الاثنين ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٣
(في الذكرى السنوية العاشرة لرحيـــله)
بقلم مفيد مسوح

يوسف حنــــا ـ نــورٌ أفـــَـل قبــــل الأوان

د. مفيـــد مســوح

"لماذا لم تدقَّ على جدارالخــــزان؟ لمـــاذا؟"

بهذه العبارة استعار يوسف غضباً مصطنعاً من (أبي الخيزران) منحياً باللائمة عليَّ حال أن فرغت من سرد تفاصيل حدث اعتقالي منذ سنة ونصف.

 قلت بلغة الواثق من فهم الاستعارة: وما ذا كنت تتوقع أن يحدثَ لو أنا فعلت؟

 قال: أعتقد أن الزمن الذي استغرقته العملية لأخذك واستجوابك ونقلك أخيرا من الشعبة الى (حي الميدان) كان كافيا للقيام ببعض الاتصالات النافعة واطلاق سراحك قبل أن يصلوا بك الى الكركون ..

وأكمل مستعيراً مشابهة ساخرة من فيلم (المخدوعـــون): لو سمع أبو الخيزران طرق زبائنه الثلاثة على جدران الخزان لافتعل شيئا ما وركض إليهم وأنقذهم .. كانوا سيفرّون وسيعرف أبو الخيزران كيف يدبّر الأمر مع شرطة الأمن العام وربما استطاع فيما بعد تأمين فرصة أخرى بكلفة أقل لنقلهم الى الكويت بتفادي الثرثرة مع موظفي الجوازات ..

ويضحك يوسف مداعباً فأبادله الابتسامة متيقناً بأنه لم يقصد إلقاء اللوم عليّ أو على (أبي قيس وزملائه) .. فما أنا متأكد منه أن يوسف بعمق إدراكه للأشياء يعرف أن الاضطهاد الطبقي والاستعمار وحالة العوز هو ما دفع أبا قيس وزملاءَه لقبول عرض أبي الخيزران ومغامرة تسلّل الحدود من شط العرب الى الكويت من دون تأشيرة دخول أملا بالعمل هناك .. تماماً كطموحي المشروع للحرية والعدالة الاجتماعية الذي جعلني أثق بمن خلفي فأخوّل نفسي القيام بالتحريض ضد القمع والفساد والرجعية ..

أردت أن أبادلَه المداعبة فأقول: جُبنك هو الذي حماك من أن تكون رابعَهم ولكنني تداركت الموقف وقلت متهرباً: لقد كان الفيلم جيداً ومؤثّراً .. وكان الحضور كذلك .. ليس كل الناس في دمشق يعرفون المخرج توفيق صالح .. ولكن الجميع يعرفون يوسف حنا ومنى واصف وعبد الرحمن آل رشي وسليم كلاس وبسام لطفي وعدنان بركات وغيرهم .. ما قاله الكثيرون ان توفيق صالح نجح في اقناع ممثلين كبار في تقاسم أدوار هذا العمل الضخم لغسان كنفاني .. أظنهم محقون ..

لم يعترض يوسف على تهرّبي ولكنه لم يعجب بتعبير (ممثلين كبار) فانبرى بالقول:
 وماذا تعني بالممثلين الكبار ؟ أنا لست ممثلا كبيرا سيدي !!
ويضيف وهو يتفقد نظافة اسطوانة لأحد كونشرتات باخ الستة الشهيرة (براندنبورغ) قبل أن يحملها على قرص جهاز البيكآب: البناء يا مفيد يقوم على تعاضد كافة مكوناته صغيرة كانت أم كبيرة !! ما كبر الا من ابتدأ صغيرا .. ثم ان ما هو صغير في حالة ما كبيــــر في حالة أخرى ... ويقهقه للتورية الخبيثة !!

ويستمر الحديث وتتشعب مواضيعه دون أن يبدي يوسف أيَّ شعور بالملل .. أما أنا فعلى الرغم من أنني كنت أحسُّه مشاكساً أحياناً، كنت أصطنع التعليق الارتجالي خشية أن ينتهي الحديث باكرا فأخسر متعة الاستماع والتحاور مع أبي إياد الذي يكبرني بعشر سنوات تقريبا ..

