، ولا يتخبّط بها إلّا هو، كشابّ من قرية مهجّرة في الشّمال، ويعمل في المكان الّذي كان له مرّة، وعلى أرض والده الّذي تحوّل، هو أيضًا، من مالك الأرض إلى مزارع فيها لصالح الكيبوتس الذي قام على أنقاضها، فتفرض عليه (الشّاب) بيئته التّعامل الحذِر في خضمّ تخبّطات الهويّة والانتماء والمصالحة مع روايته الشّخصيّة والثّقافية والدّينيّة والوطنيّة ورواية الآخر المهيمنة في البلاد، أبدع الممثّل أحمد في الانتقال ببراعة بين حالات متباينة، ليعكس العلاقة المتوتّرة بين الفرد والمجتمع، والجندر والسّياسة، فقدّم للجمهور تجربة فنيّة مؤثّرة، من خلال قدرة لافتة وموهبة تلقائيّة في التّمثيل والحضور بكلّ ثقة لتجسيد الشّخصيّة والتّفاعل مع حالاتها العديدة لنتماهى، وأيضًا لنتصالح معها. أبدعت الفنّانة حلا أبو نصّار عازفة التشيلّلو، بمرافقة كلّ مشاهد المسرحيّة بموسيقى حيّة، بشكل ذكيّ وفنيّ وهادئ ينسجم مع الأحداث، ما يعكس أيضا قدرة استثنائيّة وتجربة فنيّة كبيرة لدى المخرج الفنّان فؤاد عوض في توظيف مركّبات أساسيّة في العرض المسرحيّ، ليجسّد الفكرة على أكمل وجه باختيار ذكيّ للممثّلين، والمشاهد، والأداء، والمبنى الفنيّ للمسرحيّة، الّذي تمّ بحرفيّة عالية وذكاء إخراجيّ واقعيّ وملتزم، جعل الجمهور مشدودًا منذ الّلحظة الأولى للمسرحيّة وحتّى إسدال السّتار، في عرض يدمج بين الحوار الشّعبيّ البسيط وبين الرّمزيّة الفنيّة الّتي تمنح المسرحيّة بعدًا فلسفيًّا، باستخدام الموسيقى الحيّة والدّيكور الجميل الهادئ والبسيط الّذي يحمل رموزًا عديدة، مما يخلق حالة من القرب بين الممثّلين والجمهور.

بالمجمل، عرض يثلج الصّدر لدرجات الانتشاء والتّماهي والانسجام مع الرّموز والشّخصيّات، فكانت الحوارات في المسرحيّة مشحونة بالعاطفة، ولعبت النّظرات وحركات الوجه ولغة الجسد دورًا لا يقلّ أهمّية عن الكلمات، وكذلك الموسيقى، والاضاءة والدّيكور والملابس والصّوت مما جعل كلّ لحظة على الخشبة محمّلة بالتّوتّر والرّمزيّة، ممّا جعلها تجربة مسرحيّة متكاملة، فنيًّا، فكريًّا، وعاطفيًّا.
هنيئًا لكلّ من شارك في العمل والتّحضير لهذا العرض الاستثنائيّ، فقد قدّموا لنا أمسية لا تُنسى. هنيئًا لنا كجمهور، على هذه الهامات الفنّية وعلى هذه التّجربة، وبوجود مسرح على هذا المستوى وبهذا الرّقيّ.
عمل يستحقّ المشاهدة ومتابعة عروضه المستقبليّة.