وكم فى السجون من منح وعطايا
لم يكن يخطر بباله أن يحدث له كل هذا التحول فى حياته، ولم يكن يدرك أن اسمه الذى سماه به أبوه وأمه سوف يكون سببا فى هدايته إلى الله.
رجل فى الخمسينات من عمره يعمل سائقا لميكروباص، يدخن بشراهة، لا يعرف طريق المسجد، يصحو من نومه كل يوم مسرعا وهو يفرك عينيه من آثار النوم، ويركب سيارته ليلحق بركب الضجيج والصخب، والنزاع والشقاق والسباب والشتائم، ويعيش حياته بين الكلاكسات والمواقف والبنزينات ورجال المرور، ربما استوقفه صوت المؤذن عند كل صلاة فلا يبالى به، ولم يبالى، إنه صوت تعود عليه وألفه ضمن الأصوات الكثيرة التى تعج بها المدينة الكبيرة، مضى أكثر عمره وهو على هذه الحال.
ثم كان ما ليس فى الحسبان؟!!!
ذات ليلة من ليالى الصيف، وفى منتصف الليل سمع طرقات عنيفة على باب شقته، قام مفزوعا مهرولا نحو الباب، لكن الطارقين كانوا أسرع إلى غرفة نومه منه إلى باب شقته، لم يمهله أحد حتى يعرف ما جرى، انقلبت الشقة رأسا على عقب، جنود هنا وعساكر هناك، يفتشون هنا ويبحثون هناك، وقف مشدوها غارقا فى بحار من الحيرة والاضطراب، ماذا حدث؟ ما الذى جرى؟ وبدأت الأفكار تموج فى عقله، والوساوس تتسلل إلى قلبه من كل حدب وصوب...
انه لم يفتعل مشكلة مع أحد، ولم يسرق شيئا من أحد، ولم يصدم أحدا بسيارته ويهرب، وليس له علاقة بالمخدرات إلا علاقة الشارب بمشروبه المفضل.
وفجأة فاق من حيرته واضطرابه على صوت قائد الحملة يوجه إليه تهمة الانتماء إلى جماعة دينية محظورة!!!
وقع الكلام على رأسه كأنه صخرة عاتية سقطت عليه من جبل شاهق، وما استطاع أن ينطق بكلمة واحدة..
وما هى إلا لحظات حتى وجد نفسه محشورا فى عربة زرقاء صغيرة، مقادا مهينا ذليلا إلى أحد سجون بلاده..
لم يكن وحده فى تلك الليلة المشئومة فقد وجد غيره الكثير قد سبقوه إلى ذلك المكان الكئيب.. لكنه كان الوحيد الذى كانت تهمته " تشابه أسماء".
مرت الأيام الأولى من حياته الجديدة ثقيلة بطيئة، كأنها سلحفاة تصعد إلى قمة جبل شاهق..لكن بمرور الأيام بدأ يستسلم لقدره، ويتكيف مع حياته، ويتآلف مع أقرانه الجدد.
لم يكونوا مثل أصحابه السابقين، إنهم نوع مختلف من الرجال لم يره من قبل، لم يرى منهم ضجرا، ولم يسمع منهم كلمة سخط، بل لم ير إلا وجوها باسمة، وقلوبا صافيا،وجباها لله ساجدة، وأيد حانية متوضئة..
شملوه بعطفهم، وخففوا عنه آلامه وأحزانه بكلماتهم الرقيقة وضحكاتهم البرئية، رغم أنهم فى الحزن والآلام سواء.
مرت الأيام معهم مسرعة هانئة سعيدة، بدأ النور خلالها يتسلل إلى قلبه، ويشعر براحة البال وطمأنينة القلب وسعادة النفس وهو بين القضبان، مالم يشعره أبدا فى حياته وهو حر طليق.
فعلم أن السجن الحقيقى أن تحبس نفسك عن خالقها، وأن تحجبها عن أصلها..
ولما حضر أهله ليزوروه لأول مرة، بحثوا عنه فلم يجدوه، وجدوا رجلا يشبهه فى الشكل، لكن بالتأكيد ليس هو إنه خلق آخر!!!
حقا كم من محنة فى طيها منحة، وكم من بلية فى طيها عطية.