كنت طوالَ السبعينيات الى منتصف الثمانينيات ضيفاً متوقعاً كل يوم على بيت أبي يوسف في الحي الدمشقي الهادىء (جناين الورد) .. كنت أتعمد في كثير من الأحيان التحكم في طريقي جاعلا ايّاه يمر من (شارع حلب) كي أعرِّجَ فأطرقَ باب هذا البيت السحريّ الدافيء الذي اعتاد على جذب العشرات من الأصدقاء والصديقات من ألمع رموز الثقافة والفن في دمشق .. كان بيت أبي يوسف منتدى للفن والأدب والثقافة وملتقى رواد المسرح والتلفزيون .. كان يوسف محورَ البيت ومِحرقَ أشعة النّور الخارجة من عقول وأفئدة أفراد عائلة شردتهم نكبة 1948 فخرجوا من الأرض المحتلة تباعاً صِبيةً وبناتٍ في مقتبل أعمارهم يبحثون عن ملاذ يوفر لهم الطمأنينة واستئناف الدراسة ، مثل آلاف العائلات الفلسطينية ..

بحث آل حنا عن حالة الاستقرار لم يطل .. فكفاءات الوالد وجديّة الأخت الكبرى وفر بسرعة كافة مستلزمات الحياة السليمة فتابع يوسف وأخوته دراستهم وتحصيلهم مثبتين حضوراً متميزاً في الأوساط الأدبية والفنية ..

بدأت حياة يوسف الفنية وهو في السنوات الأولى من دراسته الجامعية في كلية الآداب .. لا أعرف بالضبط ما هي أوائل الأعمال المسرحية أو الإذاعية أو التلفزيونية التي اشترك بها ولكنني كنت معجباً بأدواره في كل ما كان يعرض على شاشة سوريا الفتية في أواسط الستينيات بالأبيض والأسود .. فيما بعد أدركت عشقَ يوسف للفنون المسرحية..

قال لي أنه في عام 1961 انطلقت فرقة رفيق الصبّان تحت اسم (ندوة الفكر والفن) وكان أحد أعضائها ومعه لفيف من روّاد العمل المسرحي السوري أمثال منى واصف وهاني الروماني وأسامة الروماني وغيرهم .. الأعمال الدرامية المترجمة التي قدمتها الفرقة كانت من الأدب العالمي المترجم وبرع فيها الممثلون في نقل ناجح لروائع الأعمال مثل "أنتيجوانا" لسوفوكليس و"تاجر البندقية" لشكسبير وغيرها .. وربما من هنا جاء شغف يوسف اللاحق بالأدب الكلاسيكي العالمي ومسرحه ..

في النصف الثاني من الستينيات عمل يوسف في فرقة (المسرح التجريبي) مع سعدالله ونوس وعلاء الدين كوكش وهاني الروماني وأسامة الروماني وآخرين .. بعض هذه الأعمال حضرتها حية على خشبة المسرح القومي أو خشبة صالة الحمراء .. وأخص بالذكر منها مسرحية (حفلة سمر من أجل 5 حزيران) التي شفتْ غليلا كامناً في نفوس المشاهدين الذين أذهلتهم نكسة حزيران لما قدّمته في بعض مشاهدها من تصويرٍ لأسباب الهزيمة متهمةً الأنظمة العربية المتاجرة بالشّعارات والمستهترة بحقوق الكادحين دافعي ثمن الهزيمة .. لقد لاقت هذه المسرحية تألقاً واقبالا جماهيرياً شديداً في عروض متواصلة عام 1971 ، تباهى كثيرون بتكرار حضورها.

وفي فرقة (أسرة تشرين) التي أسسها العلمان الكبيران دريد لحام ومحمد الماغوط كان يوسف حنا من أبرز أعضائها الى جانب فنانين قديرين مثل ياسر العظمة وعمر حجو وحسام تحسين بيك وصباح الجزائري وغيرهم ..
لم يبخلْ أصدقاء يوسف من النقاد والأدباء والصحفيين باستعراض شخصيته المتميزة من خلال الأعمال المسرحية والتلفزيونية والسينمائية التي شارك فيها ولم يخل تحليل لأي من هذه الأعمال من التعريج على أدواره .. وقد أجمع معظمهم على كرمه الكبير في التعايش مع أدواره وتبنيه للشخصية التي يقدمها بتفاعل تام ومستمر لا تتذكر معه أن الشخص الذي أمامك هو يوسف حنا الا عندما تنتبه الى صوته الرخيم المتميز ..

شخصية يوسف في حياته اليومية كانت ملاصقة لشخصية الفنان المقتنع بدوره في إكمال روعة أدب الحياة .. قال: التمثيل هو الوسيلة الأولى لتفعيل الحرية والممثلون آلهتـُها .. لا أعرف إن كان إعجابي الكبير بشخصيته المتميزة هو السبب في أنني لم أكن أجد فرقاً بين أحاديثه في البيوت وأدواره على الخشبة أو أمام الكاميرا أم كان كذلك بالفعل بالنسبة للآخرين أيضا .. ما عرفت يوما أحدا لم يُفْتن بيوسف وأدواره التي كنت أظن أنه يختارها .. قلت ذات مرة: أعتقد أنه كان مقِلا لأنه لم يكن يرضى بأداء دور ليس مقتنعاً به .. كثيرون كان عندهم رأي مماثل ..

سألته عن دور "قدري أفندي" في مسلسل (الدغري) .. كعادته عاد بي الى الأدب التركي الساخر وعزيز نيسن وتقاليد المجتمع الإقطاعي ومفارقات دوره كأبٍ تقدميّ يؤمن بالتحرر وبحقوق ابنته (فضة) باختيار شريك حياتها وكثوري لا يجيز لنفسه تفضيل صهر ميسور عن (نوري) الذي توخى فيه شخصية العامل المناضل يجنّده إلى جانبه في مقاومته للإقطاعي ولسلوكية ومواقف المنافق والمخادع (ابراهيم) .. شمولية الرؤيا والعمق والربط الديالكتيكي عند يوسف وهو يحلل عملا ما أمامك يجعلك تقتنع بأن كل شخصية هي محور وكل الأدوار هامة في هذا العمل .. طالما أن الشخصيات من الواقع .. تحدّثنا دوماً في أعمال كبيرة مسرحية وتلفزيونية اشترك بها وأخرى لم يشترك بها ..

في مئات الأمسيات الممتعة في بيت العم جورج الذي أصر يوسف على البقاء فيه إلى جانب أهله لفترة طويلة مستصعبا الانتقال الى شقته الجديدة في حي المزة "البعيــد" .. حضرت لقاءات رائعة مع نخب الفنانين والأدباء والشعراء والمخرجين والنقاد والممثلين واستمعت الى أحاديثهم وتحليلاتهم العلمية في واقع وتطلعات وآفاق المسرح والسينما في سوريا .. كان ليوسف مكانة خاصة جدا عند جميعهم .. الكل أحبوه وتأثروا به منهجاً واسلوباً واتساعَ أفق وحباً للحياة والحرية وعبادةً للفن .. أصدقاؤه من أكثر من جيل واحد .. صغارهم تلاميذ يفخرون في ما تعلموه من يوسف فهاهم ممثلون كبار ومخرجون وكتاب سيناريو وقد ملأت أعمالهم الآن شاشات التلفزة العربية والشاشات الكبير أيضا ..

لماذا اتسمت شخصية يوسف حنا بهذا القدر الكبير من الجاذبية وعمق التأثير على الآخرين ؟
على الصعيد الفني والثقافي كان يوسف عاشقاً للتمثيل ذائباً في عالمه مغرماً بالحديث عنه وعن رجاله .. كان مقتنعاً تماماً بمسيرته الفنية ومخلصاً لشروطها ولم يكن يطمح كما فعل آخرون للانتقال الى صناعة الإخراج كما لم تُغْرِه الجدوى المادية لتعدد النشاطات، فوقته الثمين كان مليئاً بالقراءة المستمرة لروائع الأدب العالمي والمسرح والسينما إضافة الى الشعر والموسيقا والفنون التشكيلية والسياسة .. قال ذات مرة: نحن ندخل الى العقول والقلوب من فضاء واسع وكي تقبلنا هذه العقول والقلوب يجب أن تقتنع بكلامنا أي يجب أن ننجح في نقل الأفكار من الورق اليهم .. وهذا يتطلب مهارة كبيرة لا توفّره الموهبة لوحدها ولا بد من ثقافة عالية عميقة وواسعة كي يتمكن الممثل من الوصول بدوره الى ذهن المشاهد خاصة حينما يمثل شخصية معروفة في التاريخ ..

كنت أرى في شدة اهتمامه برصيده الثقافي ومنهجيته وحرصه على المواكبة والالمام بأحدث الاطروحات الأكاديمية وأخبار الفن المحلي والعربي والعالمي فلسفةً محورُها احترام المشاهدين وهمْ بالنسبة للفن هدفُه الأول والأخير .. على خشبة المسرح كنت أراه يخاطب الحضور كما يفعل عندما يكلّم جليسَه بتلقائية طبيعية ودونما أيّ تصنع .. كثيراً ما سمعت المخرج الكبير فواز الساجر يسوقه مثالا على المهنية المتميزة والبراعة في جذب انتباه الحضور .. وكان لشقيقته المخرجة التلفيزيونية أمل ولعرفان عبد النافع ومحمد ملص وهيثم حقي وسمير ذكرى وغيرهم آراءٌ مماثلةٌ فيه ..

لم يكن يوسف يوماً متعالياً أو متكبراً مع أنه اتّسم دوماً بالكبرياء والثقة بالنفس .. أحب أن يكون معلماً سخيّ العطاء يستمتع بنقل المعلومة أو الرأي للآخرين في الوقت الذي أبدى فيه استعدادا دائما للتعلم من الآخرين .. بقدر ما كان متحدثاً جيداً كان منصتاً جيداً .. في جلسات متنوعة الحضور رأيته ورأيت انشداد الجميع الى أحاديثه التي لم تخلُ من روح الفكاهة والمداعبة .. كان دائم المرح والاستعداد لخلق جو مليء بالفرح والبهجة بحيث أن أحدا لم يغادر لقاء به إلا وهو آسفٌ .. كافة مواضيع الفن والأدب والثقافة والسياسة موادّ رائعةً بالنسبة إليه لقضاء أحلى الأوقات ولا بأس بالنكات اللذيذة .. وكم كان يكره الحديث عن الاقتصاد والأسعار وأخبار الفساد والصفقات والتجارة الخ .. وتأثر به الجميع فكان من الصعب في حضرته فتح مواضيعَ من هذا النوع.

حبُّ يوسف حنا للموسيقا الكلاسيكية الأوروبية ومعرفته بها لم يقلّل من حبّه الشديد للموسيقا العربية والتخت الشرقي وعلى الأخص مقطوعات العزف المنفرد على العود والقانون .. كان معجباً جداً بأساطين الموسيقا المصرية وبالرحبانية .. في الغناء أحبَّ فيروز وزكريا أحمد وعبد الوهاب وعبد المطلب ولكنه فضل على الجميع معشوقه عبد الحليم حافظ الذي تميّز عنده بما كان يطلق عليه (عالم عبد الحليم) فحفظ جميع أغنياته القديمة والحديثة كلماتٍ وألحاناً وعرف قصة كل أغنية ومتى قُدّمت لأول مرة واهتم كثيرا بأغاني الأفلام وبالتسجيلات القديمة .. ما التقيت به مرة إلا وكان يدندن مقاطعَ أغاني عبد الحليم .. فإن دخل البيت متأخراً وبادرتَه بالتساؤل أجاب غناء والابتسامةُ على وجهه اللطيف: يا هلي ياهلي .. يكفي ملامي والعتاب .. فاذا جلس استرق لحظة صمت وطلع بنبرة (عبحليمية): أيّ دمعة حزن لالا لالا .. أو: توبة انْكُنتِ أحبّك تاني توبة.. جميع أغاني عبد الحليم سمعت يوسف يغنيها (في البيت والنزهات طبعا) كان له نفس الدفء في صوت عبد الحليم والأداء أيضا .. ولأنه يحب نزار قباني وأشعاره فقد رأى لقاءهما في أجمل القصائد طبيعيا.. كثيرا ما حدثني عن السينما المصرية ودورها في خلق المغنين الكبار من مصر ومن سوريا ولبنان وأقنعني بسماع أغاني سيد درويش وعبد المطلب والشيخ زكريا وغيرهم وكان في مجموعته أغلب أغانيهم قام بتسجيلها له أصدقاؤه في إذاعة دمشق ..

في نزهاتنا المتكررة الى مزرعة الوالد اللطيفة على طريق مطار دمشق الدولي استرسل يوسف بالغناء وتبادل مع الجميع أطراف الحديث وامتدح والده في ما تذخر به المزرعة التي كان يسميها (العزبة) من بيض بلدي وحليب طازج وعروق الطرخون اللذيذة .. كم رحب أبو يوسف بأصدقاء وصديقات أبنائه وبناته واستمتع بالعناية بضيوفه مما توفر..

هكذا كان يوسف .. دماثةٌ في الخُلُق وسعةٌ في البال واستبساطٌ للأمور ورويّةٌ في الاستنتاج أو اتخاذ القرار .. محبّةُ الناس من كانوا وانفتاحٌ على الجميع ورقةٌ في التعامل معهم .. هذا ما ضمن له حبــــاً تفــاخر به (قــــال: محبـــة النــاس ثــروة) ..

عندما يحدثك عن الحرية تعشقُها وعن العدالة تهمّ للتطوع من أجلها وعن الفكر النير والتقدم الاجتماعي تتحزّب إليه .. قـــال: "الحرية أثمن ما في الوجود وأساس التطور .. أعطني حريتي أقتلع التخلف من جذوره" ..

إن حدثك عن الحب أتاك بطاغور وجبران خليل جبران وشعراء الأندلس وإن وصلتم الى المرأة ذكرك بشخصيات حنـّــا مينــة وصديقات نزار قباني أو إلى الخمر ردّد أبياتا للمعري وعمر الخيام.. وإن تعقّـد التحليل أبحر بك في عالم دوستويفسكي .. إن سألتَه عن الكفاح من أجل الحرية ألقى عليك قصائدَ محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم أو عن الثورة فـ تشي غيفارا ولابأس بناظم حكمت وثيودوراكيس .. ناهيك عن تفنّنه في الحديث عن أساطير اليونان وبابل وفينيقيـــا والأدب المكسيكي والمسرح الياباني وفنون الصينيين ومعتقداتهم ..

أما عن الآيديولوجيات فقد اعتبر أن الأحزاب تمسخ الفكر وتكبله والحزبية تعتقل المبدعين .. لا بدّ من خلْق طريقة أكثَر تطوراً لتفعيل الفكر السياسي بدون أحزاب، بمزيد من الحرية وقليل من القيود .. أحبَّ الماركسية لأنه وجد فيها فكراً علمياً سيقبله العصر والمجتمع المدني وربما ينجح في الوصول الى رخاء البشر وحريتهم إن هو ابتعد عن الحزبية .. وبالرغم من كل شيء لا بد أن نبقى متفائلين فالحياة تسير إلى الأمام فقط و(أحلى الأيام تلك التي لم نعشها بعد). قال مرة مازحـاً، قاصداً تأكيدَ عدم قناعته بالحزبييـــن: هنـــاك ماركسيٌّ وحيدٌ هو لينيــن وليـنينيٌّ وحيــدٌ هو أنا ..

حبُّ الفنانينَ والمثقفينَ السوريينَ شباباً وشيبا أظهرتْه بجلاء محنةُ مرضه العضال الذي وقع خبره على الجميع كالكارثة في أوائل خريف عام 1993.

يوسف بدون إنذار في غرفة العمليات وأهله وأقاربه ومئات الأصدقاء والصديقات في الممرات وحدائق المستشفى يتمشّون مصطنعين أحاديثَ تُلهيهم عن الحدث .. وجوههم متجهمة وقلقهم لا تخفيه ابتساماتهم الباردة .. بين قادم للاطمئنان ومغادر لقضاء عمل ضروري تدفقت أمام المستشفى سيولٌ من العواطف النبيلة والمشاعر الصادقة .. وبين مصدِّقٍ ومدركٍ لخطورة الموقف ومتجاهلٍ لتفاصيلِ الحالة ابتعاداً عن وجلٍ من الانهيار يرافق المشهدَ النهائي مرت الثواني كأنها الساعات يتخللها توجس وتبادل لأخبار عن تطور الحالة ينقلها أحد أفراد عائلته أو خارجٌ من ردهة غرفة العمليات، حيث تطوع للعمل الجراحي طاقمٌ من أكبر جراحي دمشق يحاولون التغلب على القصور الكلوي الحاد الذي داهمه بلا رحمة ..

عندما خرج أحد الجراحين يقول: (يوسف بحاجة الى نقل دم فهل من متطوع؟) لاقى سؤاله مشاعرَ من نوعين: استغرابٌ من السؤال عن وجود متطوعين بين جمهور من محبيه تعبت الأرض من طوافهم حول المستشفى وتفاؤلٌ كبيرٌ ممزوجٌ بتمنيات لا حدّ لها بالنجاح .. لو خرج جراحٌ يسألُ عن متطوعينَ بالأيــّام لا بالدم لما تردّد أحدٌ من الواقفيــن في تقديمها بالسنبن ..

ويهرع الجمع الى غرفة نقل الدم في طابور طويل شكله أصدقاء من كافة الأعمار تضيق الصفحات لذكر أسمائهم، وللامتنان فقط أذكر منى واصف وخالد تاجا وبسام لطفي ورشيد عساف وسلوم حداد مع شديد احترامي للآخرين .. تمتدّ الأيادي وقد هدأ الروعُ .. فطلبُ الدّم يبعثُ أملا جديداً في النفوس .. ويتهافت الشبيبة وكلٌّ يسابق الآخرَ وكأنهم على موعدِ لقاءٍ روحي بيوسف يعكس من خلال اختلاط الدّم أريحيـــّةً وصدقاً كان بالنسبة لهؤلاء كلَّ ما يملكون من وسائلَ .. تصوروا أن هذه الدماء التي تدفقت من كل هذه القلوب النابضة محبة وأملا ستتجمع وتصل الى أوردة يوسف ..

كنت غائبا عن وعيي .. لم أحادث أحداً .. كنت أنظر .. أراقب .. أتخيــّل .. تتداعى أفكاري .. وتستحضر ذاكرتي أحاديثَ يوسف ورومانسيّـته وقلبَه الكبير وعشقَـه للحياة .. لم تخطر فكرة المرض والموت على باله يوما .. من حادثني لم يلقَ مني جواباً أو تعليقاً .. سُـئلتُ عن موسكو وعن ليبيا وعن أخباري الحالية وأبديتُ عدم رغبتي بالكلام .. تركوني دون اعتذار .. لكل طريقته في الانفعال والتعبير عن الحزن .. كنت أعيش لحظاتي تلك مع حنا مينة في (حمامة زرقاء في السحب) .. يا لَتخلفَ الطبّ .. فكـّــرت كالأطفال: لو صُرفَ على تطوير الطب والعناية بصحة الانسان جزءٌ بسيطٌ مما يُصرف على الحروب الفتاكة والثقافات الهابطة لأمكن تجميعُ خلايا من هذه الأذرع الممتدة، التي رأيتها طويلةً كالجسور مفتولةً عضلاتُها كالفولاذ، وضمُّها الى جسد يوسف الغارق في سرير العناية المشددة تحت مباضع الجراحين ..

كنت كمن تلقى الصفعةَ الكبرى قبل غيره .. لم يسعفـْني التفاؤلُ ولا الأمل .. أدركت كم هي قاسية تلك الحياة .. قلبي طري وذاكرتي تجاه الموت حيـّة .. فسعيد مراد وفواز الساجر رحلا باكراً أيضا ومن زمن قريب جداً .. ما أفظعَ الموت وما أحقرَ المرض .. أفكر لألْهيَ نفسي (صول صول صول فا بيمول) .. آه يا بيتهوفن معي أنت في خامستك في لحظات عصيبة لم يصورها أحدٌ مثلَك .. ولكنه القدر ..

لم تجدِ دماؤنا نفعاً .. لا لشكٍ في زكائها ونقائها وإنما لهزيمة الطب أمامَ القصور الوظيفي في الجسد الواهن لرجل في بداية عقده السادس ..

ويصلني الخبر المفجع وأنا في سفري .. كان من المفترض أن أكون سعيداً في تلك الأيام لنجاحي في الحصول على عمل لائق في أبو ظبي بعد أن ضاقت بي السبلُ في حمص .. ولكني كنت أنتظر خبر يوسف كمن رماه الخوف من المصيبة في الإذعان استسلاماً .. بكيت كالأطفال وكنت وحيداً .. عبثاً حاولت أن أكتب برقية تعزية .. لم تسعفـْني يدي ولا أفكاري .. فضّلْتُ الصمتَ حتى أنني لم أتصل بالهاتف .. لا بل صدقوني .. لم أذهب الى بيت حنا منذ أن غادرته قبيل سفري بأيام.. كان من الصعب عليّ دخول هذا البيت بعد الكارثة ..

عشر سنوات مرت .. وطيف يوسف ما زال أمامي .. أراه في نوافذ الفن .. في وجوه الممثلين الكبار من أصدقائه وفي وجوه الجيل الشاب .. أسمع صوته مع عبد الحليم .. وأتلمس رومانسيته في شوبان وثوريته في موزارت وخاتشادوريان ودوفايا وكارل أورف .. ويحفزُّني سخاؤُه للمضيِّ قدماً في محبـّة الناس والوطن والتفانــي من أجل الآخرين كلما تذكرت ناظـم حكـمت (اذا لم نحترقْ فمن أين يأتي الضوء لينير الظلمة)

الخلود لك يا أبا اياد .. ولتبقَ ذكراك حيـّـــة في دفاتـر الحب والعطـاء وفنـهما وفي القلوب الكبيرة لرفاقـــك صناع هذا الفن ..

massouh@emirates.net.ae
moufeedm@keoic.com

د. مفيـــد مســوح

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى