الأربعاء ٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٣
بقلم الهادي عرجون

الطفولة والحلم ونبوءة الشاعر

من خلال المجموعة الشعرية «الرائعون مروا من هنا» نموذجا للشاعر التونسي الحسين الجبيلي

ما قبل القول: يقول ميلان كونديرا "نحن نعيش نصف حياة فقط، أما النصف الآخر فذاكرة"

فالقمر الذي يظهر في سماء الحسين الجبيلي ليعلن آية الحرف ونبوءة الشاعر ويحتمي بظل شجرة ينتظر مبياعة الشعر ليفتح أجنحة الحلم وهو يداري وجع الخرائط ليكابد ما يسوء نبوءته، وقد عزف قصائده فرقصت قدود الشعر، ليطوف بالقيروان ويلوذ بها حين يحتضنها الشعر، ليولد من رحم الشعر مجموعته الشعرية التي اختار لها من الأسماء "الرائعون ...من هنا مروا" حين تعجز الكلمات لتعلن نبوءة الحرف، لتكون عنوان أوّل مجموعة شعرية له صادرة عن دار ميارة للنشر والتوزيع سنة 2017 والتي ضمت بين جوانحها 41 قصيدة في 84 صفحة، والتي يستدرج فيها الشاعر القارئ نحو عوالم تأسره ليبحث عن مكنونات نصوصه وخصوصياتها الجمالية والدلالية، ربما لكون الشاعر اختارها بتعمق أو لكونها تعكس مرحلة متميزة في تجربته فهي البناء والأساس الذي يقوم عليه. فالشاعر الحسين الجبيلي في هذه المجموعة يرسم جغرافية المكان ويحدد زمن مرور القارئ أمام عتبات نصه فهو لا يكتب نصه من فراغ، بل يبحث عن كينونته وذاته الشعرية من خلال هذه النصوص.

فالشاعر الحسين الجبيلي يلجأ في قصائده غالباً إلى الصورة الشعرية التي لها دلالات ومعاني مختلفة، إلى المجاز المتحرر في بعض الحيان رغم سلطة النظم الايقاعية بإحالة المعنى ليكون الإيقاع الخارجي الذي يميز القصائد القديمة ذات الوزن والقافية، ليلامس الصور الشعرية من بعيد، وهو ما يجعل الشاعر حسين الجبيلي يبدع في صوره الشعرية المبتكرة لتصبح الصورة وجه القصيدة الباسم.

فالشاعر الأصيل لا يمكن له أن يكون مبدعًا ومميزًا ما لم يتبلل بتراثه، ويؤثر على حياته الجديدة بلا شعور…والشعر لا يعيش على الحاضر فقط، بل يتوغل في الماضي إلى تراث الأمة وأصالتها، والأدب والشعر جزء لا يتجزأ من تراث الأمة، ولا شك أنّ عواطف الإنسان تتشكل عبر التاريخ البعيد.

فالصورة الشعرية تعتبر من مفاتيح القراءة التي لا غنى عنها من أجل الدخول إلى عالم الشاعر الحسين الجبيلي المرتبط أشد الارتباط ببيئته العربية، كما أن قصائده تشعل الأسئلة، وتصارع النقيض، وتوحي بمغامرة الشاعر الذي لا يكف عن استنهاض الأمل، يده تكتب وأوراقه تنزف حبرا ليعلن نبوة الشاعر. فالشاعر أسرع من غيره إلى الإصابة بهذا الداء لأنه يتمتع بقدر عال من الحساسية والتوتر والرهافة.

ولا يمكن أن نمر دون أن نذكر الدور الكبير الذي يقوم به الشعر العربي في التأثير الايجابي المباشر الذي يحدثه في العديد من الأمور والقضايا، ومن هذا المنطلق يتضح دور الشاعر الذي يعتبر نفسه نبيا في مجتمعه من خلال القصائد التي يكتبها، القصائد التي تعالج قضايا معينة أو تعبر عن وجهة نظر صادقة يتفاعل معها المتلقي ويتبناها. وعلى الرغم من أن الشعراء الذين يستطيعون القيام بهذا الدور قلة في هذا العصر والذي يتطلب شفافية عالية وقوة في الطرح، إضافة إلى اختيار الكلمات والمعاني التي تصل بسرعة ودون تعقيد إلى المتلقي. والشاعر لابد أن يعي جيدا الرسالة التي يحملوها وأن الشعر لا يقتصر على القول بل التغيير والبناء.

والشّاعر-النّبيّ في المفهوم الرومنطيقي يحمل على عاتقة تخليص الوجود الإنساني من السّقوط في العمى، وهو لذلك أضحى رمزا تعدّدت مدلولاته وتكثّرت؛ إنّه لسان الخير والفضيلة والجمال والحبّ الّذي يبحث له عن منزل على هذه الأرض، وعن أرض مهملة يلقحها ببذره فتخصب ويصلح نبتها. حين ألحق الشّعر والشّاعر بمنطقة القداسة حتّى تتماهى تجربة الشاعر الشّعريّة وتجربة النبوة الشعرية.

"وحدي أكابد ما يسوء نبوءتي
وتجيئ من صدق الرؤى أسبابها"(ص9).

يقول الشاعر البنجلاديشي الشهير سري تشنموي: "يمكنك كتابة النثر، ويمكنه كتابة النثر، حتى أنا أستطيع كتابة النثر. أما الشعر فيكتبه الرب من خلالك، من خلاله، وحتى من خلالي أنا". فالشعر ضربٌ من النبوة. ولا نبوة ولا شعر دون وحي. وحي فعل ووحي قول. ومع الأنبياء قد يأتي الوحي على هيئة ملك، أو رؤيا، أو استنطاق للجماد. ويتشابه وحي الأنبياء والشعراء من حيث أنه اتصال بطاقة روحانية عليا تلقي بالكلمات والمعاني في خاطر الشاعر أو النبي.

"وانبرت للشعر
أنفاس أجراس
ترتق جرحها
وتستبيح المدن الكئيبة
كي تعانق ملحها
وجع القصيدة
من وصايا الأنبياء
ودفاتر للريح تكتم حبرها"(ص21).

وتتشابه أعراض هذا الوحي، فيكون الشاعر حين الوحي أشبه ما يكون بكائن آخر غائبٍ عن مظاهر الحياة من حوله. وقديماً ظن العرب أن محمد شاعرٌ، ووصفوه بالشاعر المجنون، وظنوا أن القرآن شعرٌ يكتبه لما ترسخ في فهمهم من صلة عميقة بين الشاعر والنبيّ.

ولا يخلو الشعر العربي القديم والحديث من الشعراء الرائين، فليس المتنبي وحده شاعراً رائياً في تاريخنا، بل إن كثيراً من الشعراء المتصوفة كانوا شعراء رائين. وليس في هذا ما يثير الدهشة فالشاعر الحق هو من صفت نفسه وشفت، فكان ما يكتبه نتاج وحي حقيقي أقرب لوحي الأنبياء.

"سرا أكاشف ما تقول نبوءتي
ما أفلح العراف وهو يهابها
فالشمس تخجل أن تسابق ظلها
إلا إذا ثملت وحان غيابها
في غمرة الأشواق أعبر غابة
خلف التباس والحروف ضبابها"(ص12).

ومن خلال تصفحنا للمجموعة الشعرية نلاحظ ارتداد الشاعر الحسين الجبيلي إلى استدعاء الطفولة في النص الشعري، مما يكس أبعادا نفسية، تختزن بذكريات الحنين فلا قدرة للإنسان عموما على العيش بدون تلك الذاكرة الطفولية التي تشكلت بمضامين ومعاني متعددة لينتقل من الواقع السلبي إلى الفعل الإيجابي. كما أن ذكريات الطفولة التي تراوده مرة تلو أخرى تتكون في داخله في شكل ومضات لتخرج شعرا عذبا وصورا تذكارية لما كان عليه أو يريد أن يكونه الشاعر وما يرمي إليه.

مما يعكس ثراء الجانب الوجداني وتأثيره في تجربته الشعرية، وهذا النزوع إلى استدعاء الطفولة وذكريات الطفولة، وهو ما يجعل ثيمة (الطفل) تتكرر حوالي 14 مرة في المجموعة الشعرية وتتحد في بنائها الشعري مع ذاكرة الشاعر بشكل متماسك منتجة زمنا مختلفا تسهم فيه ذكريات الطفولة في تشكيل أخييلة الشاعر ليكون للارتداد العكسي دلالات تعكس مدى أهمية زمن الذاكرة في تشكيل نص المبدع." كل عمل فني مرتبط ارتباطا عضويا بفكرته المسيطرة في عهد الطفولة"(1).

فالشاعر حسين الجبيلي يهوى ذلك التوحد والمزج بين الحلم وصورة الطفولة التي يمكن أن تكون مسوغا نفسيا يدعوه للاستجلاء والتذكر.

"ما زلت أذرع بوح الروح من لغة
كالطفل يسحب بالكفين إسفينا
يا ليل حسبك ما أنهكت من مهج
ما بال ساحرة العينين ترمينا
ذكرى وما عطلت في العين طلعتها
إلا إذا نهضت رفقا وتفنينا
كاتبتها وجعي فارتاب لي قلمي
وفارقتني وقالت صرت ماضينا"(ص26).

فاستحضار الشاعر للفظ الطفل والطفولة له دلالات تعكس معاناة الشاعر وأحاسيسه بتوجيه رسائل للقارئ بقناع رمزي دال على الشعور بالقلق والوحدة والاغتراب، وقد ولدت في مخيلة الشاعر الحيرة والصراع النفسي، لأن الطفولة هي الملاذ الآمن الذي يشعره بالفرح والبراءة والصدق والسعادة. كما أنها رمزا للأمل والحياة المنتظرة.

"أشتاق إلى صوت خافت
ومدائن كانت مغلقة وحقولا
سيجها الكبر...فتنفتح...كزجاجة عطر
تسقط من كفي صبي
فيغرقه المشهد والعبق...ويدهمه الخطر...
الأم...في قلق...تأتي وتنهره
وتجمع عالمه ا لأخضر...
فيزداد بريقا وينتشر
..............................
الطفل هناك يراقبهم...
ويبارك ما فعل القدر."(ص61).

كما أن الذاكرة تكشف عن حضور واضح لما يكتنزه العقل الباطني من أحداث راسخة في عمق ذاكرة الشاعر، من صور وتجارب وأحداث، وهو ما يجعل الذاكرة أكثر انتاجا وفاعلية في قصائده، التي يدخر بها جملة الخبرات والتجارب والاحاسيس ليخرج النص من عزلته بسرد ذكرياته الجميلة، التي تحمل صفاء زمن الطفولة، بما أن الانتماء إلى عالم الطفولة أثر أثرا جليا في نسقية النص مما أسهم في احداث أثر واضح في المتلقي. وقد أخرجها الشاعر من دائرتها الضيقة الوصفية إلى عالم الحياة الإنسانية. من خلال صور ذات دلالات تأخذ أبعادا فكرية ترتقي إلى مستوى الترميز.

"صرنا
كطفلين مغتربين
عن الوطن
تكفينا
قطعة خبز
كي نضحك
أو ننسى
وإن تخاصمنا
يصالحنا
هطول الثلج
فوق أيدينا"(ص31).

