الأحد ٢٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩

أحُبُّ الكِبارِ عَيْبٌ؟

سمير محمد أيوب

عشوائياتٌ في الحب – الثالثة

سألَتني مُستغربةً: لِمَ تُغيِّرُ ساحرَتَك،وتشربُ بديلا عن قهوتِك خليطَ أعشاب؟

قلتُ وأنا أحدّقُ في عينيِّ سائلتي: أعاني من بُحَّةٍ مُزعجةٍ في صوتي. فقالت مقاطعة وابتسامتها تتمدد: أما أنا يا صديقي، فإن قلبيَ هو المبحوح.

سيدةٌ شابة في المرحلة الذهبية من عمرها، شعرها الغجري ينادي أصابعَ عاشقٍ مُشاغب، لابتسامتها همسُ الواثقِ وهَمْهماته. لم يأخذ قلبُها مِنَ الشَّيبِ إلا لونَه. أنوثتُها في ثقافتِها، بأفكارها تستفزُّ المثيرَ للجدل. ولا تَكتملُ وشوشاتُها إلا بمحظوظٍ .

سألتها ما بالُ قلبُكِ مَبحوحاً هو الآخر؟.

قالت وهي تتنهد بعمق: آهٍ يا شيخنا من العمرِ في أواخِرِ العُمْر. إنه يمضي بِلا تمهُّلٍ، مَرافِقي ومُرافِقي فيه صمتٌ مُخاتِل.

تَظاهرتُ بالعِبَط وأتْبعتُ سؤاليَ بسؤالٍ: كيف يا سيدتي؟

قالت وهي تُحاذرُ النظرَ في عينيَّ: في كلِّ إنسانٍ تقدَّمَ بهِ العمرُ مِثليَ ولَمْ يتزوج، وفي كلِّ أرملةٍ أو مُطلقةٍ، إنسانُ آخر لا يعرفه جلُّ الناس.على وساداتِ ليلِهم حكاياتٌ، لَوْ قيلت لانتحبَ كثيرون. تنهداتٌ، إبتساماتٌ ودموعٌ، تقولُ بلا تأتاةٍ، أنَّ كثرةً منا يتجمَّلونَ بالتكاذب. تُحاصرُهم غِياباتٌ خرساء لها حضور. بدواخلهم تدورُ حروبٌ، وتنهارُ مدنٌ، تنطفئُ رغباتٌ وأمنياتٌ، يبهتُ بريقُ عيونٍ أضنتها المقاومةُ والمُمانعة، قبل أنْ تَسكنْ بالأدوية لنومٍ مُستعار.

أكمَلَتْ وكلَّ تلاوينِ الوجع تكسو صوتَها وتكتسح صفحات وجهها، وغيمٍ عنيدٍ يُراقصُ مُقلتيها:

يرقدون في الظلام وحيدين. العَتمُ وحده مَنْ يحدثوه بكلِّ ما فيهم. الظلمةُ وحدَها ونِيسُهم وأنيسُهُم، يطالعون اللاشيء، ويُنصتون لضجيجِ أصواتٍ في رؤوسهم، يحفظونها عن ظهر قلب، يُراكضونَها بأقدامٍ مبتورة، والسنةٍ بكماء، وشفاهٍ مزمومة. مع كلِّ صُبحٍ، يُهمِلهم العابرون وهم ماضون. ومع زقزقة أوَّلِ عصفورٍ جافاهُ نومُه، يَدفِنون حَزَنَهم كي لا يُشفق عليهم أحد. ومع أوَّلِ فناجيل قهوتِهم، يحاولون الرقصَ وجِراحَهم مفتوحةً. يا شيخنا، لم يَمُتِ الطينُ فينا بعد. والكلُّ يَركلُنا نحوَ آخر السطر، في مَقبرةٍ تقتلنا بمنتهى الرِّقَةِ والدِّقَة.

كنتُ أحتضنُ رأسيَ بينَ كفيَّ، مُطأطِئاً حُزْناً. رفعتَه لأعرفَ دواعيَ صمتِها المُفاجئ. خجلتُ منْ دمعِها. وتغيَّرَتِ ملامحُ وجهِها. أدرَكَتْ تأثُّري. تنهَّدَ تْ بما يشبه الرجاء: لا تَسلني عنْ شيءٍ. لأني نِيابةً عن كلِّ منْ ذكرتُ منَ النساءِ ومنَ الرجال سأسلُكْ.

وأمَهِّدُ لسؤاليَ، بالتأكيدِ على أنَّ ظاهرَ مُعظمِنا مُنظَّم، تفاصيلنا هادئة، بعض إبتساماتنا مجففة وبعضها مبردة أو مُخلَّلة. لا تشي كثيرا، بمقدار الوجع الذي يضمره ولائُنا، لِمَنْ تعدَّدَت أسبابُ غِياباتهم . بالطبعِ، ونحنُ نأخذُ نَفَساً عميقاً تِلوَ الأخر، نعلمُ علمَ اليقينِ، بأنَّ اللهَ ليس مسؤولا مباشرة، عنْ حُشودِ أوجاعنا العالقة، ولا عنْ ثرثراتِ الظاهرِ منْ حواسِّنا أو ما بَطَنَ منها. فالله لَمْ يُعطِنا شرائعَ، مُخالفةٍ لعقولٍ وقلوبٍ سليمةٍ . جُلُّنا مُقْتنع بأنَّ الأصحَّ أنْ ندَعَ ما ذهبَ يَذْهبْ، فلا يجوز لأحلامنا أنْ تبقى حبيسةَ زمنٍ، أو وَهْمِ الصلاحية، أو فوضى محاجِرِ الموروث، أو وصايةَ ظالمٍ أو جَهول.

يترهل الوقت يا سيدي ويتشقق، والصمت يصفعنا بظلالٍ باردة. ونحن نقتسم بعضاً من أنفسنا مع أنفسنا. رغم تراكم هزائمنا وضعفنا، لا نريد من الحياة أكثرَ مِنّا. كلُّ ما في الأمر، أننا في زوايا عُزلَتِنا، قد اكتشفنا أنَّ بدواخلنا قلوبٌ يقظةٌ عاريةٌ، تَتوقُ لِفرحٍ يُدَثِّرُها ويُزمِّل أرواحَها. تريدُ تبديلَ الألوانِ في حياتِنا، فالحياةُ كما تعلمْ تشكو مِنْ شُحِّ الفُرص.

ولكنَّ الوحدةَ مع الكبرياء يا شيخنا وجعٌ أنيقٌ. ونحنُ لا نريدُ بالقطعِ، شيئاً مُلطَّخاً بالرَّجاء مهما كان. فالرجاءُ وإنْ كانَ للحياةِ وحتى لوْ كان هادئا، لا يُعوَّلُ عَلَيه. لا نريد أنْ نبدوَ كمَنْ غَفَوا على حلُمٍ واستفاقوا على وهمٍ أوعلى كابوس. ونُصرُّ على أنْ لا تكونَ صحوتُنا كصحوةِ أهلِ الكهف، لا الزمانُ زمانُهم ولا الوجوهُ ولا الأرواح.

لا نريدُ في هذه المرحلة الذهبية من العمر، أنْ نبتعدَ كثيرا عنْ أنفُسِنا، ولا أن نُضيِّعَها أيضا. نتمنى تجاوزَ الظالمِ منَ صمتِ وقارِنا، واجتيازِ الموهومِ مِنَ الحدود. جُلُّنا لا يدري يا شيخنا. مُدَّ لنا يدَكَ، فهذا الليلُ قدْ أعْيانا وأضاعَنا.

قلتُ وكثيرُ الوجعِ يتجوَّلُ حائراً بدواخلي : هيَّا بتل إلى صالةِ الطعام، فوقتُ العشاءِ قدْ حان. وتلكَ حكايةٌ طويلة، ستكون إن شاء الله موضوعَ عشوائيتِنا الرابعة القادمة.

سمير محمد أيوب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى