

وصية من ذهب
عوى الصمت في أذناي كريح تائهة في صحراء مفقودة ممتدة بلا نهاية، آخر ما أتذكره في هذه اللحظات ذلك القتال المميت نحن الأربعة الذي اشتبكنا فيه مع قوات الاحتلال التي رصدتنا ونحن نتنقل في حي السلطان غربي مدينة رفح، آلاف الطلقات التي هوت علينا نالت أجسادنا منها ما نالت حتى انتهى بنا المطاف محاصرين داخل هذا المنزل شبه المتهدم ولا أعلم من منا بقي ومن منا رحل!!!
كنت ممدا على وجهي تتناثر الأتربة بقوة أمام أنفاسي اللاهثة يمنة ويسارا تماما مثل الأشلاء التى تبقت من أهلي وأحبائي داخل المخيمات التي أبادها الإحتلال عن بكرة أبيها!
بجهد بالغ وصعيب حاولت أن أفتح عيناي التي علتها دماء جفت واختلطت بالأتربة يبدو أنني قد أتتني غيبوبة ليست بقصيرة وقد عدت منها الآن، كانت أمامي المشاهد مشوشة بشدة إلا أنني رأيته أمامي بوضوح … القائد (يحيى السنوار)، كان جالسا على مقربة من موضعى على مقعد قديم فاردا ذراعه اليمنى على مسند المقعد والتي كانت تنزف بشدة وممسكا في يده اليسرى بعصا خشبية لا تسمن ولا تغني من جوع، كان يتنفس ببطء بالغ أثر تلك الإصابات البالغة التي أعلنت عن نفسها بجلاء عن طريق بركة الدماء الكبيرة التي تكونت بين قدميه وتزداد اتساعا ببطء لزج، اعتدلت وجسدي يئن بشدة من الجراح التي انتشرت في جسدي لأتكئ بظهري أخيرا على عمود خرساني شبه متهدم كي أجلس في مواجهته.
دارت عيناي سريعا في المكان حولي لتزكم أنفي رائحة الموت وأنا أرى جثة الشهيدان يرقدان فى سلام بعد أن نالا أعظم الأجور فى هذه الدنيا بأكملها توقفت عيناى على وجهه التى كان من المستحيل أن تلمح خلجة واحدة فى ملامحه تعبر عن الألم، الصبر والأمل فقط هما ما كنت أراهما فقط الأن، بصعوبة بالغة انفرجت شفتاي ببطء والتي قد تشققتا والتصقتا ببعضهما بفعل قلة المياه لتخرج كلمات جافة مشروخة:
– هل هي النهاية؟
لاحت لي شبح ابتسامة هادئة على شفتيه وكأنه كان جالسا على المقهى يحتسي كوبا من القهوة في الصباح ولسنا فى موقف قريب من الموت، نظر أرضا محركا عصاه ترسم وتكتب كلمات بدمائه وكأنه كان يسلي نفسه حتى يحين الميعاد المحتوم والذي نعرف يقينا أنه قد بات قريبا للغاية:
– نحن لا نهاية لنا … أنها فقط البداية!
ما زالت كلماته مليئة بالأمل والإصرار والعزيمة كما تعودنا منه تدفعنا للأمام وتزرع فى نفوسنا الحماس، رغما عني انحدرت دمعة ساخنة حفرت طريقها بصعوبة على خدى المسخن بالجراح
– لماذا تبكي يا ولدي؟
تمتمت بصوت مبحوح، وأنا أعود برأسي إلى الخلف فى ألم بالغ:
– أبكي على الرحيل، كنت أتمنى أن أكمل الرحلة إلى نهايتها، وأرى النصر بعيني، ولكن يبدوا أن الرحلة قد شارفت على نهايتها الآن.
تنهد هنا بشدة قبل أن يسعل بقوة وتتناثر دماؤه من فيه لأتيقن من مدى شدة إصابته على الرغم من أن ملامح وجهه المليئة بالعزم والقوة لا تعكس حالة الحقيقي وبرغم هذا بدا أنه لم يكترث لحالته هذ وهو يقول:
– منذ أن كنت صغيرا وحتى بدأت رحلة النضال والحرية تعلمت أن لا أبكي أبدا … يموت من يموت فلا مجال للبكاء، فكل يوم كان أمام أعيننا تكلم وتترمل آلاف النساء، وعلى الرغم من كل ذلك فلا مجال عندنا للرثاء … ولا وقت لحداد أو عزاء، فما زالت الرحلة طويلة، وبطونهن وارضهن حبلى بآلاف من الشهداء!
اندفعت الدماء في عروقي بشدة أثر كلماته التي كانت أقوى من البارود بالنسبة إلي هتفت هنا في حماس، وأنا أحاول النهوض وكأن كلماته كان بمثابة وقودا وقد شد من أزرى كي أساعده على الخروج من هنا قبل محاصرتنا أكثر وأكثر:
– هيا بنا سنحاول أن نجد مخرجا وأشار لي بعصاته مقاطعا:
– ارحل أنت اتركني هنا!
اتسعت عيناى بشده مما يقول وانا انهض لاقترب منه ممسكا بسلاحي الذي تبقت به رصاصات قليلة
– لا لن اتركك هنا وحدك وان كان هذا طلبك سأظل معك حتى الرصاصة الأخيرة فهم لن ياخذوننا احياء أبدا سنقاتل حتى اخر رمق فلياخذونا ميتون أذا!
هز رأسه بهدوء قبل أن تسرح عيناه إلى سماء بعيده بنظرة لا تحدها سقف وهو يقول:
– الاحلام لا تموت أبدا يا ولدي ولقد عشنا طوال حياتنا من أجل حلم واحد حلم الحريه والخلاص لأرضنا ولأوطاننا فنحن لن يتبقى منا شيء ولن يتبقى لنا شيء سوى الأحلام.. فالأحلام هي الشيء الوحيد الذي لن يخضع لسيطرة أي نظام أو محتل أما الأجساد فمن الممكن أن نضحي بها ونجعل لها ثمنا غاليا ونموت بكل سعادة من أجل أن يحيا محبينا احراراً كراماً بعد تحقيق حٌلمنا المنتظر في مستقبل أفضل وسعيد من دون قيود على أجسادهم أو عقولهم أو حتى على أحلامهم فبذلك حينها صدقني سنبعث مرة أخرى للحياه وسنحيا من جديد وللأبد خالدين بذكرانا ولن نكون حينها أبدا ميتون.. فالميتون يا ولدي ليس الذين هم من هلكت وفنيت أجسادهم بل هم الذين يعيشون ولكن للأسف.. لا يحلمون!
خفق قلبي بقوه من كلماته الصادقه التي عبرت عن صدق التضحية والشهادة والوفاء للحلم والأرض والوطن، كلماته تلك التي حٌفرت على جدار قلبى وكل جوارحي وعجز لساني عن نطق أى كلمة أخرى كى لا تضيع مهابة وقدسية كلماته والتي اظن انها بمثابه وصيه أخيره له يجب أن تُنقل إلى الجميع ولكافة الأجيال القادمه كي تكون نبراسا وطريقا سيسير على هداه الجميع في طريق حرب التحرير والخلاص والتى ستنتهى بأذن بنصر قريب، نصر سيكتب بدماء المناضلين المخلصين!!!!
فجأة.. سمعنا أزيزا مميزا لتلك الطائرات الصغيره التي يطلقها العدو للإستطلاع.
أشار إلى هنا بعصاه التى أستعان بها كثيرا فى حديثه بأن ارحل في سرعة قبل أقتراب تلك الذبابة الإلكترونية الملعونة التى يرسلها العدو جبنا وخوفا من أن يرسل جنوده الضعفاء لأنه يعلم جيدا أنهم لن يعودوا سالمين مهما كان عددهم، لمح في عيناى التردد وانا أهز رأسى في تصميم على البقاء لأقترب منه قائلا:
– لن اتركك تموت وحدك هنا!
ربت على رأسى بحنان أبوى بالغ قبل أن يبتسم في ارتياح وهو يعود برأسه إلى الخلف ويضع لثامه على وجهه لتبقى عيناه في عينى وهو يقول:
– يجب أن ترحل قبل أن يقتربوا أكثر وكن واثقا أننى لن أموت هنا هباء فأنا كنت مجرد فكرة وحلم يبحث الحرية وحتى إن مات الجسد فالأحلام لا تموت بل تعيش بأصحابها خالدة إلى الأبد كأرضنا الطاهرة، فالميتون سيصيرون بأحلامهم الناجحة أحياء يرزقون.. هيا لا تضع الوقت أذهب الآن وأبلغ أهلى السلام وأجعلهم لا يفقدون الأمل ومهما حدث لا ينظرون إلى الخلف البتة بل يتقدمون دائما للأمام.. ويتمسكون بالأحلام!
في هذه اللحظة تيقنت أن موعد شهادته ونهاية حلمه ورحلته قد حانت، نهضت من بعد تردد طال مودعا إياه وقلبى يقطر دما والما عليه إلا أن السلام الذي رأيته في عينيه قبل أن أرحل عنه أضاء في عقلى شيئا هاما. إن كل الذكريات المهملة تلقى من نافذة التاريخ وتنسى بمرور الأيام إلا سير الأبطال فأن حكاياتهم وبطولاتهم وتضحياتهم تٌخلد بأسمائهم وتعلق على جدران الزمن للأبد وتتغنى بهم شعوبهم فى أمل، فإن عجزت الآن من أن أنجو بجسده معى فعزمت أن أنجو بحلمه وبكلماته ووصيته الأخيرة التى يجب أن تحفظ وتخلد لأنها حقا.. وصية من ذهب.