كما أن ارتباط الشاعر بالحلم له تأثيره وفاعليته في النصوص التي نتناولها وذلك بإظهار مشاعر متباينة من الحنين والامل والقلق والحزن والسعادة، فمفردة الحلم التي وردت بالمجموعة (14 مرة)، نغمة عذبة الإيحاء تترك انطباعا شفيفا في ذهنية القارئ بما تبثه من توارد خيال بمفهومه الواسع تستفز حواسه برحلة ممتعة تجوبها النفس بمشتهى الروح وما تكتم من رغبات مستحيلة لا تتحقق في الواقع، فالأحلام سر وجودي وعالم غريب محبب للنفس البشرية تطمح اليه في كل حين بلاوعي لتحقيق ما نفقده أو نتمناه في الحياة، فهو هروب وسيلة شرود فطري للعيش في واحة الاماني المبتغاة ونشوة لملامسة الواقع بزيف مشروع ورغبة عصية.

"أقاسمهم ضحكة الانتصار
لكنهم يمضون... وأبقى وحيدا
أتابع حلما بعيدا
وأرسم أرضا جديدة
وغابات يظللها المدار"(ص74).

فما يكتنزه الحلم في قصائد الحسين الجبيلي من حاجيات نفسية واجتماعية يحتضنها ويأمل في تحقيقها، وهو ما يجعل الشاعر أكثر قربا من الشعرية حين يمتزج عنده الخلق الشعري لتتسع دائرة الحلم.

"الشعر بخور الحلم
إن لامس الأنف المريض يعافه
هو نجمة على كتف الضياع
تومئ خلسة
كي تهتدي الطير
إلى أعشاشها
وتموت في الأسر الأسود الضارية
أو تطلب الصفح
وتلعق قافية
من ذا الذي يغفو
وليس بحلمه نور بعيد
يشتهي ويخافه؟"(ص49).

ليكون الوجه المشرق للطفولة الجميلة حين تمتزج بالحلم ليكون الشعر ويكون التدفق الشعري تعويضا عن طفولة مفقودة بفعل قسوة أو حنينا إلى الماضي لينأى الشاعر بنفسه عن الواقع بانكساراته وأحزانه، ليكون الانفلات من زمن واقعي مؤلم يضيق بالذات إلى زمن خاص يتسع بالذات ليتيح لنا قدرا من الحركة بإبداع صور حلمية – ان صح التعبير-قادرة على مجابهة الواقع لصياغته برؤى وأفكار جديدة تتشكل بالنص الشعري.

"كأنك اللوح والطوفان أسفله
حلم على صخب الأيام أزرعه
ماذا لقيت وذا قلبي أسايره
ما طال أمنية إلا وتصفعه"(ص65).

وهروب الشاعر للذكريات البعيدة له أسبابه النفسية التي لا مجال لإنكارها، وهذا ما يؤكده تعريف الدكتور عبد القادر القط للحلم بأنه محاولة لاستعادة ماض، هذا الماضي لا يمكن أن يعود، أو استشراف لمستقبل لا يمكن أن يولد من الحاضر شقي عقيم(2).

وفي الختام يمكن أن نقول بأن هذه النصوص نجحت في شد القارئ إليها خاصة و أنني تصفحت مجموعة "الرائعون من هنا مروا" من ثلاث رؤى مختلفة (قارئ وشاعر وناقد) ولقد لمست فيها خصوصيات جمالية ودلالية تعكس تجربة صاحبها، وما تزخم به هذه المجموعة من صور فنية متلاحقة بشكل كثيف، فهي لا تدع مجالاً للقارئ كي يلتقط أنفاسه وهو يلتهم صفحات المجموعة بنهم و لذة لا توصف، و هذا ليس جديدا على شعر الحسين الجبلي صاحب القلم الرائع و الصور الراقية ليخرج بنا من عتبة القصيدة الشعرية المتعارف عليها بكل مميزاتها إلى عتبات نصوص شعرية منفتحة على الواقع، وهو ما جعلتني من خلال هذه القراءة أن أتلذذ بنصوصه وأترنم بكلماته.

عبد الرزاق جعفر، أسطورة الأطفال الشعراء، ص16.

د عبد القادر القط: الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، مكتبة الشباب، القاهرة، 1978، ص356.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى