الخميس ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم يحيى خليفة محمد

وصية موروثة

كان حفيف الشجر قويًا في ظل سكون شوارع القرية ليلًا كما هي عادة قرى نابلس، أغلق أسامة النافذة وعاد ليلقي رأسه على الوسادة؛ ليرتاح قليلًا ريثما تُعد أمه العشاء فعمله اليوم في المزرعة كان شاقًا، فقد أوشك موسم حصاد الزيتون.

أقبلت أمه من المطبخ ورأته شاردًا.

 فيم تفكر يا أسامة؟
 في يوم الجمعة القادم، فسأكمل عامي الثامن عشر.
 ما أسعدني بك! فقد بلغت مبلغ الرجال، أتذكر يوم ولادتك وكأنه قبل أيام.
- ألن تخبريني أين كان أبي عندما ولدت؟
 أتعرف أنك تذكرني بأبيك؟
- كل من يرى صورة أبي وهو صغير يظنها صورتي أنا.
- لست أقصد الملامح، إنك تشبه في صوته وحركاته ونظراته، كأنكما روح واحدة.
 رحمه الله.
 رحمه الله.
- أخبريني، أين كان أبي؟
 في الصباح فالآن يغالبني النعاس.

كعادته كل صباح يقوم أسامة للعمل في مزرعته التي في كل جزء منها ذكريات مع أبيه، لا يمكنه نسيان ذلك اليوم عندما هجم عليهم قطيعٌ من الجنود الإسرائيليين يريدون غصب بعض الثمار، فوقف لهم والده بفأسه يلكمهم بها حتى فروا، حينئذٍ قال لوالده: لم يا أبي لم تتركهم يأخذون بعض الثمار لتجتنب آذاهم؟

رد عليه:

 يا بني لن أعطيهم مقدار ذرة من كرامتي.

حُفر هذا الرد في نفس أسامة، وعلم من وقتها أن المغتصب يأخذ الكرامة والحرية قبل المغصوب.

رجع أسامة لبيته ووجد أمه قد أعدت له الغداء: (الخبز، والزيت، والجبن، والزعتر)

كانت حركة يديه عند تناول الطعام تُوحي بأنه منشغل البال.

 ما لي أراك مهمومًا يا بُني؟.
- لا شيء يا أمي.
في تلك اللحظات إذا بباب الدار يُركل بقوة، ففزع أسامة وأمه، فإذا بحمزة يدخل وهو يصرخ:
 يا أمي يا أمي.
 ما بك يا حمزة؟
 لقد حصلت على المركز الأول في الكُتاب في حفظ الأجزاء الثلاثة.
- مباركٌ يا بُني.
- مبارك يا أخي، أنت الآن تستحق الدراجة التي كنت تريدها، بعد موسم الزيتون سأشتريها لك.
- وأنا سأصنع لكم الكنافة النابلسية ابتهاجًا بهذه المناسبة.

بعد الغداء دخل أسامة لغرفته على غير العادة، ولم ينتظر أن يشرب الشاي.

أخذت أسماء الشاي وذهبت لغرفته، جلست بجواره وألحت عليه أن يبوح بما في نفسه فقال:

- موعد الوصية قد اقترب.
 لو كنت أخشى هذا اليوم ما أخبرتك بها.
 ألن تحزني لذهابي؟
 سينفطر قلبي لذلك ولكن إن بقيت فسأعيش بخيبة الأمل وخيانة الأمانة، لقد عاهدت أباك أن أُعدك لتجاهد وتدافع عن دينك، وأن تقدم روحك رخيصةً في سبيل الحق.

اغرورقت عينا أسامة، وألقى بنفسه بين ذراعي أمه، ذلك الحضن الذي كان دائمًا مأواه عند الخوف والحزن يجد فيه الطمأنينة والدفء.

لكن هذه المرة كان يريد أن يشعرها بالأمان، وأن يزيل ما في قلبها من ألمِ تجاهد في إخفائه، حتى إنها لم تنزل منها دمعة.

استجمع نفسه ومسح دموعه وقال:

 ألن تخبريني أين كان أبي يوم ولادتي؟

- كان في مهمة لجمع المعلومات عن حاجز لجيش الاحتلال، وعندما وُلدتَ كانت مشاعر الفرح تخالطها مشاعر الخوف عليك وعلى أبيك.

 عليَّ أنا!

 نعم، خوفي عليك من أن تُولد ولا ترى أباك.

في غرفة المطبخ -أثناء إعداد الطعام- كانت تفرغ الدموع التي تحبسها أمام ابنيها، فهي تعلم أن ابنها سيذهب لطريقٍ العودة منه ليست بأرجح من الفقدان.

خرجت تحمل الطعام بعد أن غسلت وجهها من أثر الدموع، خرجت بوجه مبتسم وقلب منفطر.

وعلى غير العادة -أثناء العشاء- الكل صامت لا حديث ولا مزاح، فأسامة مشغول بحال أمه من بعده، وهي مشغولة بحاله بعيدًا عنها.

قطع حمزة هذا الصمت قائلًا:

 أين الكنافة.

جاءت أسماء بالكنافة، تناولها حمزة وغط في النوم، وكأن الأمان الذي في حلوى أمه جعله ينام على فخذ أسامة دون أن يشعر.

قامت أسماء لغرفتها وأحضرت صندوقا خشبيًا.

جلست بجوار ولدها وفتحت الصندوق وأخرجت ورقة أعطتها لأسامة.

 ما هذه؟

 وصية أبيك.

تعجب، فلم يكن يعلم أن الوصية مكتوبة.
مسك الوصية بكلتا يديه، وفي قلبه شعور مختلط من اللهفة والحزن، ذاك الحزن الذي يتجدد كلما تذكر أباه.
فتح أسامة الوصية ليقرأها.

«يا روح فؤادي، إن حبي لك لا يرضى أن تحيا وترحل دون أن تسلك طريق العزة والكرامة، فإني أضن بك عن حياةٍ لا جهاد فيها.

يا ولدي، لم أترك لك عرضًا زائلا، ولكن تركت لك دربًا أجل وأعظم.
فإن بلغتَ الثامنة عشر وكان الله قد أكرمني بالشهادة فقد حق عليك أن تسلك هذا الطريق طريق العودة الذي قضيت فيه نحبي»

لم يتمالك نفسه بعد قراءة كلمات أبيه، فألقى بنفسه في حضن أمه يبكي حتى بلت دموعه ثوبها.
وبصوت خافت يكاد لا يُفهم من البكاء:

 يا بني، هذا وقت الوفاء لدينك، ثم لأبيك ووطنك، من الغد سترحل لتلتحق برفاق أبيك.

ثم أخرجت من صندوق الوصية سلاحًا وأعطته لأسامة.

- هذا سلاح أبيك والإرث الذي تركه لك.

بعد صلاة العشاء من يوم الجمعة كان أسامة قد أعد أمتعته "المصحف، وكتاب الأذكار، والسواك، والمسبحة، وملابس قليلة، وزجاجة العطر الزيتي"

قبَّل يد أمه دون أن ينظر في عينيها؛ لئلا يرى دموعها.

كان حمزة نائمًا فقبَّله على جبينه وانصرف.
ذهب أسامة للشيخ عثمان إمام المسجد وصديق أبيه القديم، فهو من سيوصله لمعسكر المجاهدين، فلم يكن مكان المعسكر معروفًا، فقد كانوا ينتقلون بين جبال نابلس؛ حتى لا ينكشف مكانهم.

وصل أسامة إلى لمعسكر رفقة الشيخ الذي انصرف بعدما أوصله للقائد يوسف.

كان القائد وسط ساحة التدريب، رحب بأسامة ترحيبًا حارًا لفت أنظار الشباب المتواجدين.

كان بجوار القائد مساعده عزمي الذي سأل أسامة:
 من أين؟
 من عسقلان.
نظر القائد لعزمي وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة ثم نادى: يا صالح.
 نعم يا قائد.
 أسامة سيكون رفيقك،عرفه على المعسكر.
بعد انصراف أسامة قال لعزمي:
 هل اطمأنت نفسك؟
 نعم، فهو لم ينس عسقلان التي هُجرت منها عائلته مع أنه لم يرها قط.
- لو رأيت أباه ما سألته هذا السؤال، فمن كان خالد أبوه فلا بد أن يكون كذلك.
لم يكن أسامة بدعًا من أقرانه، فكلهم كانوا ينتسبون إلى قُراهم التي هُجروا منها أو التي هُجر منها آباؤهم أو أجدادهم.

********************
صالح: لقد أتقنت استخدام السلاح في ثلاثة أشهرٍ فقط، وأصبحت جاهزًا لتشارك في العمليات.
 كم أتمنى هذا اليوم!

في هذه الأشهر الثلاث ظهر من أسامة التزامٌ ودماثة خلق جعلته حديث المعسكر.

في المساء استدعى القائد عشرةً من المقاومين، كان أسامة أحدثهم سنًا والتحاقًا بالمعسكر.
كان على وجه القائد ملامح القلق عندما قال:
 غدًا ستتاح لنا فرصةً للوفاء للأسرى، سيتم نقل ثلاثة أسرى من السجن، وقد وضعنا خطة لتحريرهم.
كان هؤلاء الأسرى اعتقلوا منذ عشر سنوات في الانتفاضة الأولى.

ظهرت ملامح السعادة على وجوه المقاومين بهذا التكليف.

 سيبلغكم عزمي بمهمة كل واحد منكم، انصرفوا الآن. ابق أنت يا أسامة.
 نعم يا قائد.
 أنت تعلم أنه لا أحد يشارك في العمليات قبل ستة أشهرٍ من التدريب، لكن اخترتك لتشارك مبكرًا؛ لأن هؤلاء الأسرى رفاق أبيك، فأحببتُ أن يكون لك سهم في تحريرهم .

كادت عين أسامة أن تغلبه لكنه تمالك نفسه وقال:
 لن أخيب ظنك إن شاء الله.
انصرف أسامة من خيمة القائد وهو يفكر في هذه المهمة، وبينما هو كذلك إذا صوت من خلفه يناديه.
نظر، فإذا هو أحمد رفيقه الجديد.
- ماذا يريد منك القائد؟
صمت قليلًا ثم قال متهربًا من الإجابة:

 لقد تأخرنا عن التدريب.
كان يعلم أن الجندي الحق لا يبوح بالمعلومات، وإن لم يُؤمر بالكتمان.

في المساء أخبر عزمي كل واحدٍ بمهمته، وكانت مهمة أسامة مراقبة الطريق.
أوى لفراشه، لكن تفكيره بأمه وأخيه منعه النوم، فهو لم يرهم منذ أن التحق بالمعسكر، فالزيارات ممنوعة إلا كل حين حتى لا ينكشف مكان المعسكر.

في الصباح ذهب يزن قائد العملية ليأخذ الإذن من القائد للتحرك.

تحرك الرفاق في طريقهم، واستطاعوا التسلل لمكان العملية الذي ستمر فيه سيارة الترحيلات.

في الحادية عشرة كان أسامة على تلة يراقب الطريق لرفاقه الذين يزرعون العبوات المتفجرة، وحسب المعلومات فإن سيارة الترحيلات ستمر ما بين الساعة الثانية والثالثة.

قاموا لأداء صلاة الظهر جماعةً باستثناء صالح الذي انتظر حتى يصلي مع أسامة.

في الثانية وخمسٍ وثلاثين دقيقة جاءت سيارة الترحيلات تحرسها سيارتان من الشرطة، أشار أسامة بأن العربات قادمة.
وضع يوسف يده على زر التفجير، وعند وصول سيارة الشرطة ضغط بكلتا يديه على زر التفجير قائلُا:
 الله أكبر.
انفجرت السيارة، وتناثرت الجيف التي فيها.

توقفت سيارة الترحيلات وسيارة الشرطة الأخرى ونزل منها العساكر، كان عددهم خمسة عشر بالإضافة لسائق سيارة الترحيلات وضابط معه.

خرج الرفاق من أماكنهم واشتبكوا مع المحتلين الذين حاولوا الاختباء خلف التلال فتبعهم زين ورفاقه.
في تلك اللحظات رأى أسامة سيارة شرطة قادمة من بعيد، يبدو أنها تأخرت في الانطلاق عنهم.
صٌعق عندما رآها.

عزم على أن يُضحي بنفسه؛ ليحمي إخوته ويحرر رفاق أبيه.

نزل إلى الطريق حاملًا سلاح أبيه وفي جيبه قنبلة يدوية أعطاها له يزن.

اعترض طريق السيارة وأطلق عليها النار؛ فنزل الجنود منها، فبادرهم بإلقاء القنبلة عليهم التي حصدت أرواح أربعة منهم.
تبادل أسامة إطلاق النار مع الخمسة المتبقين، أردى منهم ثلاثة قتلى قبل أن يُصاب برصاصتين في صدره.

سمع الرفاق صوت الاشتباك فجاءوا -بعد أن قتلوا الجنود وحرروا الأسرى- فوجدوا أسامة ملقى أرضًا، والجنديان المتبقيان يحاولان الهرب.

انقض عليهم الرفاق وأدركوا أسامة وهو ينازع روحه ممسكًا بسلاحه يقول: على طريق التحرير طريق أبي أمضي، ثم فاضت روحه.

بعد الظهر دق الباب، ففتحت أسماء.

 من أنت؟

 صالح: صديق أسامة.

سمع حمزة اسم أخيه فترك لعبه وأقبل على صالح.

 أين أخي؟

 لقد أرسل لك أمانة معي.

 لا بد أنها الدراجة التي وعدني بها.

أخرج صالح من حقيبته سلاح أسامة وورقة وأعطاهما لحمزة وهو يقول:

 خذ أمانة أخيك ووصيته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى