الأحد ٢٤ تموز (يوليو) ٢٠٢٢
بقلم جميلة شحادة

أدب الرسائل، وتعريج على رسائل من القدس وإليها

لا يخفى على أحد أن أدب الرسائل هو فن وجنس أدبي ليس بجديد، وبأن هذا النوع من الأدب فيه الكثير من الجمال ومن المعرفة ومن التوثيق لحقبة زمنية ومنطقة/مناطق جغرافية معينة من خلال بوح كتّاب الرسائل. فكثيرون منا تمتع بقراءة الرسائل المتبادلة بين كبار الأدباء والمشاهير، كتلك التي كانت بين جبران ومي، أو تلك التي كانت بين غسان كنفاني وغادة السمان، أو رسائل كافكا لميلينا، وغيرهم كثُر. وأدب الرسائل لم يقتصر على كتابة الرسائل وتبادلها بين الأدباء والأديبات أو المبدعين والمبدعات والتي اكتوت قلوبهم بنار العشق أو نار الفراق؛ فهناك رسائل غير متبادلة قد كتبها كبار الفلاسفة أو المفكرين أو الأدباء لأحد أبنائهم، أو بناتهم، أو لحاكم أو سلطان، واعتبرت هذه الرسائل فيما بعد نصًا أدبيًا إبداعيا غنيًا بالثقافة والفِكر لما تحتويه من الحِكم والبلاغة وسداد الرأي وغير ذلك. بل أن هناك مَن كتب الرسائل لنفسه، أو لشخصية مُتخيلة، أو لشخصية قد عاشت في الماضي، والهدف من ذلك هو إيصال رسالة معينة، أو فكرة محددة، أو إظهار أمر ما عن طريق كتابته للرسالة، أو ربّما لإظهار فصاحته وقوة وبلاغة لغته.

والرسائل برأيي أمر شخصي ويتضمن الكثير من البوح وربمًا الأسرار، لذا يحتفظ بها أصحابها جيدًا حتى لا يكتشف أمرها الا بعد أن يغادروا هذه الفانية، فيشعر من عثر عليها كأنه عثر على كنز وبخاصة عندما تكون هذه الرسائل ذات قيمة لغوية وإبداعية وفكرية. لذا أنا شخصيًا عبتُ على السمان نشرها لرسائل غسان كنفاني لها، واعتبرت الأمر خيانة من قبلها. كذلك برأيي، إن الرسائل التي يخطط لنشرها مسبقًا، تفقد البوح الصريح، وتفقد العفوية وتفقد التلقائية، ويشعر القارئ لها بتكلف كاتبها والعناء عند كتابتها.

إن كتابة الرسائل وتبادلها بين الأفراد كان أمرًا شائعا وكان له نكهة ورائحة وجمالاً خاصًا لم نعد نشهده في يومنا هذا للأسف مع تطور وسائل التواصل الإلكترونية، فباتت رسائلنا "مشعوطة" كمَثل الطبخة الموضوعة على نار غير هادئة. فأطل علينا الأديب جميل السلحوت هذا العام بكتاب ينشر فيه رسائله التي تبادلها مع ابنة القدس صباح بشير. والحقيقة أنني فوجئت بأن الأستاذ جميل السلحوت قد تبادل الرسائل مع ابنة بلده صباح بشير. فوجئت لأن الأستاذ جميل اعتاد ومنذ أربع سنوات أن يرسل لي على بريدي الخاص رابط بنشر مادة كنت قد نشرتها على صفحتي في الفيس بوك أو أنني نشرتها في موقع الكتروني معين، فيبادر الأستاذ جميل وينشرها في موقع لجريدة معينة دون الرجوع لي. كان يرسل لي فقط الرابط دون مقدمات وبلا صباح أو مسا، فكنت كل مرة أشكره بالعبارة التالية: "لك جزيل شكري أستاذ جميل. دمت ودام عطاؤك". فلا يرد على رسالتي القصيرة هذه، والصحيح أنني كنت سعيدة بعدم رده، لأنني أنا شخصيًا أتجاهل الرد على معظم ما يصلني من الرسائل على الخاص في صفحتي، أو على بريدي الإلكتروني، وهذا ليس لأنني قليلة الذوق، بل لأسباب ليس مهمًا ذكرها هنا، مع العلم أنني أقرأ معظم ما يصلني من رسائل.

كتاب رسائل من القدس وإليها، للأديب جميل السلحوت والاستاذة صباح بشير، والصادر عن مكتبة كلّ شيء، هذا العام، 2022، يقع في 182 صفحة من الحجم المتوسط، ويحتوي على 40 رسالة قد تبادلها المؤلفان فيما بينهما على مدى إحدى عشرة سنة. الصحيح أنني جنيت المتعة والفائدة من قراءتي لهذه الرسائل التي هي، برأيي، بوْح وتوثيق. لقد أعجبت بما جاء في مضامين وفحوى الرسائل، حيث أنها كشفت عن الكثير من الآراء والأفكار التي يحملها المؤلفان إزاء العديد من القضايا التي تؤرق مضاجع أبناء القدس بل وأبناء فلسطين جميعًا.

فعلى الرغم من أن الأستاذ جميل السلحوت كان أكثر جرأة في بوحه عن حياته الشخصية وسيرته الذاتية وكشْف مكنوناته، وهذا برأيي ذكاء منه لأنه قد وثّق جانبًا مهمًا من سيرته دون الحاجة لتخصيص مؤلفًا لفِعل ذلك في هذه المرحلة، كما فعل غيره من الأدباء والكتّاب. فأنا شخصيًا قد عرفت الكثير عن الأستاذ جميل لم أكن أعرفه من قبل؛ إلا أن الكاتبة بشير أظهرت براعتها ومهارتها بطرح القضايا العامة وبردّها على ما يطرحه الكاتب السلحوت برسائله لها من قضايا اجتماعيّة، سياسيّة وإنسانية، لقد تتطرق الكاتبان في رسائلهما الى قضايا تربوية وقضايا تتعلق بالمرأة، وقضايا ثقافية، وقضايا تتعلق بالأدب. غير أن وصف كل من المؤلفين لأماكن فد سافرا اليها كان له الحظ الأوفر في رسائلهما. فالكاتب جميل السلحوت تحدّث عن رحلاته الكثيرة إلى أمريكا، حيث يسكن فيها أفراد من عائلته (ابنه قيس وأثنان من أخوته) وقام بوصف الأماكن فيها ولاسيما شيكاغو وأماكن سياحيّة أخرى مثل شلّالات نياغرا وقد وصف أدق التفاصيل. كذلك وصف حياة الشعب الأمريكي وتطرق الى حياة العربي أو الفلسطيني الذي هاجر الى بلاد العم سام وكيف أن منهم من نجح ومنهم مَن انحدر الى الرذيلة والهاوية. جميل السلحوت في رسائله تطرق أكثر من مرة الى ما أطلق عليه "بثقافة الهبل وتقديس الجهل"، الأمر الذي كشف لي، شخصيًا، عن حمله لفِكر تنويري، رغم أنه عاش في طفولته حياة قاسية، وفي بيئة متخلفة. أما الكاتبة صباح بشير فرغم ما ذكرته أنفًا من أنها أجادت وصف الأماكن ووصف النفس الإنسانية ووصفت مشاعرها حيال عشقها للكتابة الا أنها لم تكشف عن حياتها الشخصية في رسائلها الا الذي أرادت أن تكشف عنه أو ربما الذي استطاعت أن تكشف عنه، فرسائلها، بالرغم من أنني تمتعت بقراءتها وبعمق مضمونها وقوة عباراتها ولغتها إلا أنها تكشف عن أن صاحبتها غير جاهزة بعد للبوح، وهذا حقها، ولا أعرف إذا كانت تعرف أن هذه الرسائل ستنشر.

"رسائل من القدس واليها"، عنوان قد اختاره المؤلفان لكتابهما، وهو عنوان جاذب، وجميل، غير أنه برأيي عنوان لا يدل على مضمون الكتاب. فقد وصف وأسهب المؤلفان بوصف الأماكن التي سافرا إليها مثل: أمريكا، لندن، دبي، أبو ظبي، تونس، حيفا، جورجيا... لكن نصيب القدس في الوصف كان شحيحًا.

وأخيرًا وليس آخرا، مبارك للكاتبيْن جميل السلحوت وصباح بشير على منجزهما الهام هذا، وشكرًا لهما لمشاركتهما قرائهما بما جال في فكرهما حيال قضايا عديدة ومتعددة طرحت بشكل جليّ، وشائق وراقٍ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى