2068
-1-
قامت الدنيا، ولن تقعد قريباً، ضد الكاتب الألماني الحائز نوبل الآداب غونتر غراس، منذ اعترف بانخراطه طوعياً في صفوف النازية عام 1944، عندما كان لا يتجاوز السابعة عشرة من العمر. وقد كان غراس تحديدا عضواً في "سلاح قوات الحراسة"، وهي إحدى الفرق الأكثر شراسة في جيش هتلر، التي ارتكبت أفظع الجرائم والمجازر في حق الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء إبان الحرب العالمية الثانية.
حبرٌ كثيرٌ سال في هذه المسألة، ولا ضرورة للمزيد. لسنا هنا في صدد الدفاع عن غراس، ولا خصوصاً في صدد "محاسبته"، فهو ليس في حاجة الى ذاك، ولا نحن طبعاً تواقون الى هذه، رغم كل ما يُحكى عن "خطّة تسويقية محكمة" يشكّل فيها اعترافه المتأخر هذا فتيلاً يشعل مبيعات مذكراته التي تصدر قريباً (عنوانها "عند تقشير البصل"). بيت القصيد في الجدال، الذي يبدو جزء كبير منه مفتعلاً، يكمن في بعض الأسئلة الأخلاقية العميقة التي تطرحها الأوساط الثقافية الألمانية والعالمية اليوم، ومنها: هل غونتر غراس شجاع أم "خائن"؟ هل هو تائب جدير بالاعجاب، أم محتال ومزوّر وكاذب؟
على هامش كل هذين الرغو واللغو، خطر لي الآتي:
لنتخيّل أن آڤي شامير إسم وهمي لأحد جنود الجيش الإسرائيلي الحالي، ممن خاضوا الحرب الأخيرة على لبنان، وأنه بلغ لتوّه التاسعة عشرة من العمر. لنتخيّل أن آڤي شامير هذا سيتخلى سريعاً عن طموحاته العسكرية، وينتقل الى دراسة الأدب في جامعة تل أبيب في الخريف المقبل، بعدما اتضح له أن الكتابة هي مشروع حياته الحقيقي (سيناريو أكثر من معقول وممكن). لنتخيّل أيضاً (اصبروا عليّ) أن آڤي العزيز موهوب فعلاً، وأنه سيكون له شأن عظيم في الآداب العالمية في المستقبل، وأنه سيُصدر، خلال عشرات من السنين، مجموعة ضخمة من التحف الروائية والشعرية المترجمة الى لغات العالم أجمع، وأن اسمه سيلمع في كل البلدان، وسيحوز جوائز لا تحصى، وسيحقق شهرة لا مثيل لها. لنتخيّل أخيرا أن هذا الكاتب الاستثنائي المسمّى آڤي شامير سيقوم، في أحد صباحات سنة 2068، باعتراف خطير أمام الرأي العام العالمي، مفاده أنه كان في عداد الطيارين الذي قصفوا بلدة قانا اللبنانية الجنوبية عند الساعة الأولى من فجر 30 تموز عام 2006، أي انه تالياً أحد المشاركين في المجزرة الرهيبة التي غدرت بالأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء في طمأنينة نومهم.
سؤالي: ترى هل تقوم قيامة الدنيا، ولا تقعد، سنة 2068، ضد الكاتب آڤي شامير، لأنه فعل ما فعل لاثنين وستين عاما خلت؛ أم ان أخلاقيات الرأي العام العالمي (وحساباته ومصالحه و"عقده" المنحازة بعماء الى اليهود)، التي تندد بغوتنر غراس اليوم، ستُجمع على التغني بشجاعة الاسرائيلي، القاتل والمجرم سابقاً، وبجرأته الأدبية وقدرته "النبيلة" على الاعتراف بجرائم "شبابه الطائش"؟
تخيّلوا معي... وقارِنوا.
-2-
"أتباع طالبان يحرقون المدارس التي تعلّم الفتيات في أفغانستان": خبرٌ صغير بحرف رفيع قرأته في إحدى الصحف، ولولا الصدفة المحضة ودأب العين على النبش في الزوايا، لما انتبهتُ إليه. خبرٌ صغير بحرف رفيع كان ليمرّ مرور الكرام لولا الصورة المنشورة معه، صورة لطفلة أفغانية تحدّق في عدسة الكاميرا بينما تتهجى إحدى الكلمات في كتاب مفتوح أمامها. تلميذة تختصر نظرتُها الداكنة، الضائعة، الشريدة، كل الظلم اللاحق بالإنسان عموماً، وبالمرأة خصوصاً، في ظل هذا النظام الرجعي الأخطبوطي الذي، على غرار تنين الأسطورة، لا تني تفرّخ له رؤوس جديدة كلما قُطع منه رأس. الهمجيون خلعوا أبواب قاعات الدرس، وكسروا زجاج النوافذ، واضرموا النار في الدفاتر والكتب والطاولات والكراسي والجدران، وهددوا الأساتذة والمديرين بالتشويه والقتل ما لم يمتنعوا عن تعليم البنات...
أجيال وأجيال من النساء تحت نير الظلامية وفي رسم الجهل القسري، ولا حيلة. لكن، كيف تتحمل الأمّ الأفغانية أن تنجب هذا الصنف من الرجال؟ كيف تربّيهم وتؤويهم وتطعمهم وتسهر عليهم وتعتني بهم، وهي تعلم انهم سوف يكبرون ليضطهدوها ويضطهدوا بنات جنسها؟
هكذا الطبيعة دائما: لا يولد قاتل فيها إلا من رحم قتيله.
-3-
يحيّرني محبّو الديكتاتور الكوبي فيديل كاسترو، وهم ليسوا بقلّة: ضحايا سياسة الولايات المتحدة في العالم يحبّونه لأنه "كسر رأس الشيطان الأميركي الأكبر"، واليساريون يحبّونه لأنه يكاد يكون النظام الشيوعي الوحيد الذي صمد صموداً تاماً وعنيداً أمام فوعة البريسترويكا في أنحاء الكرة الأرضية، ويحبّه الثوريون الرومنطيقيون والهامشيون سابقاً، لأنه يدغدغ الصور المرسومة في مخيلاتهم عن بدايات الثورات وأحلامها وفراديسها. لكن، هل تشفع العداوة للولايات المتحدة والصلابة اليسارية وذكريات الثورات البائدة، بممارسات إرهابية مثل تعذيب المواطنين والكتّاب وخنق الحريات؟ هل تعوّض المواقف الأبية من واقع قهر شعب بأكمله؟ هل "عدو عدوي هو حكماً صديقي"، حتى إذا كان "عدو عدوي" هذا مستبداً لا يرحم، ومغتصِباً بمقاييس كثيرة؟ هل تُغفر له كل مظالمه، فقط لأنه ينتقم لي من ظالمي أنا؟
تعوّدنا، نحن الشعوب "الضعيفة"، أن نوضع باستمرار أمام خيارين يتنافسان في السوء والفظاعة. من على يميننا وحشٌ، ومن على شمالنا وحشٌ، ولا منفذ ثالثاً. لا عجب، بعد هذا، أن نكون قد أدمنّا السكيزوفرينيا حتى صارت من صلب طبائعنا وشيمنا.
هكذا إذاً، "الرئيس الثوري" كاسترو الذي لم ينفك يسجن ويهدد ويروّع ويغتال طوال حياته ومسيرته العسكرية والسياسية، والذي بدأ ينسحب أخيرا الى فلك غيابه، هو نفسه الذي لقّن أميركا العظمى درساً لم تعرف مثله في تاريخها، ودغدغ أحلامنا الثورية.
"الديموقراطي" الذي رفع شعاري الحرية والمساواة، لكن الذي لم يترك حقا من حقوق الانسان إلا انتهكه، هو نفسه الذي جعل جزيرته الصغيرة حصناً منيعاً عجز المدّ الليبيرالي واغراءاته عن اختراقه.
"العادل" الذي جوّع شعبه وسرقه وعيّشه في الخوف والفقر والبؤس، هو نفسه الذي فضح غباء بوش وتحدّى عنجهية اسلافه.
يحيّرني، والله، المعجبون بكاسترو رغم أنف مبادئهم والمنطق.
ولربما أنا منهم.