الثلاثاء ٤ حزيران (يونيو) ٢٠١٩
بقلم هاتف بشبوش

وفاء عبد الرزاق، بين شينِ وحاموت (1)...

(الحب هوالديانة الحقيقية للتعقيد المفرط...أدغار موران).

عند ملتقى النهرين (ميزوبوتاميا)، في البصرة الندية، بصرة الفراهيدي، ثورة الزنج، المربد، السياب وسعدي يوسف. هناك حطت سفائن الشعر والرواية لكي يُربط حبلهما المينائي، فينجب لنا الوفاء الإنثوي الناصع الذي لُقب بعدها بالشاعرة وفاء عبد الرزاق فيظل اسمها هادراً مع خرير مياه البحر و الزبير وأم قصر. وفاء طاقة إبداعية هائلة تغنى بشعرها كبارالمطربين ومنهم (جعفر حسن). نالت العديد من الجوائز العربية والدولية، عضوة وسفيرة في العديد من المنظمات العالمية، أصدرت حتى الان 54 كتابا في الشعر بشقيه الفصيح والشعبي، والكتب المترجمة والقصة القصيرة والرواية، ومن ضمنها موضوعة بحثنا الروايتين (دولة شين، وحاموت).

وفاء عبد الرزاق حين تكتب شعراً أو رواية، نرى القابلية المذهلة في أن تجعل منهما كتاباً يزعل ويحب ويسافر ويستريح على الرفوف والكنبات مثلنا نحن البشر، حين كنا صغارا فكنا أبرياء ولما كبرنا تلوثنا بغبار الحياة كما الكتب الموضوعة في أدراجها. وفاء تكتب الصدق في عالم يكذب، عالم مخيف للغاية، وأوطانُّ باتت تحكمها الخرافة التي تعتمد في حكايتها على الجن والشيطان وكلاهما عمود الخيمة السردية والميتاسرد لرواية دولة شين. حين تكتب تعلن شموخها العالي وتتحدى بمفاهيم وحجج قوية، وحين تسري أصابعها النهرية نسمع فمها المؤازر يقول بكل جرأة (ليست خيانات النساء تعلمنا المزيد من التحدي، بل خياناتنا... كلود لارشير).

تدخلنا وفاء الى لعبة الجوع (The hunger Games)، الى مباراة القتل المستمرة بأبعادها الثلاثية والتي أدت فيما مضى الى إستفاقة كل ماهو حداثي في عصرالنهضة الأوربية وكيف بنى الغرب مجتمعاتهم استنادا لما كتبه الفلاسفة والأدباء والملاحدة في خضم معاركهم الخطابية مع الكنيسة والكنيست إبتداءأ من (سبينوزا، فولتير، جان جاك روسو، هيوم، كانط، حتى ننتهي بعصرنا الحديث وبرتراند راسل، البير كامو، وسارتر) واليوم ينهض على نهجهم المفكر العراقي أحمد القبنجي والمفكر المصري السيد القمني. وفاء تضع المشرط على البدن العربي الذي ظل على الشاكلة الثأرية للمهلهل (الزير سالم) الذي أراد أخيه الملك المقتول (كليب) من قبل جسّاس، حياً مهما بلغ الثمن (وعظمي سار في الأرماس كُحلاً / وجسّاس ابن مرّة في الحياةِ). شعوبنا اليوم تريد المستحيل بالرجوع الى الماضي وكمن يريد أن يرى عينيه بعينيه أو يرى عقله بعقله دون الركون الى العلم والتجريب، حتى جعلهم شعوبا تكاد تنقرض، العرب اليوم بحيرة مليئة بالسمك، تجف ويأكل بعضها بعضا، العِرق يقتل العِرق والطائفة تقتل الطائفة، مثل أفعى تلتهم أبناءها، وليس هناك ثمة افق في النجاة، الا اذا حصلت القطيعة التي تريدها الروائية وفاء، تلك القطيعة الكاملة مع الماضي وتأسيس مجتمع على اساس قانوني مدني يؤمن بالمرأة وحقوقها، هذايعني أننا كعرب في مازق والإسلام كرسالة انتهى مع النبي محمد ولم يبق غير صراع آيديولوجيات، و ذوبان الشرع الإلهي في السلطة السياسية كما فرعون الذي نصّب نفسه إلهاً وحاكماً.

عند التمعن فيما تكتبه وفاء عن كثب نشهد ان الإله (يقدم استقالته والإمام يسقط..نوال السعداوي) في زمن نجد أنفسنا مرغمين منساقين بالعودة الى ذلك الزمن السبعيني الخليل، العجيب، الغريب والمألوف معا والخالي من أي شطحات إنسانية تخلّلها هذا الزمن المريع، حيث الضميرالعربي وفق السرد الهرائي الخلاّب للروائية وفاء يُقتل من الطفولة بسبب التربية الدينية الخاطئة، فينشأ الفرد مقلداَ محضا وأعمى لايعرف من الأخلاق شيئا لأن الدين لايعلّم الاخلاق، بل يعلّم الوصايا النظرية العشرة بالترديد والترتيل، بدليل ذلك خيانة يهوذا الأسخريوطي للمسيح بثلاثين من الفضة بينما هو تلميذه وأمين صندوقه فأين الأخلاق هنا. اليوم تتصور النساء العراقيات اللواتي جلّهن متخلفات من أنّ الجنة يمكن أن تدخلها بعشرة آلاف دينار وهو ثمن الحجاب، بينما الدخول الى الفردوس إن وجد بالسلوك والتصرف العملي لا بالضن والضنون. كل شعوبنا ورثت الإيمان بالوراثة وهذا يعتبر باطلا وفق كل القوانين العلمية الحديثة. تخلّفّ العرب لأن الخيال ممنوع ولذلك بقينا مستهلكين للتلفزيون وأبسط أجهزة التكنلوجيا. نحن العرب في سنٍ خامسةٍ توقفنا عن التساؤل. الطفل ينشأ على التساؤل البريء، فيقول هاهي النجوم جميلة، يقولون له لاتنظر فهي مبعث للثآليل، ثم يردف مَن خلقها: فيقولون له ربنا، ثم حين يسأل من خلق الرب؟؟يقولون له إسكت إسكت وهذه هي الطامة القاتلة لروح الإبداع فيموت الجواب والسؤال والخيال في تلك اللحظة الطفولية حتى سن الشيخوخة لأن الدين ليس مجرد وهم (inusion)) لكنه خطرُّ لأنه يمنع من استخدام الناس عقولهم فيضمحل العقل والذكاء، ولذلك نرى في الغرب وفي أحدى المدارس طلبت المعلمة من الأطفال أن يوجهوا أسئلتهم الى الله وبكل حرية فقال أحدهم:

عزيزي الله: بدلاً من أن تجعل الناس يموتون، ثم تضطر لصناعة بشر جديدين، لماذا لا تحتفظ وحسب بهؤلاء الذين صنعتَهم بالفعل؟

ثم قال آخر:

عزيزي الله،: هل أنت فعلاً غير مرئي، أم أنّ هذه حيلة أو لعبة.

شتان فرق بيننا وبينهم فيظل الإنسان العربي في حلقة مفرغة من الحياة الروتينية التي تخلق حالة من الرفض وعدم الإعجاب دون أن يفعل شيئاً يرفع من الذات الحرة. ولذلك نرى وفاء صرّحت بهذا الخصوص في بداية بوحها في كتابها القصصي (المتحوّلون) والذي له رباط وثيق بهاتين الروايتين فتقول:

لا أدري
ليس ثمة مايدهش
ليس ثمة مايخرج من أناي

هنا تقترب وفاء مما قاله العظيم محمود درويش في قصيدته:

لا شيءَ يُعْجبُني"
يقول مسافرٌ في الباصِ، لاشيء يعجبني
لا الراديو، ولا صُحُفُ الصباح، ولا القلاعُ على التلال
أُريدُ أن أبكي....

في رواية دولة شين التي تضم مكنونين، سلطة الشياطين والطوائف ولايمكن أن نطلق عليها دولة بالمعنى الحقيقي. هذه السلطة حلّت بعد جمهورية الخوف للبعث المجرم التي كتب عنها الروائي العراقي (كنعان مكية)، لكن الدولة التي نحن بصددها لوفاء هي الدولة الكونية ضمن سياق العولمة التي تفرض بالقوة وسفك الدماء.رغم أن أغلب أحداثها في عراق الحاضر.

الرواية هي سرد نثري عن الأساطير الدينية وأسطرة أبطالها وكيف يتم خداع الناس بالماورائيات وأن هذه الحياة التي نعيشها سوى عبارة عن وهم زائل. انها الرواية التي تقترب كثيرا في سخريتها الهائلة للمقدّس المسيّس، على غرار السخرية العظيمة التي قرأناها في جحيم دانتي ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري أو ملائكة وشياطين (Angels & Demons) للكاتب الأمريكي (دان بروان) والتي مثلت في فيلم جميل من بطولة (توم هانكس) و(آيليت زويرر). شخصيات رواية دولة شين كثيرة لغزارة الشياطين وأسمائهم وأهمها (شين) الشيطان الداينمو لفتك الأرواح ثم سيد الكون المطلق (كريم). يجول الشيطان في ثلاثة عشر باب ويدخلها ليرى الهول الغرائبي في الجرائم وانسحاق البشر تحت رايات يصنعونها بأنفسهم مع التزويق بالهالة الإلهية كحجة لدفع الجريمة الى العود الأبدي وان كل مايحصل هو بفعل الجبرية والقدرية فعلينا الإستسلام لكل مايحصل من قهر وتقتيل وموت من طائل الحروب والكوارث الطبيعية. دواعش ورايات سوداء وسيوف لامعة تحصد البريء والمجرم فلافرق هنا طالما هم تحت طائلة البند الإلهي فهو الحاكم ألأخير الذي لايعلى عليه وهو بنفس الوقت الذي طرد الشيطان وجعله منفياً أبدياً، لكي يضع اللائمة عليه في الإغواءات بشتى أنواعها فينشأ الصراع بين إله الشر وإله الخير بينما البشر لايعرفون حتى الآن ماهي الحقيقة الأساسية لكل المأساة في الدمار والموت التراجيدي الذي كنا نعرفه أيام زمان مضى لشخص واحد بينما اليوم نرى الموت إحصائياً وأكداسَ جثث. شياطين إجتمعوا بأعداد قليلة وعليهم أن يزيدواعدد الشياطين لبناء دولتهم الموعودة بشتى الوسائل طالما الغاية تبرر الوسيلة. دولة توعد الناس بالحوريات في الأرض وفي جنان الرب المتخيّلة فيبقى العربي بتفكيره الذي لايتخطى أسفله المنتعظ على الدوام بينما نيوتن عالم الفيزياء المدويّ لم يتزوج، بل لم ير فخذ امرأة، بل لم ينل قبلة واحدة من احداهن، إنها ضريبة الإبداع.

في الرواية نرى خيانات بين النساء والرجال وكلُّ له شيطانه، ولم لا ففي ألإنثروبولوجيا نرى أنّ الشيطان هو سبب تدنيس جسدي الرجل والمرأة فهاهو الطبري يقول (اذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزينها لمن ينظر، وإذا أدبرت جلس الشيطان على عجيزتها فزينها لمن ينظر). ولذلك تستشهد وفاء بكامل معرفتها بذلك وتسرد: يجتمع توفيق وتغريد على الخيانة، توفيق يثأر من زوجته الخائنة وتغريد تثأر من زوجها الخائن فيجتمع شيطانيهما ويتم اللقاء الجسدي تحت غواية الشيطان، لكنّ الشيطان بريء من كل ذلك انما هي نفوسنا التي تبرر حين تقترف الجرم، بينما حين ننظرالى ديستويفسكي العظيم الذي رفض كل أشكال السلطة الدينية فراح يرسم لنا أجمل الحب فيقول لزوجته وهو على فراش المرض (أنا لم أخنكِ حتى في الذاكرة والحلم).

تنتقل بنا الرواية الى (مرض البيدوفيليا) وإغتصاب طفلين ثم دفنهما أحياءً لإخفاء الجريمة، الطفولة التي قال عنها مايكوفسكي (لآ أعترف بعالم يستطيع الإساءة لطفل). وهنا يقف (إبليس أو شين) لهول الجريمة ويعترف من أنه ليس ذلك الشيطان أيام زمان مضى، كان قويا ماردا لكنه اليوم ضعيف ومتفرج فقط إذا ماقورن مع شياطين هذا الزمان وما يفعلونه في دولتهم المشرعنة من قبل السيد مطلق (كريم). الشيطان (هو ذلك الذي أراد إثبات عصيانه بطريقته الخاصة، والثأر لمكانته المهانة. لم يسجن نفسه في زمن معين وساعة محددة. هو كل الأزمنة حتى الساعة الموعودة، هو اللانهائي والمكتفي بذاته).

تجتمع الشياطين لكي تزيد عددها الى أثني عشر شيطان وهذا الرقم استوقفني، فكل ألاديان لها أثني عشر مبشراً إبتداءا من اليهود و المسيح وتلامذته حتى الزرادشتية والهنتوسية. ثم يتم توزيع المناصب بين الشياطين لكي يتم الإحكام والقبضة على شعوب ساذجة لاتفعل شيئا سوى الإنصياع. تتحرك هذه السلطة الشيطانية الى عالم الشواذ فهناك يجدون ظالتهم، بين اللوّاطين والسحاقيات وممن يمارسوا زنا المحارم. وهنا تتطرق الرواية بشكل يثير القيء بهذا الخصوص، أخ مع اخته، أب مع ابنه، أم مع أبنها، عالم لايمكن تصديقه، متطرفون أهانوا الجسد، رجال أكليروس أكثر مايغيضهم خيبتهم وكبوتهم في السرير بالرغم انّ هذا الأخير هو ملعبهم وساحتهم، شواهدهم في المضي في حياة جنسانية المفترض لها أن تكون أجمل رغباتنا، لكنهم حولوها الى النكوص والتردي وإذلال المرأة تحت مسميات القداسة وحجابها الذي جعل من المرأة أن تفك ظفائرها مرغمة في أبشع أماكنها لغرض الجنس فحسب وتدنيس الجسد بكل خرائطه التي خصته به الطبيعة بالجمالات والترافة. الجسد لوحة حية علينا التمعن بها والتمتع قبل لمسها الا بعد موافقة صاحب الشأن. الجسد يثور ويعلن صرخته الكبرى كما أعلنها في شعوب الغرب وأخذ مساحته في الحق في التعري والتقبيل في الحدائق والبيوت وأمام السابلة الحاسدين أو الذين يغضون الطرف لثقافة تجلّت في الضمير والوجدان لإحترام هذا الصرح الجسدي المهيب للنساء والرجال. الجسد هو السندس الذي يعني أنعم أنواع الحرير، الجسد حين يثور يفعل المستحيل مثلما فعلتها راهبة الكنيسة في فيلم المتشرد (the homesman) من تمثيل (تومي لي جونز) والجميلة (هيلاري سوانك) ذات الكبرياء العالي التي لم تعرف معنى التقبيل والعناق طيلة حياتها..في يوم حالك منتصف الصحراء تتوسل بخادمها القذرعقلا وجسما وتدس جسدها الزّمردي ذاك الذي لم يلمسه أنسيُّ أو جنيّ في اليقظة أو في الحلم. و قالت له مُتوسّلة رخيصة: أرجوك.. فضّ بكارتي.. أرجوك لا تجرح كبريائي أكثر و لا تُذلّني.. أرجوك ضاجعني.. وليكن ما يكن.. أريدُ معرفة معنى الرّغبة التي يتكلّمون عنها..أريد أن أعرف ما هذا الذي يسري في بدني و يجعلني أحبُّ قذارتك هذه و نتانتك التي لا تُطاق، جسدي كتلةٌ من نار، فأرجوك إطفئني...ويحصل لها ماتريد ثم تنتحرعند منبلج الفجر إنتقاماً لكبريائها الذي أُهين.

يتبــــــع في الجــــــــزء الثانـــــــي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى