السبت ١٩ آب (أغسطس) ٢٠٢٣
قراءة في المجموعة الشعرية
بقلم الهادي عرجون

شراع إلى ضفة المعنى

عندما تعزف الشاعرة نغمات لسنفونية اللقاء بالحياة وتنفخ من روحها ما استوى من طين الكلمات لتحتضن الورقة، وتختار ما تساقط من نثرها المعجون بطين محبتها ليكون المخاض ويولد من رحم الكلمات (شِرَاعٌ إلى ِضِفَّةِ المَعْنَى) المجموعة الشعرية التي احتوت على نصوص تبحث في عمق المعنى وتزرع بذور الكلمات فتورق نسائم الشعر وتزهر كلاما لا يموت، تلك هي سنابل الشعر التي لا تشيخ في شعرها بل تولد مع كل صرخة حرف ووشوشة كلمة لتعزف موسيقى وتتزين كشهقة شمس وهي تنثر غبار الضياء. لتخلق من الشراع سفرها عبر الكلمات ومن العدم أشياءها ومن اللامعقول أدواتها الشعرية وأسلوبها في التعامل مع النص.

لننطلق من (الشراع) كعتبة نصية لها دلالاتها فالعنوان لا ينطق عن الهوى بل يأتي لإثبات شيء واقع في نفسية الشاعرة تبحث عنه في سفرها وابحارها مع العلم أن هذا العنوان لم يحمل أي عنوان من عناوين القصائد في كامل المجموعة لتنفرد بعض النصوص التي تحمل عبارات تدل على السفر والابحار مرتبطة بغربة الشاعرة النفسية وبأوجاعها وآلامها كما في قولها (أداري شراعي) (ص16) و(لملاح تاهت بيم التمني مراكب حلمه وقايض بمجدافه كسرة خبز) (ص45) (أحيك شراعا لهذا السفين ونهدي الرياح) (ص65) (تنادي مرافئك زورق حلمي) (76) (فذري المرافئ تحتمي بجنونك مدي شراعك كالنوارس للمدى)(ص111).

فالشاعرة نجاة نوار تهادن بالشعر خارج إيقاع المدارات تبحث عن حلم ورؤيا حين تطرق باب السفر في أثر فراشة حين تمد شراعها للاعتراف الأخير وهي تدق أجراس الحزن من خلال "شراع إلى ضفة المعنى" وهو عنوان يحيل على الرحلة والسّفر، إنها رحلة البحث عن المعنى وعن الأمل والحياة، رحلة البحث عن الذات، في سفر المبدع الباحث عن الإبداع، ليكون السفر والترحال والرحلة. ليصطدم الشراع بضفاف المعنى تلك المعاني التي تزدحم على ضفافها أصوات الأحزان.
وقد طال انتظارها وهي تضمد حالة الحزن والقلق التي طوّعت إيقاعها الداخلي بما يوافق حالتها النفسية وما تحسّ به، لتخاطب الأماني والأحلام والرؤى. لترتق ما مزقه الوهن، وهي تستعد لهجر أوكارها إلى المنافي، لتفتح شراعها وتهاجر إلى ضفة المعني. لتؤثر في المتقبل من خلال اعتمادها على معجم الحزن الذي تجسد في عبارات (الشوق - الغربة - الغياب - الفراق - الاحتراق - التلاشي - الجرح – الموت- الوحدة – الارق- الحزن –الألم - الخطايا - التيه - الصمت - الدموع- الحنين - الجزع - الانكسار -الملل - القلق - الخيبة - الهواجس - الزفرات – العجز- الغدر –الوجع- العذاب - الدمع - الكآبة - الوحشة - الشجن - الآهات - الشكوى المرارة - الهزيمة - الخيانة - الشقاء...) وظفتها للتعبير عن حالات الحزن والقلق الذي تعيشه، لتطفو على نصوصها إيقاعات الوجع والألم من خلال معجم الحزن والقلق بالتلميح تارة أو بالتصريح تارة أخرى، ولكن هذا الحزن لا يخلو من إيقاع الحياة. على الرغم من أنها توحي بالضغط الداخلي لمخزون التفاعل الحيوي للمشاعر الإنسانية، كما أن تكرارها بوصفها إيقاعا دورياً يمكن أن يلعب دوراً ثنائياً في تشكيل بنية القصيدة.
فالشاعرة تبحر إلى ضفة المعنى أملا في الخلاص وأملا في الانعتاق والتحرر من سلطة الروح الغريبة عن جسها لتكسر قاعدة النظام التي منحت أفكارها للتعبير عن الفوضى وترتبها ليخرج النص فكرة عارية المرامي والمعاني التي تريد إيصالها للمتلقي، بتقنية التكرار وشاعريته والتي يصفها الدكتور صميم إلياس كريم بقوله: " تكمن شاعرية التكرار وقيمته الإيقاعية والدلالية بخاصة في أن مبدع النص/ الشاعر يحاول الاتكاء على تقنية التكرار أن يكشف لنا عن الأمور والأشياء والنوازع التي يعني بها أكثر من غيرها، فهي عباراته لأنه تشكل مرآة صادقة تعكس ما يخالج الشاعر ويعتري وجدانه "(1).

حيث يظهر تكرار بعض الألفاظ في الأسطر الشعرية، والذي جاء بشكل متتابع، حيث يؤدي إلى دلالات معينة ليعبر عن همومها وحزنها لتعري خوالج النفس وتثير من خلاله إحساس المتلقي من خلال تكرار بعض الكلمات مثل: ثيمة (الرؤى) (10 مرات) بمختلف اشتقاقاتها (رؤى/ رؤيا...).

" تعال اقترب أيها ذا السنا
ألملم فيك شتات الرؤى
وأمضي أحث الخطى
إلى الشمس من دفئها أحيك شراعا
لهذا السفين
ونهدي الرياح
أغاني الرعاة السعيدة" (ص 65).

والتي لها نفس معنى (الحلم) تقريبا، حيث تكررت بدورها (23 مرة) بمعنى الأحلام التي تخرج الذات من أزمتها الخانقة ووجعها المؤلم، أو ما يراها الإنسان في منامه من تخيلات وصور للتعبير عن رؤيا الشاعرة وأفكارها ومواقفها من الواقع والحلم.

" ونرفع للنخب كأسا من الشعر
والوجد أنا انتصرنا
على الوهم
والتيه والانكسار
ونطرب أنا حلمنا
بصحو تبدى
برغم الزمان البئيس
وأنا ارتحلنا كما الضوء
أنا انسكبنا كقطر الندى"(ص68).

وهي بذلك تسلط الضوء عليها، ليصبح الحلم والرؤيا مركز الإشعاع في النص دلاليا وايقاعيا. فمعنى كلمة "رُؤى": اسم علم مؤنث عربي، وهو جمع رؤيا. ومعناه: النظر بالعين، أو بالعقل، أو بالحلم. وفي اللسان: الرؤيا (بالألف) جمعها رؤى: ما تراه في المنام. والرؤية (بالمربوطة) جمعها رؤى: النظر بالعين أو القلب، إضافة إلى كلمة: (الليل) حيث تكررت (9مرات) باعتباره زمن مؤطر للحلم والرؤيا، ففضاء الأحلام واسع وغير محدود، ولكنه بالنسبة للشاعر نجاة نوار فضاء متقلص ومنته لأن الأحلام والرؤى تتوقف وتتلاشى مع حلول الصباح.

"أنا والرؤى
كلانا انتصرنا على الليل
والتيه والانكسار
فليلا سكبنا مع الغيم
فوق الذرى"(ص29).

ليكون القلق والحزن ملاذا للشاعرة حين تصارع ألم الهروب إلى ضفة المعنى وهذا ليس بغريب على نصوصها التي اتشحت بوشاح السواد وألقت غيوم الحروف على ظلالها لتكون ثيمة (الحزن) التي تكررت (14 مرة) بمختلف اشتقاقاتها في كامل نصوص المجموعة لتعبر عن قلق وجودي ولكن هذا الحزن والقلق والخوف من الماضي والخوف من المجهول.
"فننسى بأنا انشطرنا من
الحزن ذات رحيل
وأنا انسحقنا أسى
وأنا اكتوينا من الهجر
أنا احترقنا
رمادا من الحرف صرنا..."(ص67).

فتفتح بذلك الشاعرة أشرعة سفائنها لتعانق القصيدة ويكون المرسى على ضفاف المعنى. وهو ما يحيل على ارتباط البحر بالريح وما ينجر عنه من اضطراب وتقلب والذي يمكن اعتباره تعبيرا نفسيا لا شعوريا، فلا بد من الريح غدوها ورواحها لتكتمل صورة الإبحار، حيث نلاحظ تكرار لفظ (الريح) مرة واحدة بينما جاءت لفظة (الرياح) (03 مرات)، وعلى الرغم من قلة التكرار فيها إلا أن لها دلالات كثيرة، فلفظ الريح في التفسير الديني، لماذا لفظ الريح و ليس الرياح إذا نظرنا للمنظور القرآني الذي يشير أن لفظ الرياح يدل على موضع الرحمة في القرآن، والرياح يأتي منها الفوائد الكثيرة، مثل إصلاح الهواء ، وإثارة السحاب، ونزول المطر، ومنها أيضاً الرياح المُبشرات التي وردت في القراًن بلفظ " المبشرات " مرة، وبلفظ " بُشراً " مرةً أخرى حسب المفسرين. أما لفظ الريح فيدل على معنى العذاب والهلاك، حيث ورد عن وسلم، أنه كان يفزع إذا رأى الريح ويقول " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به "، وسُميت لفظ الريح في القراًن بالعاصف، في قوله تعالى " ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره ".

"ألملم فيك شتات الرؤى
وأمضي أحث الخطى
إلى الشمس من دفئها
أحيك شراعا
لهذا السفين
ونهدي الرياح
أغاني الرعاة السعيدة..."(ص65).

ليغدو حزنها حزنا يبحث عن الأمل وعن الذات المفقودة. مما يعني أن التكرار في نصوص نجاة نوار مرده جملة الحالات الوجودية التي تكابدها الشاعرة من وجع وقلق وحزن وألم. للهروب من الواقع، حيث نجد استغلالا جديدا ومتميزا للتكرار اللفظي وهو ما اضطلع بإبراز الجانب الحسي في النص، فالتكرار في المجموعة الشعرية " شراع إلى ضفة المعنى " له أهمية بالغة، وقد جاء لإثراء القصيدة إيقاعيا وكذلك لإثارة المعنى بتراكيب جديدة، كما أن التكرار في الشعر الحديث يهدف لاستكشاف المشاعر الدفينة وتبين الدلالات الداخلية للنص كما يعد أحد المسالك المؤدية بالضرورة إلى إفراغ المشاعر المكبوتة.

فالشاعرة نجاة نوار ترسم بقلمها خريطة الأنثى الباحثة عبر قصائدها عن نوع من الإيقاع الداخلي من خلال كل جملة وكل مقطع شعري محاولة من خلاله أن تستجيب بدورها لذائقتها قبل ذائقة القارئ لتبني من خلال هذا الإيقاع جسرا بينها وبين المتقبل المتحرر هو الآخر من أوزار قوانين الوزن أحيانا، لذلك نراها تميل إلى الاختزال لذلك تبرز بنيتها الشكلية بصورة واضحة تتسع فيها مساحة الدلالات. شِعرها المتشكل من عهن السحاب لتنسج بـ:"نول" كلماتها بساط الذكرى والحزن والحلم ليورق الحب حمائم تستحم في ساحل الحلم. هذه الأحلام التي تفتح أجنحة الفراش وتفتح أشرعة الحلم وتنطلق لتحمل أحلامها الكبرى وهي تنتظر سحابة علها تمطر عشقا وحلما يبحث من خلال انعكاس صورة انتصار الذات عن الانعتاق.

ليكون الوضوح سمة من سمات نصوصها لتنزف الشاعرة وجع القصيدة وتحرقها بنارها فتتلوى كأنها تحتمي من وهج الهجيرة بظلال القصيدة، لتكتب عن وجع الأنثى وأوجاع وآلام المجتمع. وبهذا تساعد المتلقي على تشكيل موقفه وتصوره من المجموعة الشعرية (شِرَاعٌ إلى ِضِفَّةِ المَعْنَى)، والتي جاءت نتاجا للمشاعر والأحاسيس، التي أفرزت بدورها جملة من العواطف الكامنة في نصوصها التي بدت صريحة تارة وخفية تارة أخرى تقودنا إليها موسيقى الشجن والفرح، وبذلك تكون هذه المجموعة قد أنجزت الغاية أو بعضا منها في تقريبها للقارئ ابتغاء الوصول بمحتوياتها الوجدانية وإخراجها في أحاسيس لها أشرعة تحملنا من حزن إلى فرح ومن فرح إلى حزن.

فالشاعرة تلامس بقصائدها جميع أوتار الحب والحياة رغم مسحة القلق والحزن التي طغت على كثير من النصوص لتعزف ألحانها وتكتب نصوصها دون الدخول في المفتعل والغامض من النصوص. فالشاعرة تكتب نصها دون خوف أو صدام لأفكارها مع الواقع، كما تتخبط بأنفاسها وأحاسيسها بين كينونتها الأنثوية في صراع داخلي بينها وبين القصيدة التي تحاول نسجها بنول أفكارها، ومع هذا فهي ربما تتبع مقولة ارنست همنقواي: " أكتب نصك وألزم الصمت …"

كما يمكن القول أن نصوص نجاة نوار كشفت عن روح شاعرة أبحرت بنا نحو عوالم صبغت لونها بألوان من الأحزان و الأشجان و الغربة و هو ما يعكس الحالة النفسية للشاعرة أثناء كتابة نصوصها و التي أرى أنها كتبت في نفس الفترة لما فيها من معجم متكامل و متجانس، أدى دوره الوظيفي في تنامي الإيقاع داخل النص الشعري.

وفي الختام يمكن القول أن المرأة الشاعرة عموما لم تعد تكتب عن عواطفها ومشاعرها فقط بل بالتعبير عن هموم المجتمع وهو ما عبر عنه الشاعر و الناقد المغربي عبد اللطيف الوراري في إحدى مقالاته حول الشعر النسوي العربي في أحد فصول مجلة " ذوات " إذ يقول: " وهو ما أتاح للدارسين أن يتلمسوا نشوء خطاب شعري نسائي يراهن بأنساقه و كيانه الذاتي على تحقيق جماليات مغايرة بقدر ما يرفض تبعيته لسلطة الخطاب الذكوري الفحولي التقليدي وإنطواء تحته، بل يتحداه و يتمرد عليه " وهو ما يميز شعر نجاة نوار عن الشعر الرجالي لأن المرأة تملك تعبيرات و تقنيات تعبيرية لا يملكها الرجل لذلك انتفضت الشاعرة من التعبير عن همومها و مشاعرها إلى التعبير عن هموم المجتمع وهذا نتيجة لمخزونها الثقافي والمعرفي مع الموهبة والمهارة في استخدام الصور الشعرية والبناء المحكم للمفردات مع حسن اختيارها للمواضيع وكيفية توظيف المعاني مع توظيف الموروث العربي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى