أحلام القعيد: صعود الإنسان من جرحه نحو النور
قراءة فلسفية وجمالية في رواية نافذ الرفاعي
مدخل: من السرير إلى الأبد
رواية «أحلام القعيد» ليست مجرّد سردٍ عن رجل مشلول يبحث عن خلاصه؛
إنها رحلة وجودية في معنى الإنسان حين يُحاصره الجسد ويحرّره الحلم.
يُدخلنا الكاتب نافذ الرفاعي منذ الصفحة الأولى في عالمٍ داخليّ يضجّ بالأسئلة الكبرى:
من أين يأتي الضوء؟
هل يخلق الألم معنىً جديدًا للحياة؟
هل يمكن للروح أن تمشي حيث يعجز الجسد؟
في شخصية سليم، القعيد الذي يحلم بتسلّق الجميزة،
يجعل الرفاعي من العجز مدخلًا إلى الوعي،
ومن القيود جسورًا نحو الانعتاق،
ليكتب نصًّا يُعيد للروح العربية اتصالها بأصلها الكونيّ.
الجميزة: محور الكون وسُلّم المعراج
في قلب الرواية تنبت شجرة الجميزة،
ليست كائنًا نباتيًا، بل كائنًا رمزيًا يختزن ذاكرة البشرية:
هي الشجرة التي عرفها المصري القديم، وصعد عندها زكّا في العهد التوراتي،
وهي نفسها التي يختارها سليم ليصعد منها نحو ذاته.
تتحول الجميزة إلى عمود كونيّ (Axis Mundi)،
يربط بين السماء والأرض، بين الألم والأمل.
كل غصن منها درجة في سلّم الوعي،
وكل محاولة تسلّق هي معراج روحيّ لا يقل عمقًا عن معراج الأنبياء والصوفيين.
في مشهد الصعود، لا نرى جسدًا يصارع ثقله فقط،
بل نرى إنسانًا يعيد تعريف الجاذبية،
إنسانًا يرفض أن يكون سجينًا للتراب.
“كان كل غصن يهمس لي: لستَ قعيدًا ما دمتَ تحلم.”
بهذه الجملة (التي تختصر فلسفة الرواية)،
يحوّل الرفاعي المعجزة من الخارج إلى الداخل؛
لم تعد السماء التي تنزل بالعجائب،
بل الإنسان هو من يصعد إليها بحلمه.
فلسفة العجز: الجسد كمختبر للمعنى
يقدّم الرفاعي العجز لا بوصفه مأساة، بل بوصفه لغة للمعرفة.
فمن خلال الجسد المقيّد، يتعرّف الإنسان إلى حدوده،
ومن خلال تلك الحدود يكتشف اللانهائي فيه.
الجسد في الرواية ليس نقيض الروح، بل شريكها في الخلق.
حين يتألم سليم، فإن الألم يصبح لغة ثانية للوعي،
وحين يحلم، يتحول الحلم إلى تأويل جسدي للحياة.
بهذا، تنتمي الرواية إلى تيار يمكن تسميته بـ فلسفة الجسد المتجاوز،
حيث يصبح الضعف مصدر قوة،
ويصبح القيد طريقًا إلى الانفتاح على الوجود.
اللغة ككائن حيّ: السرد الذي يتنفس
لغة «أحلام القعيد» ليست مجرد وسيلة للحكي؛
إنها كائن حيّ يتنفس ببطء، يئنّ، ينهض، ويصعد.
في لحظات، تبدو اللغة مصابة بالشلل ذاته،
وفي لحظات أخرى تتحرّر فجأة كصرخة ميلاد.
الجمل متكسّرة كأنها أنفاس رجلٍ يحاول النهوض،
ثمّ تمتدّ وتتهجّد كصلواتٍ في الفجر.
إنها لغة تنتمي إلى ما بعد الواقعية،
حيث الكلمة ليست وصفًا بل فعلًا،
وحيث اللغة تصبح الجسد الآخر للبطل.
المرأة: ذاكرة الحبّ وماء الحياة
تتجلّى المرأة في الرواية بثنائيّتها العميقة:
عواطف وأمل.
الأولى تمثّل الذاكرة والحنين،
والثانية تمثّل الفعل والمستقبل.
لكن كلاهما يشتركان في وظيفة وجودية:
إنقاذ الرجل من تحوّله إلى فكرة.
فالمرأة هنا ليست تابعة للرجل، بل الطاقة التي تُبقي العالم دافئًا.
عواطف تذكّره بأنّ الحبّ لا يموت،
وأمل تذكّره بأنّ الحياة لا تتوقّف.
بينهما يتأرجح وعي سليم كما يتأرجح جسده على أغصان الجميزة،
باحثًا عن توازنٍ بين الذكرى والخلود.
الزمن الدائري: من الطفولة إلى الخلاص
الزمن في «أحلام القعيد» ليس خطيًا؛
إنه لولبيّ كجذع الجميزة.
يتداخل الماضي بالحاضر، والحلم بالواقع،
حتى يصبح كل مشهد مرآة لما سبقه وما سيأتي بعده.
كلما صعد سليم غصنًا،
استعاد مشهدًا من طفولته، أو من سقطة قديمة، أو من حلم لم يكتمل.
الزمن لا يسير إلى الأمام، بل ينقب في العمق،
كأنّ الرواية لا تُروى بترتيب الأحداث، بل بترتيب الوعي.
البعد الفلسطيني: الجسد بوصفه خريطة وطن
من تحت السرد الرمزي يتسرّب وجع الوطن.
القعيد هنا ليس شخصًا فحسب، بل صورة الفلسطينيّ المقعد في أرضه، المحاصر في وطنه، المنتصر بحلمه.
فكما لا يستطيع سليم مغادرة سريره،
لا يستطيع الفلسطيني مغادرة واقعه،
لكن كليهما يخترع سماءه الخاصة ليحيا.
إنها رواية عن الإنسان حين يصبح وطنًا،
وعن الوطن حين يتجسّد في إنسان.
نحو أدب المقاومة الروحية
في هذه الرواية، يؤسس نافذ الرفاعي لما يمكن أن نسميه أدب المقاومة الروحية:
أدبٌ يقاوم الخوف واليأس، لا الاحتلال فقط.
أدبٌ يحرّر الداخل قبل الخارج،
ويؤمن أن أول خطوة في الثورة تبدأ من الوعي بالذات.
أحلام القعيد ليست دعوة للبكاء على العجز،
بل نشيد نهوضٍ من تحت الركام،
ونصّ يذكّرنا بأنّ الخلاص لا يأتي من الخارج،
بل من الإنسان الذي يحلم رغم كل شيء.
خاتمة: حين يتحوّل الجرح إلى نور
يخرج القارئ من «أحلام القعيد» كما يخرج من تجربة تطهير.
لا يعود الجسد هو ما يهمّ، بل ما أنجزه الوعي بفضله.
لقد كتب الرفاعي رواية تحفر في معنى الإنسان كما لم تُحفر من قبل،
حيث يتحول الألم إلى معرفة،
والقيد إلى وعي،
والجسد إلى لغة من ضوء.
“وحين فتحت عيني، كانت الجميزة قد صارت ضوءًا.”
بهذه الخاتمة، يضع الكاتب الإنسان في مكانه الصحيح:
مخلوق من طينٍ، لكنه يحمل بذرة السماء في قلبه.
«أحلام القعيد» عمل أدبي نادر —
رواية تتجاوز حدود الأدب الفلسطيني لتصبح بيانًا إنسانيًا عالميًا عن إرادة الحياة،
عن الإنسان الذي يصعد من سريره إلى المعنى،
ومن جرحه إلى الخلود.
