الثلاثاء ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٩
بقلم جورج سلوم

أحزان الغصن النضير

طريٌّ في مواجهة الصّعاب.. وشعاره كان في الحياة أنْ (لا تكن قاسياً فتُكسَر ولا ليّناً فتُعصَر)..

وما كان قاسياً إلا على نفسه.. يؤدّبها..يشذّبها.. يقلّمها.. يقوّمها.. يحاسبها.. ويقهرها.
ويدقّ على صدره أسفاً لو نسيَ نفسه ، وتمادى وتقسّى قليلاً على الغير.

ويدقّ رأسه بالأرض بدون سجّادة صلاة.. مبكّتاً نفسه.. حتى ليكسر جبهته.. حتى غدا رأسه الكبير كالبيضة التي لم تُسلَق بعد.. نيّئة.. ينشعرُ قشرُها الرقيق ولا يسيل منها الآح.. لكنّها غدت مؤوفة.. ورضٌّ صغير سيُفقِدها ماءَها.. ومن يومها ارتضى لنفسه أن يكون مكسور الرأس.. وكسير الوجدان.

كالغصن النضِر.. طريٌّ.. تلوي عنقَه الغضّ أبسطُ نسمة.. فما بالكَ بالرّياح الهوج إن هبّت عليه.. ستبطحه وتقلعه.. وتذرو تربته ولو كانت موحلة..

جذوره مكشوفة تبين عن سيقانه الملتوية.. تقرضها طفليليات الأرض وقوارضها.. وتترك له جذيراً يشقّ التراب ليقتاتَ فقط.. لذا ما كان ليطول شيئاً ممّا تصبو إليه نفسه.. ولا ليتطاول على أحد

ليس كعودِ الرّمان الطريّ.. فذاك رغماً عن طراوته ستجرحك أشواكه لو حاولتَ ليَّ عنقه.. وليس كقضيب الخيزران طري ٌّ أيضاً وملاسته توحي لك برخاوته الظاهرية.. ولكنْ لا يغرّنك ذلك فهو قويّ ومُصمَت الحشا ولذا استعملوه في التأديب.. ولسعة قضيب الخيزران على ظهرك تلهبُه كالسّوط.. بل وتجلده.

إنه كعود القصب منزوعُ الحشا طريٌّ وأملس.. يغريك بأن تقطعه وتنشّفه بهواء الشمس حتى يجفّ.. وبعدها تثقبه وتحتفظ به كنايٍ حزين والرأسُ منه مطرِقٌ تحت الثقل الذي يحمله
والعنقُ مطأطئٌ وعضلاته ناءت بحمل رأسه.. فارتضى أن يميلَ إلى أدنى.

والجفن في نصفِ إغفاءة.. مُسْدَلٌ على نصفِ بصيرة.. والرؤية محدودٌ مجالُها البصريّ دوناً عمّا يراه الآخرون.. فلا أفقَ لديه.. والشمس في عزّ الظهيرة لا يراها في كبد السماء.. لأنّ ذلك يتطلّب رأساً مرفوعاً وعيوناً لا تعاني رهاب الضياء.. لكنّه يهوى التأمّل فيها لو مالت للمغيب وخفُت نور زيتها الوضّاء

والظَّهر منه محدودبٌ بالرّغم من قصر قامته.. هو هكذا يرى نفسه متوازناً ويجري وراء مركز ثقله فلا يدركه..يركض خلف جزرته وما من عصا يلحقونه بها وكان يسعد بظلّه على الأرض في وقت الغروب.. وكم يبدو كبيراً وأعظم بكثير من حجمه الحقيقيّ.. ولكنّ الظلَّ مهما عظُم وتعاظم فلا ثقل له ولا وزن.. وما ماتت نملة صغيرة من وطء ظلّه الذي يلحقه أنّى مشى وأنّى خطا وصوته –إن حكى – فخافتٌ.. وهامسٌ ومعقودةٌ حباله الصوتية.. متشنّجة.. مبحوحة وإن كانت لا تصرخ إلا في كوابيس الليل.. ويسعل لينظفها من هباب التدخين.. يستنشقه ويزفره فتتصاعد حلقاتُه متشابكة كضبابٍ يحجب الرؤية فقط ولا ينذر بالمطر.. ولا بعاصفةٍ قادمة.. كغبارٍ دواميٍّ يدور حول نفسه يلوّثها فقط.. فينفضه عنه.. ويغتسل من رماله ولكن يبقى الرمل في خياشيمه وبين أضراسه وفي تلافيف أذنيه المعقدة

ولسانه طريٌّ أيضاً – لو حكى – وحلوةٌ كلماته.. منتقاةٌ بعناية ولا تزعج حتى ذبابة طنّانة..
وعضلاته ما تصلّبت يوماً إلا من البرد.. يشنّجها فتؤلمه فيعود ليُرخيها.

وأصابعه التي استسلمت للإرتخاء.. ما انقبضت على مقبض سيف.. ولا شدّت على يد مُصافح.. ولا قرصت جلداً لغريب.. ولا استقامت سبّابته لتهديدٍ ولا لوَعيد.. يخبّئها في جيبٍ قد يكون دافئاً..يسترها فلا تفضح رجفانه المهتزّ

وحتى لو أمسكَتْ تلكم الأصابع الباردة قلماً لتكتب.. يسيل حبره منها طرياً فلا يخرمش صفحاته.. ولا يثقبها.. وتراجع عيناه ما كتب.. ويشطب ويمحو ما يخِزْ.. كي لا يُؤخَذَ عليه مأخذٌ
هو هكذا إذن طريٌّ كغصنٍ نضير..

هو هكذا.. ويرتخي ويتراخى عن حقٍّ مُستحَقّ.. ودينٍ غير مُسترَدّ..

هو دائماً وأبداً على خطأ حيث يصرُّ الآخرون على رأيهم.. ويعتذر لخلافِ الرأي معهم فالقوم من حوله كلّهم على صواب.. ولو كالو له ما يكيلون.. ويسمع ويرى ولا يتكلّم في زحمة الآراء المتناقضة.. ويهزُّ رأسه موافقاً.

أما لو عاد إلى بيته.. واختلى بوجهه بالمرآة فسيفنّد الآراء تفنيداً.. ويضع النقاط على الحروف.. ويشرأبُّ برأسه الذي ملّ الانصياع.. ويسخر من جهلهم.. ثم ينام على وسادة الرِّضا وقد انتقم من كلِّ من واجهَهم في نهاره الثقيل

لا تكن قاسيا فتُكسر.. والكسر عنده صعبٌ تجبيره

كلسه ضعيف – على ما يظنّ - فأظافره المتقصّفة يقضمها حتى لتكاد لا تنتأ.. وإن كانت تدميه لو حكَّ جلده بها.. وأسنانه يخجل من ضحكاتها فيبلعها وتخفيها شفتاه اللتان تبتسمان بارتخاء..
ويلكَ.. لا تختلي بنفسك فتبدو جبّاراً وأنت لست كذلك!

وجبروتك المصطنع سيصطدم بجدران الرّفض التي ارتضيتَ السير حذاءها راضياً مذلولاً
ويلك.. لا تفتح عيونك أكثر ممّا ينبغي كي لا تلتقي بعيونهم.. فتنكسر حدّة نظراتك.
واظِبْ على هشاشتك وبشاشتك وموائِك.. ولا تنبح إلا في بيتك!

سِرْ على الرصيف وعلى الهامش.. مفسحاً الطريق لزحام السيارات المسرعة تنهب الزمن وتنهب كلَّ شيء.. ومسير السلحفاة كثيرٌ عليك يا محدودب الظهر.. وما صرخت السلحفاة يوماً وما عضّت إلا دودةً مريضة قالت لها التهميني فأستريح.. وما افترسَت.. وما شاهدَ أحدٌ أنياباً لها.. ويضحكون علينا بأمثالهم الكاذبة قائلين بأنَّ السلحفاة سبقت أرنباً عدّاءً..قفّازاً..وثّاباً.. فنرضى بأن نبقى سلاحفَ إلى ما شاء الله!

ويعِدوننا بالجنة في العالم الآخر.. فنترك لهم متاع الأرض ينهبونه فلا يشبعون.. ويكذبون قائلين بأننا نخبّئ لكم كنزاً في السماء.. فطوبى لكم أيها الودعاء.. عفيفو النفس والقلب بحيث تعفّ نفوسكم عنّا وعن زلاتنا بحقّكم.. عِفّوا وتعفّفوا أيضاً أيها العافُون والغافِلون والغافُون في جُنيبات الحياة.

وهكذا أطلقوا اسم الأغضان النضرة على الساكتين القانعين والخانعين.. ولكن أين النضارة في وجوهكم الجافة وقد سرقوا مياهها؟.. انتبهوا لألوانكم غير الخضراء وأوراقكم الذابلة.. انتبهوا أيها الأغصان الطرية فلا براعم تحملون.. ولا أزهار ولا تثمرون.. طراوتكم أشبه برخاوة عجوز آيلةٍ للسقوط.. ولكن ذلك الإنذار اعتُبِرَ يومذاك مضلّلاً..

وهكذا ارتاحت نفسه لطراوته.. وغدت الرّخاوة ديدنه.. وعاش مثل الكثير من العيدان الطرية في مجتمعه يغنّون معاً أغنية الريح التي تجعلهم يتمايلون.. ويظنّون أنهم يتراقصون..

لكنّ الحياة لا تُعاش بلا امرأة يا من حُسِبتَ على جنس الرجال!

والمرأة غصنٌ نضيرٌ أيضاً.. هكذا علّموها وذلك ما تربّت عليه وراق له غصن امرأة.. غضٌّ ولا غضاضة من مقاربته.. قريبة منه وتبدو سهلة المنال كأنها من نفس طينته.. رخوةٌ ومن صنف الرخويّات أيضاً.. لكنها قابلت رخاوته بصدودٍ غير مفسّر.. فحايلها وداورَها فتمنّعت.. وتهرّبت.. حتى ضاقت ذرعاً به.. وعيل صبرها فامتعضت وانتفضت.. قالت:

 أحتاج غصناً صلباً أستند عليه ولا تبدو لي مسنداً ولا سنداً.. أنت أطول مني لو استقمْت وانتصبت لكنّك استمرأت الإطراق يا محدودب الظهر..كفاك نحنحة وابتلاعاً للكلمات وهمساً وأنت تلاحقني.. أرني زمجرتك.. أحلُم بمن يقبض عليّ قبضاً.. من يدي.. من عنقي الطريّ.. يخطِفني بلا استئذان.. يضمُّني يغمرني فأستلذّ بطراوتي تحت قسوته.. وأستدفئ بصدره المشعّر الخشن.. أبحث عن وجهه فلا أطاله وأصغُرُ أمام أنفته وشممه وشموخه.. أتمترسُ خلفه كدرعٍ صلب تتكسّر النِّصال عليه.

قالت كلّ ذلك وربّتت على كتفه كطفل.. وقرصته من وجنته بأظافرها الطويلة.. وأحسّ بالدم يتدفّق في وجهه.. لابدّ أنه احمرّ خجلاً ولم ينبس ببنت شفة.

دقّت على ظهره بقبضتها فاستقام وانتصب.. وكم رأى نفسه طويلاً جنيبها!

أمسكَتْه من شاربه وشدّته فأحسَّ بألمٍ جديدٍ عليه.. لكنّ شعيرات شاربه انتصبت كأشواك لا تجرح.. وكم أحسّ بسحنته قد تغيّرت!

لم يبقَ إلا أن تصيح وتزأر وترفع صوتك بوجه الريح.. وكم ستراهم يفرّون من حولك..صِحْ بهم.. قل لهم بملء صوتك.. إنها لي ودونها ستتدحرج الرؤوس.. وكم ستراني صِرْتُ لك وملك يمينك!

قالت وقالت وحضّته وحرّضته حتى غدا كالوحش يهمهم لو مشى.. وللمرة الأولى ما عاد يسأل أين يخطو وأين يدوس.. وللمرة الأولى رأى بصمة حذائه على الأرض مرئيّة كالختم المحفور.
ما أنتِ أيتها الإمرأة وماذا فعلتِ بالغصن النضير؟

كأنكِ أعطيته شحناً لجوادٍ ما عاد أليفاً.. فشخر ونخر في مضمار الحبّ.. وأصبح لصهيله موسيقى مُخيفة تعرفها كلُّ فرسٍ أيقنت بالتزاوج المحتوم وقد أزفت ساعته.. فأدارت له ظهرها بأن اركب أيها الجواد الهائج.. سأتراجع أمام إقدامك.. وأنحني أمام اندفاعك فأمّكنكَ مني.. ولا أمَكّنُ غيرك.. فتعلو مقادِمُك ظهري وما ركبني حصانٌ قبلك كلُّ ذلك وبقي الغصن النّضير ساكناً جامداً كالتمثال ينتظر أن تدبَّ فيه روح النضال.. فامتدّت يدها إلى ما تحت الحزام وتلاعبت بالغصن النضير المتدلّي كالمشنوق حتى انتصبت خيمته.. فتمطط وتطاول.. وأرغى وأزبد.. وكان القذف عندها غير مذموم.. والقدح على الزناد فجّر البارود.. والرمي مسدّدٌ على أسفل ومنتصف الهدف.. والدريئة وإن أصيبت فما نزفت لأن لها سوابق في ميادين الرّمي.. يومها ماعاد الغصن النضير طرياً!

أحبّها وأحبّته..

وهي ما كانت جميلة وما كانت مرغوبة أو مطلوبة وما كانت المرأة التي يتمنّاها.. حتى ليعجبَ من نفسه كيف أنها تعجبه بل وتثيره.. قد يكون السبب أنه ما عاشر قبلها من نساء.. وقد يكون السبب أنها ملكت مفتاح نشوته وفتحت قفله الموصد.. وقد يكون السبب أنَّ غصنه النضير ما قبض عليه غيرها قبلاً.. وما تلاعبت به يدٌ أخرى غير يده.. وما ابتلّت جوانحه إلا منها.. وما ذاق عسيلة إلا عسيلتها.

هل رأيتم الأغصان النضرة عندما تبكي؟

نعم ويحدث ذلك عندما يجرحونها فيسيل منها النسغ دموعاً..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى