يا صيحة الحيرة في الروح ...
توفي الأديب الكبير محمود المسعدي فجرالخميس السّادس عشر من شهر ديسمبر(كانون الأول) عن سنّ تناهز أربعة وستين عاما . وكانت وفاته خسارة عظيمة للشعب التونسي فلقد مثّل المسعدي ـ اضافة إلى نشاطه الحكومي والنّقابي ـ مدرسة متفرّدة في الأدب العربي.
منذ القدم كان الموتُ الكمالَ "*
" نحن لا نموت إلاّ في آخر القصّة " [1] هكذا قال المسعدي ذات نفس و ها قد انقطع الآن النّفس...
أيعني ذلك أن القصة انتهت ؟ وما عسى تكون القصة تشهد الإنتهاء ؟
أقصّة الحياة هي أم قصّة الإبداع أم قصّة البعث ؟ و أي قراءة عساها تفك شفرة مفارقة الحياة و قد التأم شتات المتفرّق ؟ أتراه أسلم الروح وقد اطمأن على أعماله نشرت كاملة غير منقوصة ، واطمأن على الرسالة انتشرت فهي الهداية لمن ضل الطريق وهي عصا الرحيل لمن هزّه شوق الرحيل ؟
أم تراه أدرك أن " الحياة و الموت لا قدر فيهما [...] ولا قضاء إنما هما من أمر القصة " [2] وها قد اكتملت القصة فما وجه الحياه ؟...
أم تراه تعب من الرحيل و آن له أن يسكن وهو القائل" مستحيل أن أسكن أو تسكني" [3] لقد امتدّ به الطريق وأثقل الحمل عصاه ...
ما كان أثقل الحمل و ما كان أشجع حامله ...
أتراه آمن بأن " وضع الإمكانات وضع الحمل و[بأن] ليس أحقر من حامل بعد وضع" [4]...
فكان من امتلاء القصة خواؤه ومن تمام الحكاية موت الحكّاء ؟...
لقد أمات النبي الموت في كل ما كتب ... و ها قد مات بعد استيفاء الحياه ... كيف ينجو المريدون من الإرتداد ؟ ما أصعب الإيمان إذا ما نفخ غول الشك أشلاء الأكوان ... ويح الحياة ، ما أكبر زيف الحياه ...
*
و كلماتي ؟ أين عساها تزج هذي الكلمات ؟ أفي الرثاء ، أم في التأبين ، أم بكاء هي على فقيد و الفقيد أكبر من البكاء .؟...
إنّا نرى يد الإله في عجائب الكائنات فكيف لا نرى عبده في ما خلف من آثار باقيات، أبد الدهر باقيات ...
أحقا فارق المسعدي دنيانا ؟ إن يك هذا هو الحق فالحق زيف ... ما فارق المسعدي عالمنا ولن يفارق ...
كيف يفارق من نزع قلبه وأسكنه " سدّا " منيعا لا تهدّه النائبات فإذا" السد" نابض ومن نبضه روح الخلود .؟...
كيف يفارق من حمل " أبو هريرة " وجهه و سيظل يحمله إلى أن يرث الله الأرض ومن
عليها ...
كيف يفارق من عجز مدينُه عن إيجاد عقار يميت الموت، ولم يعجز هو عن خلق هذا العقار ... فهو المسعدي كان ، وهو الكائن ، ولسوف يكون ... كيف يموت من أصّل الكيان ؟...
أكان جادا وهو يتحدث عن أبي هُريرتِه قائلا : " ستمضي هذه الصحائف و تمّحي فهي أنفاسي قد ذهبت ولها ريح ما يبلى و يأكله الدّود، كجميع الذين كتبوا من قبل يظنون أنهم خُلدوا وأماتوا الموت " [5] كم كان واهما ... كم هو واهم ... لكنّه سيعلم أنّه ما قَدًّر الذي سيكون إلاّ عبر الكائن ، والكائن ضعيف خاوٍ، و الإمكان أكبر من كلّ امتلاء ... كيف تذهب هذه الصّحائف وهي في الذّاكرة اللأبدية قد نقشت ؟... كيف يأكلها الدّود وهي السّحر و الإيقاع يتنزّه عن دنس المادّة ويرقى حيث لا ديدان ولا تراب ؟...
كيف تموت يا مسعدي وقد أنشأت في الأرض حيّا لا يموت إلا بموت الأرض و ا نتهاء الخلافة ؟ ما كان أعظم هذا الإنشاء ...
إن كنت تعني موت الجسد فكلّنا إلى الموت سائرون ، أمّا إذا كنت تعني موت الرّوح ، فطوبى لمن نجت روحه و شفّت فكانت تميمة التمائم ...
أتحسب أنّ أبا هريرة " كالصّوت أو كالصّيحة في وادٍ به حاجة إلى ما يردّد صداه و يسري فيه خلجة الحياة .." [6]
ما كان أعظمه تواضع العظماء ...
لا يحتاجنا أبو هريرة و لكنّنا من يحتاجه ... لهو الصّدى وهو الحياة ...
ما أحوجنا إلى الدّليل يرسم لنا المسير إلينا في قسوة لا ترحم ...
لقد كان لقاؤك إمكانا حملا، فانكشف العجز... فلا إمكان ولا حملَ...إن هو إلاّ حمل كاذب ووهم زائف و صيحة ولا صدى ...
كانت الكتابة عنك وعد حق للذات غير أنه مؤجّل ، تهيبا كان التأجيل ..وإيمانا كان التردد.. واعتقادا كان الإحجام ...
دعنا من ترديد الخصال و ذكر المناقب فليس لي منك إلاّ الأديب المعجز ...وما أصعب الحديث عن الإعجاز... ما أعذب الحروف عندك وما أبهاها ... ما أروع عطرها وما ألين جسدها ... ما أحلى روحها وما أنقاها ...
أحببت سحر الضاد قبل أن أعرفك... وعرفتك فأصبح حبّها عشقا و فناء...
ما أعذب صوتها تغازل به ميمونة غيلانَها ، و يحدّث به أبو هريرة ريحانتَه ...
قيل إنّ " سُدّك مسرحية و قيل إنّه رواية ، وقيل إنّه مسرواية ... دعنا من القول ومن القائلين ... صدقتَ إنّ " الشّعر ينزل على الشّاعر وحيا كوحي الأنبياء من الله ،و يأتي بعد ذلك الفقهاء ليفسدوه ، وأصحاب الشّرح ليطمسوه "... [7]
ما همّنا من النّقد و التّحليل ونصُّك الكتاب المعجز ، فمتى ضرّ الخمرةَ المعتّقة إناؤها ومت حدّد العطرَ لونُه ؟
إنّما بهاء " السدّ " سحر الفجر فيه، و عذوبة الكوثر ينساب رقراقا بين ثناياه ...
إنّما " السدُّ " كيان يفتح برأسه في السّماء بابا ... [8]
إنّما" غيلان " و" أبو هريرة" و " مدين" و" عمران " أنبياء كلّ ٌبهم مُؤمنون مهما اختلفت الأديان ...
ما كان أعظم رسالتهم ...ما كان أقوى الإعجاز ...
ما كان أكثر حديثك عن الموت ...قبل ستّين عاما كنت تردّد صوت الموت ... [9]
ما كنت أعلم قبلك أن الحديث عن الموت إنشاء للحياة ...
قال "عمران " ل"دانية" ذات يوم :" ترين كيف يفرش للموت ؟ " أكنت تفرش للموت قبل ستين عاما أم للحياة ؟ ...
حَقَّ لك أيّها المعجز أن تُتَفِّه" الحب القاصر عن الجنون و العبادة الخالية من العشق" [10]
لقد كانت كتاباتك جنونا و كلماتك عشقا و عباده ...
وكما ابتدأت في" حدّث أبو هريرة قال ..." تتساءل عن صدى الكلمات ، تختم في"من أيّام عمران " بذات السّؤال وذات الحرقة : " أكتب ..لمن أكتب ؟ ألأنا طَمع في أن يبقى حيّا ؟ في ما أكتب ...ومن يقرأ ما أكتب ؟ وهم كلّ ذلك ... " [11].
أعدتَ وأعيدُ ... للكون كتبتَ ...الكون الذي قرأ ويقرأ وسيظلّ يقرأ ... ما كان أجمل ما كتبت و هنيئا لنا بما نقرأ ...
و لكن مهلا ... ما هذا الخواء الذي أنا كتبت ؟ أهو إمكان دقّ الرّوح فآنَ وضعُهُ أم هو عزاء للذّات عن إمكان لقاء ... منية ماتت قبل الولاده ؟ أم هو الموت الذي كنتَ عنه تحدّثُ يصرخ بي أنْ عنه حدّثي فلطالما عنّيَ حدّث ؟؟؟
أسئلة ولا جواب ... حيرة بلا يقين ...حلم ولا أمل ...
الإعجاز فيما حدّثتَ و الحياة فيما كتبتَ ... تلك خلاصة اللحظة ...ما أكبر اللحظة فينا وما أصغرها في عمر الأبد ...
أوَ لم تقل يوما " كلّ جمال الكون في عين الإنسان بدونها إنما هو عدم ظلام .." [12]
فشكرا لك لما تركته بين أيدينا ، وما جعل ويجعل الكون في أعيننا جميلا أبداً ...ساحرا أبداً ...رائعا أبداً ...
قال أبو المدائن يوما : "رحم الله أبا هريرة لقد كان أعظم من الحياة .." [13] ونحن نقول رحم الله أديبنا المسعدي لقد كان أعظم من الموت ومن الحياة ...